حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
السّياسة والشّعبويّة أو سيزيفية البوبولوكراسيا في السّياسة المعاصرة
 تعد ّالسّياسة بما هي تدبير للشّأن العام إحدى أهم الظّواهر التي ميّزت الإنسان عن غيره، إلى درجة جعلت أرسطو يقول بأنّه حيوان سياسي بطبعه. ولاقترانها بالفعل الإنساني، نجد السّياسة تفعل في الزّمن أو التّاريخ فعلا ملولبا، مرّة إلى انحدار وأخرى إلى صعود، وثالثة إلى استقرار. وعموما فإنّ التّطوّر لم يسر أبدا في خطّ تقدّمي مستمر ولن يسير، إذ نجد مراحل تاريخيّة تصاب فيها السّياسة نتيجة الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ممّا يؤدّي إلى صعود حركات اجتماعيّة تتبنّاها تيّارات سياسيّة. وفي الشّعبويّة نموذج حيّ على ذلك، إذ لعبت النّزعة الفاشيّة والنّازيّة، والتي تبنّت الشّعبويّة ممارسة وخطابا، دورا هامّا في إيقاف التّطوّر التّاريخي للفعل السّياسي لما ألحقت به ممارستها من نتائج سلبيّة على المستويات المختلفة.
يمكن تعريف الشّعبويّة بكونها: لغة، فالشّين والعين والباء لها أصل واحد ترجع إليه الفروع كلّها، حسب معجم لسان العرب(1)، وهو يشمل معنى الجمع والتّفريق والإصلاح والفساد. فالشّعب هو الصّلاح، ومنه يقال «وشعب صغير من شعب كبير»، أي صلاح قليل خير من فساد كثير. وشعب الإيمان، أي فروع الإيمان. والشّعبويّة (صيغة تبعيض)، سمّيت احتقارا بذلك لأنّها تدفع عن كلّ فضيلة، وتلحق بها كلّ رذيلة، وتغلو في القول وتسرف في الذّم. أمّا اصطلاحيّا فهي إمّا منتسبة للشّعبي المتميّز بالابتذال والسّذاجة إلى حدّ السّطحيّة (مفهوم ناعم) أو رديف للثّورة والنّضاليّة ضدّ كلّ أشكال القهر والاستبداد (مفهوم عنيف).
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة ظاهرة الشّعبويّة (خطابا وممارسة) وذلك من خلال النبش في أنواع الخطاب التي تقوم عليه مع ذكر مرتكزاتها (الجزء الأول)، ومن معرفة انعكاساتها على السّياسة من خلال ظواهرها (الجزء الثّاني)
الجزء الأول: مقومات السّياسة الشّعبويّة
تقوم السّياسة الشّعبويّة على مجموعة من المقومات؛ وتنقسم إلى مقومات خطابيّة، وذلك عبر تعدّد أنواع الخطاب الشّعبوي (العنصر الأول) ومقومات ممارستيّة وذلك عبر تعدّد مرتكزات الممارسة الشّعبويّة (العنصر الثّاني)، وهو ما يضفي عليها نوعا من الخصوصيّة، من ذلك تشجيعها للنّزعات القوميّة من جهة وتصاعد وزن مسألة الهويّة وازدياد صراع الهويّات الإيديوثقافيّة.
العنصر الأول: تعدّد أنواع الخطاب الشّعبوي
تكون المفاهيم السّياسيّة مفاهيم مفتوحة، إذ أنّها لا تفهم إلاّ من داخل المجال التّداولي الخاصّ بها، إذ يكون للتّاريخ وأحداثه الدّور الأساسي في بلورته، وبذلك فإنّ الخطاب الشّعبوي هو خطاب يوظّف دلالات خاصّة ويتميّز بطابعه الانحيازي تجاه الشّعب ضدّ النّخب. وبالرّغم من أنّ الشّعبويّة ظاهرة مشتركة بين التّيارات السّياسيّة المختلفة (اليمين واليسار)، إلاّ أنّ الخطاب الشّعبوي يمكن تصنيفه إلى نوعين أساسيّين؛
* خطاب التّأسيس: وهو خطاب في شكله الاحتجاجي، وقد نظّر له الفيلسوف «إرنستو لاكلو» من خلال جملة من الضّروريّات التّالية؛ ضرورة اعتماد الفضاء الاجتماعي بوصفه فضاءً خطابيّا، وضرورة الاعتراف بأنّ الصّراع ملازم لكلّ المجتمعات، وضرورة اعتماد الهويّة الاجتماعيّة بوصفها هويّة خطابيّة، وأخيرا ضرورة الصّراع الاجتماعي المؤدّي إلى الهيمنة(2).
