تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
الشرق الأوسط وسُبُل الخروج من الفوضى
 يحاول الباحث الفرنسي «جيل كيبل»، أبرز المتابعين الغربيّين للإسلام المعاصر والحركات الدّينية السّياسيّة، في كتابه(1) تتبّعَ بؤر الفوضى التي نشطت، على مدى الفترة المتراوحة بين سبعينيّات القرن الماضي والعشريّة الرّاهنة، في منطقة شمال إفريقيا والشّرق الأوسط. وضمن مسْحٍ للأحداث، يرصد الانتفاضات والحروب والاغتيالات والمعارك السّياسيّة، وغيرها من الأحداث التي هزّت المنطقة، دون غوصٍ في دوافعها العميقة أو تأمّل في آثارها البعيدة. فقد عرفت البلاد العربيّة وما جاورها تحوّلات لافتة في تلك الفترة، كان لها أثر كبير على مساراتها السّياسيّة وعلى أوضاعها الاجتماعيّة، معتبِرا صاحب الكتاب البترولَ العنصر الجوهري الأوّل في صنع تلك الأحداث.
يُوزّع «جيل كيبل» كتابَه على جملة من الأطوار الزّمنية، ينطلق الطّور الأوّل فيها مع سبعينيّات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت حرب أكتوبر 1973، معتبرا تلك المرحلة بداية انتشار الفوضى في الشّرق، والتي بلغت أوجها مع الطّور الأخير بإعلان ما عُرف بتنظيم «الدّولة الإسلاميّة» سيطرته على مساحة واسعة من الجغرافيا المشرقيّة بين سوريا والعراق بين سنتيْ 2014 و 2017.
في ذلك المناخ الذي خيّم على الشّرق، لم تكن نتائج حرب أكتوبر التي دشّنت بداية الفوضى، إيجابيةً على مستوى السّياسات والأوضاع العربيّة. فقد اصطنعت الدّعاية القوميّة نصرًا عربيّا ضدّ الدّولة العبريّة في حرب 1973، في وقت تمدّد فيه الاحتلال واقتطع أجزاء من دول الأطراف. ولم تفرز تلك الحرب انفراجا في المسار العربي العام، بل فاقمت آثارها من سوء الأوضاع، بتشديد القبضة الأمنيّة وتزايد التّضييق على الحياة السّياسيّة. لم يوفّق العقل العربي، بمؤسّساته التّعليميّة، وبطروحاته الإيديولوجيّة، وبتنظيراته المعرفيّة، في توليد أفق نظري جديد لشعوب تتطلّع إلى تحقيق التّقدم وبلوغ العيش الكريم. وبقيت النّتائج الوخيمة للسّياسات السّابقة متحكّمة بالأقدار المصيريّة للمجتمعات، ما جعل عديد الدّول تدور مكرَهة في فلك التّبعية، وتغرق قسرا في سوء التّنمية دون قدرة على الخروج من ذلك الارتهان.
يَعتَبر «جيل كيبل» المنعرَجات الكبرى التي عرفتها السّياسات العربيّة قد حصلت تحت تأثير النّفط، منذ إشهار الملك الرّاحل فيصل سلاح البترول في 20 أكتوبر 1973 بفعل التّحالف الغربي الفاضح مع إسرائيل، سيّما من جانب الولايات المتّحدة وهولندا بمساعدة جيش الاحتلال في الحرب، وإلى غاية التّدخل الأمريكي إبّان غزو العراق للكويت في عهد صدّام حسين (1990). وكما يبرِز «كيبل»، ساهم سلاح البترول في إنقاذ أنظمة من الانهيار (نظام أنور السّادات ونظام حافظ الأسد) إبّان الحرب العربيّة الإسرائيلية 1973؛ لكنّ البترول كذلك رسّخ تباينات كبرى بين الأقطار العربيّة الرّيعيّة وغير الرّيعيّة، في السّياسة والاقتصاد.
