في الصميم

بقلم
عمر الموريف
النزاع حول الحقيقة في الفكر الديني عن مصير الإنسان والمنطلقات (محاولة تفسيرية) (2/2)
 المحور الثاني: منطلقات التمسك بالحقيقة الدينية
ينطلق إيماننا بأنّنا نمتلك الحقيقة من إيماننا الرّاسخ، أيضا، بأنّ الآخر على خطأ، أي أنّ معيار الحقيقة هنا، يكمن في ذاتها كما هي عند الفرد، أو على حدّ تعبير سبينوزا (1)  فإنّ من لديه فكرة حقيقيّة يعرف في نفس الوقت أنّ لديه فكرة حقيقيّة ولا يمكن أن يشكّ في حقيقة معرفته.
فأين تتجلّى منطلقات وأسس هذه النّظرة اليقينيّة التي يملكها المتديّن إزاء دينه وإزاء الآخرين؟
(2-1) الدين الوراثي والتنشئة الاجتماعية
قد لا يتّفق الاتجاه الإسلامي مع مسألة وراثة الدّين على اعتبار أنّ اللّه جلّ وعلا قد خلق الإنسان على الفطرة، وهذه مسألة لا تثير هنا مشكلة في حدّ ذاتها، بل الحديث عن دين وراثيّ أمر منصوص عليه في الحديث الشّريف الذي سبق وأن أشرنا إليه (2)، أي أنّ الفطرة إمّا أن تكرّس أو تتغيّر اعتمادا على تربية وتنشئة وراثية.
فبعد ظهور الدّيانات، سيّما السّماوية منها، فإنّ التّديّن لا يزال يُكتسب وينتقل من جيل إلى آخر عن طريق الوراثة والتّلقين، لذا فلا غرابة أن نجد أنّ الغالبيّة العظمى منّا ينتسب إلى هذا الدّين أو ذاك بسبب أنّه ولد وترعرع في أسرة ومجتمع متديّن بذلك الدّين، وحتّى التّحوّل الدّيني أو الخروج منه بناء على دراسة وتمحيص وقناعة، قد لا يشكّل أمام ظاهرة التّديّن الوراثي إلّا نسبة ضئيلة جدّا (3)، لذا فالدّين تساهم في ظهوره وتكريسه والتّمسك بطقوسه، بل الإيمان بصوابيته، مجموعة من قواعد التنشئة الاجتماعية التي تعد الوسط الأول والقناة الأساسيّة التي يجري فيها نقل الثّقافة وانتقالها على مدى الأجيال(4)، والدّين طبعا مكوّن أساسيّ من مكوّنات الثّقافة كما أكّد على ذلك «تايلور». ومن المعلوم في ميدان علم الاجتماع، أنّ التّنشئة الاجتماعيّة تنقسم إلى شطرين: تنشئة أوّليّة وهي التي تجري في مرحلتي الرّضاعة والطّفولة، وتعتبر هذه هي الفترة التي يصل فيها التّعلّم الثّقافي أقصى درجات الكثافة، إذ أنّ الأطفال يتعلّمون فيها اللّغة وأنماط السّلوك الأساسيّة التي تشكّل الأساس لمراحل التّعليم والتّعلّم اللاّحقة، وتكون العائلة هي الفاعل المؤثّر الأبرز والأكثر أهمّية في هذه الفترة. أمّا التّنشئة الثّانويّة، فتحدث في فترة لاحقة من الطّفولة، وتستمرّ حتّى سنّ البلوغ، وتدخل السّاحة في هذه المرحلة أطراف فاعلة أخرى تتولّى بعض الأدوار والمسؤوليّات التي كانت تقوم بها العائلة، ومن جملة هذه الأطراف: المدارس، والمؤسّسات، ووسائل الاتصال والإعلام، وتنتهي بموقع العمل. وهذه السّياقات كلّها، تسهم التّفاعلات الاجتماعيّة في تعليم الفرد منظومة القيم والمعايير والمعتقدات (5) .
إذن فالتّربية والتّنشئة والتّعليم، وما يتلقّاه الفرد عموما داخل الأسرة والمجتمع، ويزكّيه نظام الإعلام، يساهم بشكل كبير في تنمية الميل الدّيني عنده، ويزرع فيه قيمه وتعاليمه مع تكريس صوابيته من جهة، وانحراف غيره من الأديان من جهة ثانية، ممّا يجعله مؤمنا بهذه الحقيقة التي لا يمكن دحضها بسهولة من أيّ كان.
فالدّين إذن ينبثق من واقع اجتماعي-اقتصادي-سياسي- تاريخي شديد التّعقيد ويتطوّر، بتطوّر هذا الواقع، كما أنّه يتّصل بالمؤسّسات والبُنى الاجتماعيّة الأخرى(العائلة والطّبقات الاجتماعيّة والمؤسّسة السّياسيّة وغيرها) اتصالا عضويّا وتداخليّا وتفاعليّا فيكون فاعلا منفعلا، مغيّرا متغيّرا في آن معا (6).
