الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 161
 عندما يضطر مريض إلى إجراء عمليّة استئصال ورم خبيث من جسمه، يُحتفظ به في العناية المركّزة إلى حين، ثم يدخل في فترة ما بعد العمليّة وهي فترة صعبة على المريض وعلى من حوله من أهل وأحباب، لأنّه سيكون فيها ضعيف المناعة، تهدّده المخاطر من كلّ جانب، فقد يُصاب جرحه بتعفّن أو يصعب على الجسم تحمّل الآلام، فينهار المريض ويدخل في غيبوبة جديدة قد تقصر أو تطول، وقد يُصاب بمرض جانبيّ لم يكن موجودا لديه من قبل. ومن أهمّ أسباب الشّفاء، وجود طبيب يراقبه باستمرار، وممرض ينفّذ أوامر الطّبيب بدقّة، ويوفّر للمريض العناية التي يستحق؛ ويجب على أهل المريض وأقربائه أن يصبروا، وأن تتكتّل جهودهم لتوفير الظّروف الصّحيّة الملائمة للمريض والسّهر على خدمته واحترام أوقات تمكينه من الدّواء. فإذا توفّرت كلّ هذه الأسباب، فإنّ المريض يشفى ويتعافى، ويعود بعد ذلك صحيحا قويّ البنيان، قادرا على العطاء، وقد تخلّص نهائيّا من الورم الخبيث الذي كان يعيقه عن العمل.
كذلك الوطن، مثله مثل المريض، تخلّص من ورم خبيث كان جاثما على صدره يعدّ عليه أنفاسه، حوّل حياة أبنائه إلى شقاء وخوف متلازمين. فقد تخلّص من ورم الدكتاتوريّة بعد جهد جهيد وثورة مات فيها من مات، وجُرح فيها من جرح، واضطربت على إثرها الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة أيّما اضطراب، ولهذا كان لابدّ من فترة من الزّمن -هي صعبة بطبيعتها- يبقى فيها الوطن عليلا، ضعيف المناعة، باحثا عن الشّفاء. فكيف يتصوّر البعض أو يريد أن يسوّق فكرة أن البلد قادر خلال أعوام قليلة على تجاوز ما حدث ويحلّ جميع المشاكل التي كانت سببا في اندلاع الثورة ويتجاوز جميع الصعوبات فيتحقق للشباب ما ثار من أجله «الشغل والكرامة » ويُقضى على الفساد ويعمّ الأمن  والأمان ويزدهر الاقتصاد وتبنى مؤسسات الدولة على أساس الولاء للوطن واستقلالية تامّة عن الأشخاص والأحزاب؟ 
إن ما تعيشه بلادنا اليوم أمر عادي وحتمي في بلد تخلّص من الدكتاتور ولم يتخلّص من المنظومة الدكتاتورية التي تتحكم في مفاصل الدّولة، وليس من السّهل تحقيق انتقال ديمقراطيّ حقيقيّ من دون أن تعيش البلاد بعض الأزمات نتيجة اضطرابٍ في آداء قوى الثّورة وعدم التّنسيق بينها بلغ حدّ التناحر والتّصادم من جهة، وصمود القوى المعادية للتّغيير وسعيها المتواصل لإفشال كلّ عملية تهدف إلى الإصلاح من جهة أخرى . 
فالوطن كالمريض في حاجة إلى الوقت ليشفى، وعندما يتعدّى فترة ما بعد العمليّة بنجاح، ويلتئم الجرح، فإنّه سيصبح معافى وأقوى من ذي قبل، ولكن هل وفّرنا للوطن الطّبيبَ الجيّد والممرضَ الذي يتقن عمله لكي يشفى كما يشفى المريض؟ وهل كنّا يدا واحدة متعاونين كالعائلة وأهل المريض، ساهرين على رعايته، آخذين كلّ الاحتياطات والإجراءات لتوفير أسباب الشّفاء العاجل والتامّ؟
كلاّ، فما شهدناه خلال السّنوات الفارطة وما نشهده اليوم من ممارسات لا ديمقراطيّة، وما نعيشه من تصادم ومن غياب للحوار، وما نراه من عدم اكتراث جزء كبير من الطّبقة السّياسيّة للصّعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمّر بها البلاد، ومن مخاطر الإرهاب وتفشّى ظواهر الفساد الفردي والجماعي، وغياب عقد اجتماعي يجعل مصلحة تونس فوق كل اعتبار، ما هو إلاّ دليل على سوء اختيارنا للطّبيب، فلم يكن لدى الطّبيب الذي اخترناه الخبرة الكافية لعلاج مثل هذه الحالات ولم يكن الممرّض في المستوى المطلوب، بل كان معاديا للطّبيب، فإذا به يمنع الدّواء عن المريض، ليس كرها للمريض، بل نكاية بالطّبيب. ولم نهيئ الإطار النّظيف، فتكالبت الجراثيم على الجسم العليل، من داخل غرفة الإنعاش ومن خارجها، فتعفّن الجرح ولم يندمل. 
عشرية كاملة لم يسلك فيها هذا الوطن طريق الشّفاء، ولم يعرف فيها سبيل العافية، وفي كلّ مرّة يتمّ فيها تغيير الطبيب تسوء حالته أكثر، ويزداد الجرح تعفّنا، ويستمر فيها النزيف. فهل بقي شيء من الأمل ليتعافى هذا الوطن؟ لست متشائما - لحدّ الآن على الأقل- فمازال الأمل قائما مادام هناك من يعشق هذا الوطن ويحمل همّه، فرّبما يخرج من صلبه الطبيب المناسب... من يدري!!!