يستعرض «جيل كيبل» جملة من التّباينات، لعلّ أبرزها الصّراع على الإسلام في البلاد العربيّة منذ بروز النّظام النّاصري، الذي سعى نحو تأميم الإسلام على غرار تأميم القنال. خلقت سياسة عبدالناصر تلك، على حدّ توصيف «كيبل»، فوضى في مصر وفي الدّول الوطنيّة العربيّة، التي ما كانت ترى موجبا للانخراط في السّياسات القوميّة أو موالاتها لتحقيق النّهوض والتّنمية. وحصل ردّ فعل تجاه تلك السّياسة في شبه الجزيرة العربيّة، مثّلته العربيّة السّعوديّة، من خلال خلق مؤسّسات بديلة كما يفسّر الكاتب (جاءت عبر إنشاء رابطة العالم الإسلامي في 15 ديسمبر 1962)؛ وفي بلاد المغرب خاض كلّ من بورقيبة في تونس والحسن الثّاني في المغرب سياسات براغماتيّة مع الغرب، عَدّا بموجبها سياسة جمال عبدالناصر سياسة متهوّرة وغير مراعية للإمكانات العربيّة، في ظلّ واقع التّخلف الذي ترزح تحت وطأته أقسام واسعة من المجتمعات.
تشكّلت سياسات دينيّة متضاربة في البلاد العربيّة، زادتها الانقسامات السّياسيّة حدّة. ففي الفترة التي كان فيها جمال عبدالناصر يخوض حربا شعواء لاجتثاث «حركة الإخوان المسلمين» عبر محاكمات شهيرة لقادتها (أبرزها إعدام سيد قطب في 29 أوت/أغسطس 1966)، كانت الصّحافة التّونسيّة، في العهد البورقيبي، تُلقي باللاّئمة على اعتقال عبدالناصر الزّعيم الإخواني ورفاقه، وتطالب بالإفراج الفوري عنهم بوصفهم ضحايا الاعتداد النّاصري والتّعسّف القومي. 
كما مثّلت القضيّة الفلسطينيّة إحدى بؤر الفوضى من منظور «جيل كيبل» في أعقاب حرب أكتوبر 1973. فبعد تراجع الغطاء القومي سلك الفلسطينيّون مسالك شتّى في التّعويل على أنفسهم لإيجاد حلّ لقضيّتهم، جرّبت الفصائل السّياسيّة الفلسطينيّة حينها النّضال المسلّح، وخاضت المعارك السّياسيّة أكان في الدّاخل أم في الخارج. لم يكن الصّراع مع الدّولة العبريّة أمرًا هيّنا على الفلسطيني، كما لم يكن توقيع اتفاقيّة السّلام إنهاء للصّراع. حيث أدّى خوض عمليّة الصّلح مع إسرائيل إلى انقسامات عميقة، لا يزال الفلسطيني يعيش تحت وطأتها بين غزّة ورام اللّه حتّى الراهن.
لا يخفى عن عين متصفّح الكتاب استعادة «جيل كيبل» الرّؤية التّسطيحيّة الغربيّة لقضايا البلاد العربيّة، أنّها بلاد محكومة بالفوضى الدّاخليّة، دون إقرار بأنّ الصّراعات المفروضة التي تعاني منها المنطقة، هي التي كانت غالبا عاملا جوهريّا في خلْقِ الفوضى بالدّاخل. إذ هناك تدخّلات سافرة في البلاد العربيّة وفي منطقة المشرق عامّة، طيلة الحقبة المتابَعة، ساهمت في توليد الفوضى وإشاعتها. فأن تتحوّل الاضطرابات السّياسيّة التي عاشتها منطقة المشرق إلى نتاج مباشر للدّاخل، أمرٌ فيه حيْفٌ في التّقدير السّياسي، وينأى عن الموضوعيّة. مع ذلك يتعيّن ألّا نغفل عن قابِليّة بنية النّظام السّياسي الشّرق أوسطي للاختراق والتّوجيه، وعدم القدرة على صدّ التّدخلات الخارجيّة.