(2-2) الفرد وإطاره الفكري
بعدما يتكوّن الفرد داخل بيئته وفق قواعد التّنشئة الاجتماعيّة، فإنّه يخلق لنفسه إطارا فكريّا ينظر من خلاله إلى العالم الخارجي بكلّ مكوّناته، وبالتّالي فحكمه على هذا العالم لن يخرج عن الإطار الفكري الذي ينظر إليه من خلاله، فمعايير الحقّ، ومقاييس الخطأ والصّواب، تكون مصقولة وفق قالب هذا الإطار الذي تمّ تكوينه عبر سلسلة طويلة ومتشابكة من التّنشئة.
فالجزء الأكبر من الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون  مؤلّف من المصطلحات، والمألوفات، والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه، ويغرسها في أعماق عقله الباطن. والإنسان متأثّر بها من حيث لا يشعر، فهو حين ينظر إلى ما حوله، لا يدرك أنّ نظرته مقيّدة ومحدودة. وبكلّ يقينه أنّه حرّ في تفكيره. وهنا يكمن الخطر، فهو لا يكاد يرى أحدا يخالفه في رأيه حتّى يثور غاضبا ويتحفّز للاعتداء عليه. وهو عندما يعتدي على المخالف له بالرّأي لا يعدّ ذلك ظلما، إذ هو يعتقد بأنّه يجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضدّ الباطل(7).
فالمسألة الدّينيّة، والحالة هاته، ينظر إليها من إطار محدّد مصقول في قالب مجتمعي معين، وخاضع لتأثير الزّمان والمكان، وينتج عنه -بالطّبع - نمط تفكير ديني، أو عقل ديني يبني تصوّراته وأحكامه انطلاقا من هذا الإطار، ولا غرابة بالتّالي أن ينظر إلى ما يؤمن به عقديّا هو الصّواب، وغيره على باطل.
وهكذا فقد ذهب بعض الباحثين(8) إلى اعتبار أنّ المجتمعات تختلف بثقافاتها اختلافا كبيرا، فالقيم ومعايير السّلوك تتنوّع بشدّة بين الثّقافات، فما يراه النّاس في ثقافة معيّنة طبيعيّا قد يراه آخرون في ثقافة أخرى جريمة.
(3-2) الفكر الديني: المنطقة الوسطى أو الرمادية
إذا كان الفكر الدّيني التّقليدي ينظر إلى الأمور العقديّة من زاوية نظر ثنائيّة: مع أو ضد، حقّ أو باطل، إيمان أو كفر...إلخ، فبين الفينة والأخرى تظهر أصوات أو قراءات تعتقد أنّ لها حقّ التّفكير والتّأويل على غرار العقول القديمة التي لا يزال المعاصرون يتمسّكون بإنتاجها باعتبارها الإنتاج الصّافي النّقي والحقّ، لاقترابه من عهد التّأسيس للدّين عند نزول الوحي الإلهي، لكنّ مثل هؤلاء لا تمرّ قراءتهم هكذا دون أن تخلف زوبعة تؤجّج الأتباع، وتمسّ أصحاب التّجديد في حياتهم وخصوصيّاتهم(9).
ومن بين هؤلاء نجد المفكّر عبد الجبار الرّفاعي الذي يؤكّد أن ليس هناك أحد يمتلك الإيمان الحقّ ويمنح لنفسه أو غيره النجاة فيما يهلك الآخرون الذين لا يتطابق نمط اعتقادهم مع معتقده، ومقتضى ذلك التّخلّص من أساليب التّعبئة الإيديولوجيّة وترك استخدام كلمات ومصطلحات دينيّة مشبّعة بهجاء الآخر، ومتوارثة من صراعات الطّوائف والفرق والحروب بين أتباع الأديان في العصور الوسطى(10).
فحين يدافع الإنسان عن عقيدة من عقائده المذهبيّة، يظنّ أنّه إنّما يريد بذلك وجه اللّه أو حبّ الحقّ والحقيقة، وما درى أنّه بهذا يخدع نفسه، إنّه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها، وهو لو كان نشأ في بيئة أخرى، لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردّد، ثمّ يظنّ أنّه يسعى وراء الحقّ والحقيقة. لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحقّ والحقيقة، ولست أجد إنسانا في هذه الدّنيا لا يدّعي حبّ الحقّ والحقيقة، حتى أولئك الظّلمة الذين مَلَؤُوا صفحات التّاريخ بمظالمهم التي تقشعرّ منها الأبدان(11).
