حوارات

بقلم
فيصل العش
مع الدكتور جميل حمداوي (الجزء الثالث)
 (20)
لو تعطينا فكرة عن كتابك (النّظريّة الإسلاميّة في الأدب والنّقد)، وماذا تقصد بالنّظريّة الإسلاميّة؟
يتناول الكتاب النّظريّة الإسلاميّة في مجال الأدب والنّقد بالدّرس والبحث، من خلال التّعريف بهذه النّظريّة  التي تركّز على الأدب وفق الرّؤية الإسلاميّة قرآنا وسنّة، وتحديد سياقها التّاريخي والمرجعي، وتبيان مرتكزاتها النّظريّة والتّطبيقيّة، ورصد مجالات هذه النّظريّة التي تتمثّل في: الشّعر، والسّرديّات، والنّقد، والمسرح، وأدب الأطفال. ومن جهة أخرى، يستعرض مجموعة من الانتقادات الموجّهة إلى النّظريّة الإسلاميّة في مجال الأدب بصفة عامّة، والنّقد الأدبي بصفة خاصّة، ويقدّم مجموعة من الرّدود لتوضيح حقيقة هذه النّظريّة نقدا، وإبداعا، ورؤية، ومنهجا. 
وقد ظهرت، في عالمنا العربي والإسلامي، مع سنوات الثّمانين من القرن العشرين، مجموعة من النّظريّات المسرحيّة الدّاعية إلى مسرح إسلامي بديل  مع كلّ من : عماد الدّين خليل، ونجيب الكيلاني، وحكمت صالح، ومحمد عزيزة، وعمر محمد الطالب، وجميل حمداوي...
والهدف من هذا المسرح هو تحرير الإنسان المسلم من العبثيّة والفوضى والعصيان والحيرة والعزلة، وتطهيره ذهنيّا، ووجدانيّا، وأخلاقيّا، وحضاريّا. ومن ثمّ، يعترف الباحث العراقي عماد الدّين خليل أنّ المسرح، قبل كلّ شيء، هو فنّ جميل، مركب، وشامل، وأب الفنون، يمكن الاستعانة به للتّعبير عن مشاكلنا وقضايانا الذّاتيّة والموضوعيّة والحضاريّة، ويمكن أن يتحوّل إلى أداة للتّهذيب أو التّعليم أو التّوجيه أو الإرشاد من جهة، أو يصبح أداة للاحتجاج والإدانة وتغيير الواقع من جهة أخرى.
ويرى عماد الدين خليل أنّه من الممكن الاستفادة من الأشكال والتّيارات والمدارس المسرحيّة العالميّة. بيد أنّ المضامين لابدّ أن تصاغ وفق الرّؤية الإسلاميّة، بعيدا عن الإيديولوجيّات المادّية، وفلسفات الشّك والإلحاد والعبث والفوضى والانعزاليّة. ولابدّ للفنّان المسلم أن يختار مضامين هادفة وبنّاءة، في إطار الالتزام الإسلامي، فيصوغها في أشكال فنّية وقوالب جماليّة عالميّة، من خلال الاستفادة من الآليّات السّينوغرافيّة والإمكانيّات المادّية والآليّة التي تستعمل في جميع مسارح العالم قاطبة. 
وعليه، لا يمكن الحديث - فعلا - عن مسرح إسلامي حقيقي، إلاّ إذا كان مسرحا أصيلا نابعا من التّربة العربيّة، وعقيدة الإنسان المسلم، إن بنية، وإن مضمونا، وإن رؤية.
ومن جهة أخرى، يثبت الكتاب أنّ القصيدة الإسلاميّة المعاصرة تحمل رؤية إسلاميّة حضاريّة إنسانيّة، وقد انطلقت، في مسارها بالمغرب- على سبيل المثال - منذ بداية السّبعينيّات من القرن العشرين، لتبلغ أوجها في العقود الموالية، بعد أن التحق كثير من الشّعراء بالحركة الشّعريّة الإسلاميّة الوجديّة التي كان يمثلها الثالوث: حسن الأمراني، ومحمد علي الرّباوي، والمرحوم محمد بنعمارة.