وتبعا لزاوية النّظر لقضايا البلاد العربيّة ومنطقة الشّرق الأوسط، الدّينية السّياسية لدى «جيل كيبل»، فقد هيمنت رؤية «دينَويّة» على قراءة الأحداث أثناء عرض مظاهر الفوضى. ونقصد بالرّؤية «الدينَوية» اختزال الحراك المجتمعي في المنطقة في عامل وحيد ألا وهو العامل الدّيني، في حين ثمّة عوامل أخرى غير ذلك العامل، مثل التّبعيّة الاقتصاديّة، وانتشار التخلّف الاجتماعي، وضعف الحسّ المدني، وتردّي العمليّة السّياسيّة في جملة من الأقطار، وهي من العوامل الأساسيّة التي تقف خلْف الاضطرابات. ومجاراة لتلك النّظرة «الدّينويّة» يُقرّ «جيل كيبل» أنّ بُعيد سقوط جدار برلين، أي منذ العام 1989، الذي شهد أحداثا كبرى في البلاد الإسلاميّة، مِثل فتوى الإمام الخميني ضدّ الكاتب سلمان رشدي مؤلّف كتاب «الآيات الشّيطانيّة»، وانسحاب روسيا من أفغانستان، وإنشاء «جبهة الإنقاذ الإسلاميّة» في الجزائر، ونجاح الانقلاب العسكري في السّودان بقيادة البشير، وتفجّر مسألة الفولار في فرنسا، أُدخِل الإسلام، في تلك الأجواء، معترك الصّراعات الدّوليّة كخَلفٍ للكتلة الاشتراكيّة. وقد كان ذلك الضّغط المسلَّط على البلاد العربيّة والإسلاميّة عاملا حاسما في خلق الاضطرابات بالدّاخل والتّوترات مع الخارج. فلا يمكن تبرئة الغرب من حالات الضّغط القصوى التي عانت منها المنطقة، وهو ما ولّد «ضغائن» في البنية السّياسيّة القاعديّة.
يتابع «كيبل» الأحداثَ السّياسيّةَ ذات الطّابع الأمني والإرهابي في الشّرق الأوسط وفي شمال إفريقيا، ليصوغ منها ملامح «فوضويّة» كما يسمّيها. يستند فيها إلى تجميع ظواهري للحوادث دون تفسير لمجرياتها أو إتيان على مسبّباتها. والجليّ أنّ عرضَ الأحداث وحده لا يكفي لفهم التّاريخ والتّحوّلات، فالعمليّة تقتضي تحليل الوقائع وتركيبها ونقدها نقدا وجيها، وهو ما من شأنه أن ييسّر عرض خلاصة للقارئ تضعه أمام حقيقة مجريات الأمور. ولكن أن يقوم الكاتب بترصيف أفعال الإجرام، وأعمال الإرهاب، مع إضافة الوقائع الأليمة والأزمات المتراكمة، ضمن حيز إقليمي معين، يغدو فيه أهلوه صنّاع أزمتهم، فذلك من شأنه أن يشوِّش النّظر على القارئ ويحول دون الفهم الصّائب للوقائع.
هناك نقيصة أخرى في الكتاب، تتمثّل في افتقاد الأحداث السّياسيّة في المتوسّط والشّرق الأوسط إلى رابط عميق بينها، رغم الطّابع المسْحِيّ للأحداث. فقد غاب من الكتاب تحليل البنى العميقة، وإظهار الأسباب الكامنة وراء حالات الانسداد السّياسي. وسيطرت على صياغة الكتاب ملاحَقة للأحداث وفق التّقليد «الحوْليّاتي» على حساب التعمّق في فهمها أو الإتيان على مسبّباتها وتفسيرها. وهو ما جعل الكتاب بمثابة «الكشكول السّياسي» عن وقائع المتوسّط والشّرق الأوسط، فأحيانا يغرق «جيل كيبل» في تبسيط ظواهر معقَّدة على صلة بالمجتمعات الإسلاميّة، معتمدا في ذلك أسلوبا دعائيّا مبتذلا في العرض، ينأى عن البحث الأكاديمي الجاد، على غرار عرضه للظّاهرة الدّاعشيّة. والحال أنّ فهمَ التّحوّلات الدّينيّة السّياسيّة في البلاد العربيّة ليس استعراضا للأحداث على طريقة عرض الأخبار، بل غوصا في المسبّبات والآثار.
من جانب آخر، يأتي الحديث عن الإسلام السّياسي، الذي يمثّل حقل البحث الرّئيس لدى «جيل كيبل»، ممزوجا بالأحداث الإرهابيّة، بما يجعل القارئ أمام خليط مشوّش ينأى عن المصداقيّة. ففي الكتاب نرصد تراجعا لافتا على مستوى المنهج في فهم ظاهرة الإسلام السّياسي، تعيدنا إلى الأبحاث الأولى، إبّان سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، التي انطلقت بها دراسات الإسلام في الغرب وما رافقها من خلط، حين كانت تتلمّس فهْمَ وقائع التّحوّلات السّياسيّة في المجتمعات الإسلاميّة.
