من وحي الحدث

بقلم
فؤاد بوعلي
مواسم الصراع
 منذ أيام قليلة حلّت ذكرى المولد النّبوي ومعها عشنا مجدّدا نقاشا محتدما داخل الدّائرة الدّينية بين مؤمن بقيمة المناسبة لدرجة جعلها عيدا إسلاميّا يحتفى به في الزّوايا والمساجد والسّاحات العامّة، وبين من يرى فيها مجرّد ذكرى غير مرتبطة بشخص المرسَل بل بالرّسالة. وكباقي الأحداث التي تتكرّر، يصطفّ النّاس في قبائل وأحزاب بين الدّفاع والرّفض. ولا يحتاج المتابع للنّقاش العمومي في دهاليز الإدارات والشّارع العام والمنتديات السّياسيّة ووسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعي، إلى كثير من الجهد لرسم الخريطة الزّمنيّة للنّقاشات والتّجاذبات الإيديولوجيّة والسّياسيّة بين الأطياف المجتمعيّة. فمع كلّ موسم ديني أو اجتماعي تتجدّد الصّراعات الشّفهيّة، والاصطفافات الإيديولوجيّة بين المنافح والمعارض، في صورة كاريكاتوريّة تختلف حسب الموسم وحسب تموقع الأطراف، وحسب الدّوائر المحتضنة لكنّها تحافظ على نفس الأدلّة والآليّات الحجاجيّة. حيث تفتتح في العادة السّنة الميلاديّة بنقاش حادّ بين منافح عن الاحتفال بالسّنة الجديدة، باعتباره موسما للفرح والحبور والانتماء الكوني، وبين رافض يرى في الأمر تبعيّة قيميّة وعقديّة للمخالف الثّقافي، بل وانسلاخا عن الهويّة الثّقافيّة للأمّة والوطن.
ومع احتفالات السّنة المسمّاة عند البعض أمازيغيّة، وعند الآخر حاكوزة أو فلاحيّة، نعيش نقاشا من نوع آخر وبأدوات إيديولوجيّة وثقافيّة أخرى، حيث يرى فيها المدافع مناسبة للمصالحة مع الذّات والذّاكرة والأرض، لأنّها تؤرّخ لبداية تقويم أمازيغي قبل الميلاد، في الوقت الذي يرى فيه المعارض أنّها تواريخ غير ثابتة علميّا ولا شرعيّا، بل هي جزء من مسار التّجزئة، ليصل عند البعض حدّ تحريم الاحتفاء باعتباره مجرّما شرعا ودينيّا. وفي الثامن من مارس من كلّ سنة يكون محور النّقاش هو المرأة وجواز تخصيصها بيوم عالميّ بين طرفين يذودان عن مواقفهما ومواقعهما المجتمعية. وفي محرم يكون الخلاف طائفيّا بين السّنة والشّيعة حول تخليد ذكرى عاشوراء.
هذه نماذج من خريطة النّقاش العمومي الذي يتجدّد مع كلّ موسم وكلّ مناسبة ويفرض نفسه على قنوات التّواصل المختلفة، لكن يبقى السّؤال : من يحدّد موقع الشّخص في خريطة النّقاش؟ هل هو انتماؤه الاجتماعي والسّياسي، أو قناعته الإيديولوجيّة، أو مجرّد الاصطفاف ضدّ الرّأي الآخر المخالف له سياسيّا وثقافيّا؟. فإذا كان النّقاش العمومي دليلا على حيويّة الفاعل المجتمعي وانخراطه في قضايا الدّولة والمجتمع، فإنّ الارتباط التّلازمي للنّقاش بمواسم معيّنة تتكرّر بنفس المفردات والعبارات والأطراف يؤكّد أنّنا أمام حالة مجتمعيّة تؤطّر الفعل الاجتماعي وتنحو به نحو الرّكود والثّبات. 
بنفس الوجوه ونفس الاصطفافات يعيد التّاريخ نفسه في المناسبات نفسها، في مشهد مسرحي حيث تلعب الجهات الفاعلة الأدوار نفسها، عن قصد أو دون وعي، مستخدمة نفس الأدوات والمفاهيم والعناوين البرّاقة. وكأنّ التّاريخ يتوقّف على حدود أجندة السّنة ليعيد القصّة المجترّة من السّنة الماضية دون أن تكون لنا القدرة على مساءلة جدوى النّقاش في الأصل. صحيح أنّ التّجاذب غير محصور بالمناسبات، إذ هناك مناسبات طارئة تبعث المواقف المؤدلجة من رمادها، مثل النّقاش حول التّعدّد حين يكشف النّقاب عن ممارسته من قبل شخصيّة عامّة، أو حول الحرّيات الفرديّة حين تطفو للسّطح بعد أن تستخدم في تقييد الحرّيات العامّة، أو في ارتباط بالتّجاذب السّياسوي بين الأحزاب، لكن اعتدنا أن نعيش منذ سنوات على إيقاع الصّراع المناسباتي. لكنّ الواجب في إطار البحث عن المشترك الجمعي والتّفكير في المستقبل وتحصين الدّاخل في مسار التّقلبّات الإقليميّة هو الإيمان بحقيقة الاختلاف: فما دام كلّ طرف له الحقّ في الاحتفاء بمناسبته التي يعتقد بأهمّيتها وجدواها، فمن أبسط حقوقه على المخالف احترام قناعاته الخاصّة قبل الجماعيّة، مادامت لا تسئ إلى ثوابت الجماعة. 
من هنا يبدأ عمل المثقّف. فهو شِغِّيل على مستوى المفاهيم حسب جورج طرابيشي. دوره أن لا يكون جزءا من أزمة الحوار المجتمعي، وألاّ يجتر الرّهانات الخاسرة ويكرّر نفسه في دوائر لا تاريخيّة، بل دوره مساءلة الوقائع والارتفاع عن النّقاشات الموسميّة التي لن تضيف إلى الأمّة المنهكة بالجراح إلّا آلاما أخرى تهدّد بنهاية الجماعة.