ومن النّاحية التّطبيقيّة، يطرح المبدع المغربي الحسين زروق، في مجموعتيه القصصيتين، قضيّة الحرب والجهاد، من خلال رؤية قوميّة إسلاميّة، يدافع من خلالها عن الأمّة العربيّة الإسلاميّة بصفة عامّة، والواقع العربي بصفة خاصّة، وينبذ العدوان الأجنبي، ويكره الظّلم، والاحتلال، والتّسلّط.
أما  وفاء الحمري، فقد غلّبت، في مجموعتها القصصيّة، الهمّين الواقعي والقومي على حساب الهمّ الأسري والذّاتي. ويعني هذا أن الكاتبة لم تعط لمشاكل الذات الأنثويّة إلاّ حيّزا محدودا وضئيلا، بالتّشديد على بعض المشاكل البارزة في الأسرة المغربيّة، كعمل المرأة الموظّفة، واحتداد الصّراع اليومي بين الزّوجين، وتفكّك الأسرة، وتشرّد الأبناء، ومشكل الفراق والطّلاق... وتمتاز مجموعة وفاء الحمري بالرّؤية الإسلاميّة المتّزنة القائمة على الطّرح الواقعي، والاجتماعي، والقومي، والإنساني. 
وقد انتقلت الشّاعرة المغربيّة فاطمة عبد الحقّ من رؤية شعريّة وجوديّة عابثة إلى رؤية شعريّة دينيّة إسلاميّة، قوامها الالتزام بمبدأ الإسلاميّة، والدّفاع عن الحقّ، وبناء الإنسان الفاضل. فضلا عن تنقية معجمها الشّعري دينيّا، والابتعاد عن الغموض والإبهام الأدونيسي في استخدام الصّور، واللجوء إلى تشكيل صور شعريّة واضحة، هذبتها الصّياغة الدينية، والاقتراب من صدق الواقع والذّات، وتوظيف التّناص. 
(21)
لديك اهتمام أيضا بموضوع التّصوّف الذي اشتغلت عليه ولديك فيه عدّة كتابات، ككتاب (التّسامح الصّوفي والطّرقي بالمغرب)، ما هو سرّ هذا الاهتمام؟ هل الدّكتور جميل صوفي النّزعة؟
كتبت كثيرا من الدّراسات في مجال التّصوّف والزّهد الإسلاميّين، على أساس أنّ سعادة الإنسان تقوم على سعادة الجسد، وسعادة العقل، وسعادة الرّوح. بمعنى أنّه لايمكن أن يظلّ الإنسان بجسده وعقله، دون أن يهتمّ بالرّوح والحدس الوجداني والعرفاني. لذلك، فأنا متديّن، وأدخل في خلوات صوفيّة فرديّة، أتحاور مع اللّه، فأفهمه ويفهمني، أحدّثه فيحدّثني. ومن ثمّ، إذا كان الشّرق بلد الأنبياء والرّسل، فالمغرب بلد الأولياء والصّالحين ورجال التّصوّف والمناقب.
(22)
لكنّك خصّصت جهدا للبحث في العقلانيّة والكتابة عنها، ولديك كتاب ضمن سلسلة كتاب الإصلاح بعنوان (الحواريّة العقلانيّة بين يورغين هابرماس وطه عبد الرّحمان ).  هل من كلمة في هذا الموضوع؟ 
تعدّ الحواريّة العقلانيّة حوارية بوليفونيّة تعدّدية بامتياز، تقوم على العقل والمنطق، والاحتكام إلى أخلاقيّات الحوار، والاعتماد على التّواصل التّفاعلي التّوافقي من أجل تحقيق الفهم والتّفاهم، في ضوء علم الحوار، أوفقه الحوار.