* خطاب النّقد: وهو خطاب في شكله النّقدي، وقد نظّر له الفيلسوف «جاك رانسيير» من خلال جملة من السّمات؛ الخطاب موجّه مباشرة إلى الشّعب، ونقد التّمثيل السّياسي. والتّأكيد على أنّ ما يهمّ الحكّام وممثّليهم هي المصلحة الخاصّة، وأخيرا الاعتماد على تصوّر منغلق للهويّة، من أجل مناهضة الآخر(3).
العنصر الثاني: تعدّد مرتكزات الممارسة الشّعبويّة
أصبحت الشّعبويّة ظاهرة سياسيّة تقوم على منطق مضاد للآخر بوصفه شريك في الوطن، وذلك ذو بعد وطني (مضادّ للدّيمقراطيّة مثلا)، أو مضادّ للآخر بوصفه شريك في الإنسانيّة وذلك ذو بعد عالمي (مضادّ للهجرة مثلا)، وتتعدّد مرتكزات الشّعبويّة وأهمّها(4):
- يمكن للشّعبويّة أن تكون يمينيّة أو يساريّة، إذ تقوم على نوع محدّد من الأصوليّة الفكريّة.
- يمكن للشّعبويّة أن تكون جماهيريّة، فتتميّز بشعبيتها ويقتات خطابها على عناصر سورياليّة.
- الإيمان بوحدة الشّعب بوصفه أمّة ترتكز على أسس دينيّة أو إثنيّة ولها مصالح مشتركة.
- لا تعترف الشّعبويّة بالاختلافات والتّناقضات الاقتصاديّة والاجتماعيّة داخل الشّعب بوصفه أمّة، وذلك انطلاقا من وحدة المصلحة العليا السّرمديّة لها ما جعلها تعلي من خطاب المؤامرة.
-  معاداة المؤسّسات السّياسيّة والنّخب القائمة عليها على أساس أوليغارشي.
- معاداة العولمة لكونها تجسيدا لمصالح النّخب الحاكمة سواء نخبة الإرادة أو نخبة القدرة. 
تتميّز الشّعبويّة اليمينيّة بكونها قوميّة تدعو إلى نبذ الآخر، وتستند الشّعبويّة اليساريّة إلى الزّعامة في نمط ديماغوجي. نظريّا يمكن القول إنّ النّوعين مختلفان يستحيل التّعايش فيما بينهما، غير أنّ الواقع بيّن امكانيّة التّعايش في البلد نفسه، ولكن باستنزاف كثير من الجهد وكثير من الزّمن (النّهضة ونداء تونس)، وقد تدخل هذه الشّعبويّات في حالة من العنف المتبادل أو في صراعات (ائتلاف الكرامة والدّستوري الحرّ)، وقد تتحوّل هذه الصّراعات إلى حرب ودمار.
الجزء الثّاني: انعكاسات السّياسة الشّعبويّة
تنعكس السّياسة الشّعبويّة على السّياسة؛ فتكون آثارها منقسمة إلى ظواهر شعبويّة (العنصر الأوّل)، وتتعدّد الآثار السّلبيّة للسّياسة الشّعبويّة (العنصر الثّاني) والتي قد تضرّ بالدّيمقراطيّة خصوصا إذا كان صعود التّيار الشّعبوي في فترة انتقال ديمقراطي أو في ديمقراطيّة ناشئة.
العنصر الأول: ظواهر الشّعبويّة 
مع ظهور الحركات التّحرّريّة ونشوء الدّول القطريّة في إطار صعود الإيديولوجيّات المتطرّفة في سياق التّطورات التّاريخيّة برزت الشّعبويّة في سياق نتائج الحروب، وقد ساعد على تعاظمها الظّروف الاجتماعيّة التي أفرزها التّصنيع والانتشار الاقتصادي مع ما رافق ذلك من انحطاط السّياسيين في ممارستهم للفعل السّياسي، وقد ظهرت الشّعبويّة بمظاهر ذات أبعاد مختلفة منها:
- بعد اجتماعي: التّصرّفات الاجتماعيّة التي تحطّ من شأن الغريب، من أعمال عنصريّة سواء على أساس الدّين أو العرق أو اللّغة أو غير ذلك.