ثمة عناصر أساسيّة في صنع «الفوضى»، إن جارينا «كيبل» في توصيفه للحالة العربيّة والإسلاميّة، تتمثّلُ في الانسداد السّياسي المقصود، والتّغييب القسري لتوجهات سياسيّة ومنعها من المشاركة الحرّة، وهو ما ينطبق على جملة من البلدان؛ لكن ثمّة سببا آخر في صنع «الفوضى» وهو نفي حقّ الوجود والتّواجد في ذلك الفضاء، على غرار طمس حقّ الفلسطيني ودفع أهاليه إلى مشارف الإبادة الممنهَجة، وهو ما خلق تفجّرات فجئيّة باتت شبه دورية في تلك السّاحة.
يسهب «جيل كيبل» في رواية الأحداث عبر الكتاب وفق نسق تصاعدي يصل إلى الفترة الرّاهنة، ولا يولّي في ذلك الجوانبَ الفكريّةَ أيّة عناية، وهو ما يطرح تساؤلا بشأن معنى عرْض الأحداث دون الولوج في غور الظّواهر. صحيح يمرّ القارئ بالحالة التّونسيّة أو الحالة اللّيبيّة أو المصريّة أو غيرها إبّان موجة الرّبيع العربي وما بعده؛ ولكن لا يجد غوصا في الأسباب أو نقاشا للمآلات والمصائر، حيث يطغى الطّابع الوصفي الحوْلِيّاتي على الكتاب بشكل واسع. والحال أنّ فشلَ تجارب ونجاح أخرى ناتجٌ عن أسباب بنيويّة. ففي الوقت الذي استند فيه التّحوّل في تونس إلى طبقة وسطى واسعة، ذات تكوين تعليمي جيّد ومتعدّد المشارب، افتقدت معظم بلدان الرّبيع العربي إلى ذلك، وهو ما جعل التّعثّر سريعا وأعجزَ قوى التّغيير عن مواصلة التّحوّل الهادئ. 
فلا تنبني التّحوّلات الإيجابيّة على الفراغ، وإنّما تستند إلى خلفيّة داعمة يمثّلها جيش من التّكنوقراط، وهو ما صنع الفارق بين تونس والجارة ليبيا على سبيل المثال، حيث تحوّلت دولة مثل ليبيا وبسرعة فائقة من دولة مارقة إلى دولة تنتفي فيها الضّوابط. هنا تتلخّص خصائص «الاستثناء التّونسي»، كما يقول «كيبل»، وهو في الواقع سياق تشكّلَ منذ القرن التّاسع عشر، وخلّف بنية مؤسّساتيّة صلبة.
كما يعتبر «جيل كيبل» أنّ الدّيمقراطية النّاشئة في تونس تبقى امتحانا مهمّا لاختبار الأحزاب القائمة على أساس إيديولوجي. فقد أثبتت السّاحة التّونسيّة أنّ الولاء للأحزاب أكانت يساريّة أم وطنيّة أم ليبراليّة أم إسلاميّة متحوّل، فحين توضَع الأحزاب على المحكّ تكتشف بالفعل إمكانيّاتها وقدراتها الحقيقيّة بعيدا عن الضّجيج الإعلامي الذي قد يلفّها.
ولذا فالفوضى التي تعيشها بعض البلدان هي نتاج عدم تلبية المطالب المادّية للنّاس، والتي سرعان ما تنزلق نحو صراعات ذات طابع إثني ومذهبي، وهو ما يَبرز جليّا في الحالة العراقيّة الرّاهنة. فالوضع الاجتماعي البائس يشترك فيه السّنّي والشّيعي والكردي والعربي على حدّ سواء، بَيْدَ أنّ الخروج من ذلك المأزق غالبا ما يسلك قنوات مغترِبة، دينيّة أو عرقيّة بحثا عن حلول وهميّة، وهي من المزالق التي يعاني منها التّغيير في البلاد العربيّة.
في استشراف لأوضاع البلاد العربيّة ومنطقة الشّرق الأوسط، ينتهي «جيل كيبل» إلى أنّ غياب اتفاق جدّي بين روسيا والأطراف الغربيّة، بوصفهما الضّامنين لإخراج المنطقة من الفوضى، من شأنه أن يبقي صنع السّلام بعيدا. فعبر تلك التّسوية يمكن الحديث عن اندماج المنطقة في النّظام العالمي والمحافَظة على أمن شعوبها.
الهوامش
(1) الخروج من الفوضى.. أزمات المتوسّط والشرق الأوسط. نشر: رافائيللو كورتينا (ميلانو-إيطاليا) ‹باللغة الإيطالية›.سنة 2020 - عدد الصفحات: 416 ص.