ويُعد يورغين هابرماس من روّاد الحواريّة العقلانيّة ومن المؤسّسين الفعليين للعقل التّواصلي التّفاعلي.ويعني هذا أنّ ما هو مهمّ في منظور هابرماس أن يعتمد التّحاور على العقل الهادف، واستحضار البعد التّواصلي للفعل العقلاني، والدّفاع عن الدّيمقراطية المجاليّة، واستعمال الحوار العقلاني في النّقاش والجدال والمناظرات السّياسيّة، بشرط أن يحتكم المحاور إلى الحجاج الاستدلالي البرهاني، وتمثّل الأخلاق الكونيّة، والتّوافق حول القرارات السّياسيّة العامّة. 
 ومن جهة أخرى، يُعدّ  طه عبد الرحمن، في مناقشته لمبدأ الحوار، بكونه فيلسوف الحوار بامتياز. ينبذ العنف والكراهيّة والتّطرّف والإرهاب.ويدعو إلى الحوار والتّحاور والتّعايش وتبادل وجهات النّظر المخالفة في جو حواري عقلاني. وأكثر من هذا يربط طه عبد الرحمن الممارسة الحواريّة بالأخلاق والقيم الدّينيّة الإسلاميّة أكثر مّما يربطها بالأخلاقيّات الكونيّة بمفهوم كانط ويورغين هابرماس.
وإذا كان هابرماس يقيّد الحواريّة بالتّواصل التّداولي، فإنّ طه عبد الرحمن يقيّدها بالمنطق الاستدلالي الحواري. ويعني هذا أنّ مرجعية هابرماس هي اللّسانيّات التّداوليّة ونظريّة الأفعال كما عند سورل (Searle) وأوستين(Austin).بينما مرجعيّة طه عبد الرحمن هي مرجعيّة منطقيّة وفلسفيّة ودينيّة بامتياز. وإذا كانت منطلقات هابرماس فلسفيّة وسيويولوجيّة ومسيحيّة ويهوديّة، فإنّ مرجعيّة طه عبد الرحمن هي مرجعيّة دينيّة إسلاميّة وائتمانيّة بشكل خاصّ.
(23)
لديك كتاب بعنوان ( فقه النوازل بالغرب الإسلامي) وكتاب أخر بعنوان (الجديد في فقه النوازل) في ضوء آليات التنزيل» تطرح فيه آليّات جديدة لفهم فقه النّوازل. وتستعرض فيه مختلف الأدوات والوسائط والآليّات والوسائل التي يستند إليها فقه النّوازل. ما علاقة الدّكتور جميل بفقه النّوازل وهو كما يعلم الجميع علم شرعي يحرّر مادّته العلميّة قضاة أو أهل إفتاء؟
من المعلوم أنّ النّوازل الفقهيّة عبارة عن مجموعة من الوقائع والأحداث في مواضيع مختلفة، قد تكون دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو تاريخيّة أو تربويّة أو ثقافيّة أو علميّة، تردّ في شكل مسائل وفتاوى، وترتبط بظروف زمكانيّة معيّنة، وتستلزم أن يجيب عنها الفقيه النّوازلي، وفق المذهب المالكي، وآثار إمامه، وأقوال رجاله وأئمّته وحفظته ومجتهديه، بتمثل مبدأ سدّ الذّرائع، وفقه عمل أهل المدينة، والأخذ بالاستحسان، والعمل بالمصالح المرسلة .
وقد ظهر فقه النّوازل في الغرب الإسلامي، منذ عهد الأدارسة، في شمال أفريقيّة، والأندلس، والمغرب الأقصى. ويعني هذا أنّ فقه النّوازل إنتاج مغاربي بامتياز. وقد ارتبط هذا الفقه بأحداث الأندلس، وتأسيس الدّولة المغربيّة عبر العصور. لذلك، تعدّدت أنواع النّوازل، ولم تقتصر على ماهو ديني، بل تجاوزت ذلك إلى ماهو سياسي، واجتماعي، واقتصادي، وعلمي، وثقافي، وتاريخي، وتربوي، وطبّي...