- بعد سياسي: التّصرّفات السّياسيّة التي تفرّق بين النّاس، فتعطي امتيازات لفئة دون أخرى، فتمنع من بلوغ المناصب السّياديّة.
- بعد اقتصادي: التّمييز الاقتصادي عبر اقتصار فئة دون أخرى على التّوزيع العادل للثّروة، وغالبا ما تكون الفئة من أصيلي الرّقعة الجغرافيّة.
يقوم البرنامج السّياسي والاقتصادي للتّيار السّياسي الشّعبوي على أرضيّة تعزّز قيم التّفرقة ممّا ينجرّ عنها الفتنة بالمنطق القرآني، إذ تعزّز مصلحة المواطن، أو من خلال السّعي إلى إعادة توزيع الثّروة لاكتساب شعبيّة وهميّة، دون النّظر إلى الآثار المنجرّة على البلد سياسيّا مثل التّمييز، أو اقتصاديّا مثل التّضخّم والدّيون، أو اجتماعيّا مثل التّفرقة والتّصدّع.
العنصر الثّاني: الآثار السّلبيّة للشّعبويّة
يكمن خطر الشّعبويّة في ممارسة الفعل السّياسي في مغازلتها للغرائز الفرديّة بحيث يكون خطابها وجداني عاطفي، ويمكن أن نقاربها من خلال زاويتين (5): 
* من زاوية السّلطة: تقوم التّيارات الشّعبويّة على التّعامل مع السّلطة على أنّها نداء مباشر من الشّعب لتسلّم السّلطات السّياسيّة والإداريّة، ومن نتائجه أنّها لا تأخذ التّوجيهات من الفرقاء السّياسيّين بل تحاول استحداث منظومة سياسيّة أخرى تبدو هلاميّة ليس لها أيّ أثر فعلي على أرض الواقع، ما قد يترتّب عنه عديد الاضطرابات السّياسيّة وما يخلف ذلك من نتائج كارثيّة على المستوى الاقتصادي ومن ثمّ الاجتماعي.
* من زاوية الشّعب: يمكن أن تبتكر الحركات الشّعبويّة فاعلا يكون الآخر المختلف عن الأنا والذي تكون الخطابات الموجهة مقتصرة على تأجيج مشاعر الانتماء بالأنا في صدام مع الآخر.
تدخل الشّعبويّة انقساما حادّا داخل المجتمع ما يؤدّي بالضّرورة إلى إضعاف الدّيمقراطيّة التّمثيليّة حدّ الهشاشة، ولا تكتفي بذلك بل تتجاوزه إلى حدّ الإضعاف بالتّعدديّة اللّيبيراليّة، وخاصّة حين يقوم الخطاب الشّعبوي على منطق المؤامرة، وتعدّ الفاشيّة والنّازيّة التي ظهرت قبيل الحرب العالميّة خير أنموذج لما قد تنجر عن ممارسة الشّعبويّة من كوارث وآفات تضرّ بالبنية الهيكليّة والوظيفيّة للدّولة من جهة وتضرّ بالعلاقات الدّوليّة من جهة أخرى.
لا شكّ أنّ أزمات الدّيمقراطيّة، وخاصّة النّاشئة منها، تزداد تعقّدا بسبب صعود التّيارات الشّعبويّة، التي تمثّل ردّة فعل على أوضاع يعمّ فيها الخوف الجماعي، وتتغذّى من كلّ ما هو شعبي في مستواه السّاذج والمبتذل، وهو ما يجعلها وجها للفكر الاستبدادي حتّى وإن أتى من خلال نتائج انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة.
الهوامش
(1) نشر دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1883، المجلد الأول، ص403-497
(2) راجع كتاب «العقل الشّعبوي» للفيلسوف الأرجنتيني أرنستو لاكلو.
(3) راجع كتاب «سيكولوجيا الجماهير» لغوستاف لوبون.
(4) للمزيد من الاطلاع على الموضوع راجع الموقع التالي: http://wieviorka.hypothese.org
(5) الزين (عبد الفتاح)، الشّعبوية وظواهرها في المجتمع والدّولة، منشورات مجلة التفاهم، عدد 65.