ويظلّ الراحل محمد شحرور من أبرز من أثار الجدل بتفسيراته للقرآن الكريم التي خالفت بشكل جذريّ كلّ التّفسيرات والتّأويلات التي عهدها وعرفها العقل الدّيني الإسلامي، وقد وجدته يمثّل بلا منازع المنطقة الرّماديّة أو الوسطى بين كلّ الدّيانات، فمفهوم الإسلام عند شحرور مفهوم شامل وواسع يسع كلّ الدّيانات الأخرى، مستنتجا ذلك من آي القرآن نفسه، فأركان الإسلام لديه ثلاثة، تتمثّل في الإيمان باللّه وباليوم الآخر والعمل الصّالح، ومتى توفّرت في المرء فهو مسلم، أمّا ما تواتر في الفقه الإسلامي بكونه أركان الإسلام، فهي في حقيقتها أركان الإيمان التي تلزم المؤمنين بخاتم الرّسل محمد ﷺ، فقد ذهب إلى أنّ « من آيات القرآن الكريم الكثيرة نفهم أنّ الإسلام هو التّسليم بوجود اللّه واليوم الآخر، وإذا اقترن هذا التّسليم بالإحسان والعمل الصّالح، كان صاحبه مسلما، سواء كان من أتباع محمد (الذين آمنوا) أو من أتباع موسى (الذين هادوا) أو من أنصار عيسى (النّصارى)..»(12) .
على سبيل الختم
تأتي هذه المحاولة المتواضعة مستجمعة بعض شذرات القراءات المختلفة التي تناولت المسألة الدّينية وارتباطها بموضوع الحقيقة، وذلك للوقوف على نقطة في غاية الأهمّية والمتمثّلة في أنّ زاوية النّظر إلى الدّين يصعب تناولها من جهة واحدة، فالمؤثّرات البيئيّة والاجتماعيّة والفكريّة والثّقافيّة تلعب دورا أساسيّا وفاصلا في تكوين ونشأة الفكر الدّيني، ومادامت هذه المؤثّرات مختلفة اختلافا تامّا، فطبيعي أن يختلف الفكر الدّيني تبعا لذلك.
وإذا كنت قد حاولت جاهدا توخّي الموضوعيّة والحياد في هذه القراءة الموجزة، فإنّ الغاية تظلّ فتح النّافذة على ساحة نسبيّة تناول الدّين انطلاقا من الإطار الفكري الذي ساهمت التّنشئة الاجتماعيّة في صقله، وأحسب أنّ الوقوف على هذه النّقطة بالذّات كفيل بأن يذوّب العديد من بوادر التّشنّج والخلافات بين الدّيانات، ويفتح تبعا لذلك باب الحوار والتّفكير والمجادلة بالتي هي أحسن، فلعلّ المخالف لي في الدّين كان سيكون مكاني وأكون أنا مكانه لو قام القدر بتبديل البيئة التي ترعرعنا فيها معا.
فحبّذا لو كان الحوار بذلك الهدوء المثمر، يكون مغزاه حبّ الخير للغير، لا النّفي والإقصاء، وقد عبّرت  الآية 48 من سورة المائدة تعبيرا رائعا عن هذه الحقيقة، حيث قال فيها الحقّ عزّ وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(13).
الهوامش
 
(1) محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي، الحقيقة، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء، ط2، س 2005، ص 11.
(2) جاء في الصّحيحين أنّ النّبي ﷺ قال: «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه...»
(2) للتوسّع يراجع : عياد أبلال، الجهل المركب: الدين والتدين وإشكالية التحول الديني في المجتمع العربي، صادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود سنة 2018.
(4)  أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياع، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، س 2005، ص 87
(5)  أنتوني غدنز، المرجع السّابق، ص 88-89
(6)  حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 423.
(7) علي الوردي، خوارق اللاشعور، دار الوراق للنشر، لبنان، ط 6، س 2018، ص 45
(8)  فجر جودة النعيمي، علم النفس الاجتماعي: دراسة لخفايا الإنسان وقوى المجتمع، دار الرافدين للنشر والتوزيع، لبنان، س2016، ص 67
(9)  كاغتيال الكاتب المصري «فرج فودة»، والحكم بردّة المفكّر «نصر حامد أبوزيد» والتفريق بينه وبين زوجه، ومحاولة اغتيال «نجيب محفوظ»، وتكفير «أحمد عصيد» و«عبد الله العروي» و«محمد عابد الجابري» من لدن بعض الشيوخ...إلخ
(10)  عبد الجبار الرفاعي، انقاذ النّزعة الإنسانيّة في الدّين، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان، ط 2، س 2013، ص 177.
(11)  علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار الوراق للنشر، لبنان، ط 7، س 2018، ص 51.
(12) محمد شحرور،  الإسلام والإيمان: منظومة القيم، دار الساقي، لبنان ط 3، س 2018، ص 38.
(13)  سورة المائدة - الآية 48