وعليه، يعدّ فقه النّوازل، بمتونه المتنوّعة، مادّة ثريّة وغنيّة للاستكشاف الفقهي، والتّشريعي، والقضائي. كما يمدّ المؤرّخ بوثائق مهمّة في مجال التّأريخ، والتّوثيق، والتّحقيب. وفي الوقت نفسه، يزوّد عالم الاجتماع بكثير من المعلومات والمعطيات والبيانات والحقائق الميدانيّة حول مجتمع النّازلة وواقعها المتغيّر. ويعدّ كذلك مصدرا مهمّا في مجال الإفتاء والتّشريع والقضاء، وتنزيل الأحكام الفقهيّة على القضايا المتلبّسة بظروفها وأحداثها الواقعيّة والتّاريخيّة.
وقد خضت في هذا الموضوع، باعتباري باحثا خرّيجا من كليّة الشّريعة بفاس، وقد كانت هذه الكليّة تابعة لجامعة القرويين التي تعرف باهتمامها الكبير بأصول الدّين والفقه الشّرعي. ومن ثمّ، فقد حصلت على شهادة الإجازة بكلية الشّريعة، وهذه الشهادة تؤهّلني للخوض في موضوع فقه النّوازل.
(24)
انطلاقا مما تحقق لديك من تراكم على مستوى الكتابة والإبداع، ومن تتبّعك المستمر المتواصل للعوالم الأدبيّة والابداعيّة في المغرب خصوصا وفي العالم العربي عموما؛ كيف تنظر إلى المشهد الثّقافي والأدبي العربي؟ وهل هناك فوارق بين المشهد الثقافي الأدبي في الشرق العربي ونظيره في المنطقة المغاربيّة؟
يتميّز المشهد الثّقافي المغربي عن المشهد الثّقافي المشرقي بتأثّره الكبير بالثّقافة الفرانكفونيّة على مستوى النّظريات، والمقاربات، والمناهج، والمواضيع. لذلك، نجد دول المغرب العربي سبّاقة إلى تطبيق المناهج الحديثة والمعاصرة .فضلا عن كون المغاربيّين متميّزين في الفلسفة والنّقد المسرحي.بمعنى أنّ الباحثين المغاربيين يتميّزون بالتّجديد، والسّبق، والتّجريب، والتّأصيل، والخوض في المواضيع المتميّزة ، والاهتمام بالمقاربة السّيميوطيقيّة والحجاجيّة بشكل لافت للانتباه. فضلا عن كونهم كانوا سبّاقين إلى تجديد اللّسانيّات والتربية والبلاغة والعلوم الشّرعيّة والقانونيّة انطلاقا من مفاهيم جديدة.
(25)
حسب رأيك، كيف تأثّر المشهد الثّقافي والأدبي العربي بما سمّي بالرّبيع العربي ؟ هل كان المثقّفون والأدباء فاعلين في هذا الحدث؟ وما هو حجم مساهمتهم فيه؟
لقد ساير الأدب العربي ما يسمّى بالرّبيع العربي من خلال مجموعة من الأجناس الأدبيّة المختلفة والمتنوّعة، ولكن لم يكن الأدب فاعلا مباشرا، بل كان يترقّب ويصف الوضع من بعيد، دون أن يكون محرّكا ديناميكيّا، أو فاعلا محرّضا، أو يكون له تأثير مباشر وسريع  كما هو حال الإعلام، وقناة الجزيرة القطريّة خير مثال على ذلك، فقد قامت بدور كبير في تغيير الأوضاع السّياسية العربيّة؛ إذ ساهمت هذه القناة في انهيار أنظمة سياسيّة، وإقامة أنظمة حكومية أخرى.
(26)
يُتّهم المثقّف والأديب العربي بارتهانه للسّياسي، بمعنى أنّ الثقافة كانت ولازالت في خدمة السّياسي، هل توافق هذا الرّأي؟ وكيف يمكن تجاوزه؟
من المعلوم أنّ الثّقافة مرتبطة بالسّياسة ارتباطا جدليّا، وأنّ المثقف الحقيقي هو المثقّف العضوي- حسب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي-، إذ يعبّر عن طموحات طبقته الاجتماعيّة، فيجسّد آمالها ورغباتها وأحلامها في ما يكتبه ورقيّا أورقميّا. لكن لابدّ من التّمييز - هنا- بين جيلين، فالجيل الأول من الكتّاب والمثقّفين العرب، كانوا يتعاملون مع الخطاب السّياسي بشكل مباشر دعاية أو انتقادا، فأغلب كتّاب ومبدعي الطّبقة المتوسّطة كانوا منتمين إلى أحزاب سياسيّة ، وخاصّة أحزاب اليسار الاشتراكي. في حين، كان مثقّفو الطّبقة الأرستقراطيّة أو الطّبقة البورجوازيّة ينتمون إلى أحزاب اليمين سيّما أحزاب الاستقلال. ويعني هذا أنّ المثقّف كان بوقا سياسيّا أو حزبيّا أو نقابيّا، باحثا عن مصالحه الشّخصيّة المادّية والمعنويّة.
أمّا الجيل الثّاني، جيل الثّقافة الرّقميّة، فقد تجاوز تلك العلاقة الجدليّة بين الثّقافي والسّياسي،  سيما بعد فشل الأحزاب السّياسيّة جميعها، واستياء الرّأي العام العربي من الوضعيّة الرّاهنة التي يعيشها الوطن العربي على جميع المستويات والأصعدة، فبدأ الكاتب أو المبدع يتهرّب من السّياسة والتّسييس والأدلجة للحفاظ على رونق الشّعريّة والفنّ والجمال، وأصبح الشّكل في خدمة السّياسة بنية، وقالبا، ولاوعيا؛ بعد أن كان المضمون في خدمة السّياسة مباشرة. ويعني هذا أنّ ثمّة انتقالا من الثّقافة السّياسيّة المباشرة القائمة على ربط المضمون بواقعه الانعكاسي الجدلي بشكل حرفي وتقريري إلى ثقافة بنيويّة شكليّة جماليّة مستقلّة، تتضمّن، في طياتها، أبعادا سياسيّة لاواعية قائمة على مجموعة من الخاصّيات، كالتّماثل، والشّعريّة، والتّبنين، والتّوازي. وقد لاحظنا أيضا تخلّص تلك الثّقافة السّياسيّة غير المباشرة من الملوّثات الحزبيّة والنّقابية والتّصورات الرّسمية. وبتعبير آخر، انتقلنا من سياسة المضمون إلى سياسة الشّكل، ومن السّياسة الورقيّة ذات البعد الحزبي والنّقابي والإيديولوجي إلى سياسة رقميّة تقنيّة ماقتة لكلّ تسييس حزبي ونقابي.
(27)
هل تشاطر ما ذهب إليه البعض أنّ ما حدث خلال العشريّة الأخيرة في العديد من الأقطار العربيّة كان نتيجة لمطالب اجتماعيّة واقتصادية صرفة، وليس له أيّة علاقة بالمسألة الثّقافيّة؟ 
صحيح، ما حدث خلال العشريّة الأخيرة في العديد من الأقطار العربيّة كان نتيجة لمطالب اجتماعيّة واقتصادية صرفة، وليس له أي علاقة بالمسألة الثقافيّة.فليس هناك نخب ثقافيّة أو سياسيّة تتزعّم هذه الحركات الثّورية، فقد كان الشّباب هم الذين يتزعّمون هذه الحركات بشكل عفوي وتطوّعي، دون أن تكون لهم أهداف محدّدة بدقّة، أو أجندة معيّنة لتنظيم هذه الثورات، أو تكون لهم مجموعة من الخطط الواضحة، ينطلقون منها لتسيير هذه الثّورات وتوجيهها نحو أهداف إجرائيّة واضحة.لذلك، فشلت معظم هذه الثّورات باستثناء تونس التي كانت لها خصوصيّات معينة.
(28)
يكاد الرّبيع العربي يتحوّل إلى خريف حزين في المناطق التي شملها، ولم يبق من زهوره إلاّ التّجربة التّونسيّة؟ هل تعتقد أنّها ستصمد، وكيف ترون مستقبلها؟
بكلّ صراحة وصدق، تعدّ  التّجربة التّونسيّة أحسن تجربة عربيّة في الدّيمقراطيّة بالوطن العربي مقارنة بالتّجارب الدّيكتاتورية والمستبدّة شرقا وغربا، ومقارنة  بالتّجارب الخليجيّة غير الشّرعية أصلا. وتتميّز التّجربة التونسيّة بكونها تجربة رئاسيّة ديمقراطيّة متفرّدة ومتميّزة في الوطن العربي، بل هي أول تجربة عربيّة ديمقراطيّة. لكن  لاينبغي أن تبقى هذه التّجربة محصورة  في الأقوال والشّعارات وبلاغة الخطاب وفصاحته، دون ترجمة ذلك إلى مجموعة من الأفعال الواقعيّة والميدانيّة؛ لأنّ تونس  في حاجة ماسّة إلى إقلاع اقتصادي وتنموي سريع من أجل تحقيق النّهضة المرجوّة. وبكلّ صراحة، هناك مؤامرات داخليّة وخارجيّة تهدّد التّجربة الدّيمقراطية التّونسية؛ لأنّها توجد بجوار ديكتاتوريّات عربيّة مستبدّة. ومن جهة أخرى، لن يسمح الغرب ببناء ديمقراطيّة عربيّة شعبيّة؛ لأنّ ذلك يهدّد مصالحه. 
(29)
يقول البعض أنّ ثورة سياسيّة غير مصحوبة بثورة ثقافيّة هي ثورة عرجاء لا مستقبل لها. هل هذا القول صحيح؟ 
هذا صحيح، فالثّورة التي يقودها السّاسة أو العسكريّون هي ثورة فاشلة أو عرجاء، لايمكن، بحال من الأحوال، أن تحقّق نتائجها المثمرة، إلاّ إذا كانت هناك نخبة مثقّفة توجّه هذه الثّورة ضمن رؤية استشرافيّة سديدة. بمعنى أن يكون الثّقافي معضدا لماهو سياسي وعسكري. فالثّقافة أسّ التّمدّن والتّحضّر وبناء المجتمع المدني الواعي والرّاقي.
(30)
إذا، ما هي في نظرك الوسائل والآليات النّاجعة للنّهوض بالمشهد الثّقافي والأدبي العربي ليكون ركيزة من ركائز الإصلاح والتّغيير؟ 
يستوجب التّغيير الثّقافي  العربي مجموعة من الشّروط والوسائل والآليّات التي تتمثّل في تخصيص ميزانيّة مهمّة للقطاع الثّقافي، وأن تتوجّه السّياسات العموميّة نحو الاهتمام بالثّقافة بمختلف أصنافها، وتشجيع المثقّفين المنتجين مادّيا، وماليّا، ومعنويّا؛ وتخصيص مسابقات وجوائز مهمّة للمبدعين والمنتجين في قطاع الثّقافة، والاهتمام بأوضاعهم الاجتماعيّة، ودعم المنتج الثّقافي، وتكريم المبدعين، وإنشاء المعارض للتّعريف بالكتب، وتركيز الإعلام على ما ينتجه المثقّفون العرب بدراسة كتبهم وأبحاثهم، وتطبيق التّوصيات والمقترحات التي تصل إليها هذه الكتب، والأبحاث، والمؤلفات.
(31)
هل تؤمن بالديمقراطيّة؟ وهل هي تتناغم مع مفهوم الشّورى الإسلاميّة؟ 
تعني الدّيمقراطية حكم الشّعب أو حكم الأغلبيّة، ولكن قد تكون تلك الأغلبيّة على ضلال أو خطأ، وقد يكون رأي الواحد أكثر صوابا من رأي الأغلبيّة، ولاسيّما إذا كانت تلك الأغلبيّة تنتمي إلى عقليّة القطيع والرّعاع من الشّعب.لذا، فمفهوم الشّورى أكثر سموّا؛ لأنّ هذا المفهوم يحيل على المقاربة التّشاركيّة الجماعيّة والذّكاء الجماعي، وما خاب من استشار. بمعنى أنّ الشّورى تسعف الحاكم في اتخاذ  قرار صائب وصحيح وسليم، إذا كانت الفئة المستشارة من الكفاءات المتميّزة.
(32)
برزت خلال العشريتين الأخيرتين ظاهرة التكفير والجماعات الاسلاميّة المتطرّفة، ما هي أسباب هذا الظهور حسب رأيك؟ وكيف السبيل لتحصين شبابنا المسلم من مثل هذه الظواهر الخطيرة على المجتمع؟
عرف واقعنا السّياسي المعاصر مجموعة من الحركات والجمعيّات الإسلامية التي تجمع بين ماهو ديني وماهو سياسي، تحمل خطاباتها ومؤلّفاتها وأوراقها ورسائلها وبياناتها التّأسيسيّة شعارات التّغيير والإصلاح والتّنوير والتّهذيب والإنقاذ، وتحرير المجتمع من شوائب البدع الضّالة، وتطهيره من الكفر والزّندقة والإلحاد والمروق، بعد أن تفشّى الفساد في مجتمعنا على جميع الأصعدة والمستويات حتّى أصبح هذا المجتمع يعيش في جاهليّة ثانية أكثر خطورة من الجاهليّة الأولى، وقد سمّاها المفكر المصري الشّيخ محمد قطب (جاهليّة القرن العشرين) . 
ومن ثمّ، فقد كثرت الفرق والحركات والجمعيّات الإسلاميّة الدّاعية إلى الإصلاح والتّغيير. ولم تقف بعض الجمعيّات عند البعد الحركي السّياسي والدّيني فقط، بل وصلت إلى الحكم والسّلطة، بعد أن تحوّلت إلى أحزاب سياسيّة لها برامج إصلاحيّة شاملة، كما هو شأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النّهضة في تونس، وحزب العدالة والتّنمية في المغرب، وحزب العدالة والتّنمية في تركيا. ويضاف إلى هذا أنّ ثمّة حركات إسلاميّة معتدلة ووسطيّة ، مثل: حزب العدالة والتّنمية في المغرب وحركة النّهضة في تونس في مقابل حركات متطرّفة ، مثل: جماعة التّكفير والهجرة، والسّلفيّة الجهاديّة، والقاعدة الأفغانيّة مع أسامة بن لادن وأيمن الظّواهري ...
وعليه، فقد استخدمت الجمعيّات والحركات الإسلاميّة المعاصرة  مبدأ التّكفير سلاحا في زمن التّفكير والعقلانيّة، فوجّهته إلى بعضها البعض؛ ممّا نتج عن ذلك غلوّا، وتطرّفا، وتشدّدا. وقد تحوّل هذا الغلوّ ، في بعض الأحيان، إلى عنف معنويّ، وإرهاب دموي. وثمّة أسباب كثيرة وراء استخدام هذا السّلاح تعود إلى الجهل، والأمّية، والفهم السّطحي للقرآن، وعدم فهم مقاصده فهما صحيحا، والغلوّ في الدّين بسبب التوقّف عند ظاهر النّص، وعدم التّعمق في دلالاته تعمّقا حقيقيّا. وقد اتخذ التّكفير، عند هذه الحركات المتطرّفة، طابعا سياسيّا في جوهره، وإن كان يظهر في كثير من الأحيان على أنّه تكفير ديني. 
ومقاومة هذا التطرّف تكون بالتّعايش مع الآخرين، والتّفاهم المنفتح، والتّعارف الكوني، واستبدال الخلاف السّياسي الشائن باختلاف حواري بناء وهادف ونافع للفرد والمجتمع على حدّ سواء، مصداقا لقوله تعالى:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ فالإسلام يحارب التّكفير، والترهيب، والتّطرّف، ويرفض العنف بمختلف أشكاله.
(40)
كلمة أخيرة لقراء مجلّة الإصلاح ..
أوجّه رسالة شكر وثناء وتقدير إلى قراء مجلة (الإصلاح) الإلكترونيّة التونسيّة، وأحثّهم على قراءة المجلّة والاستمرار في الاطلاع عليها بشكل دائم؛ لأنّها مجلة هادفة وبنّاءة ومثمرة ، تدعو إلى الإصلاح الشّامل، وتحقيق السّلام، والبناء المجتمعي.