بهدوء

بقلم
موسى علاوة
حوار الحضارات: الأصول النظرية والامتدادات (1/2)
 تقديم:
يعتبر الحوار من أهمّ المبادئ التي تحقّق الثّبات والاستقرار على مستوى الحياة الإنسانيّة، باعتبار الحمولة الفكريّة التي يحملها بين طياته التي من شأنها أن تساهم في بناء فعل حضاري وتوحيد العلاقة بين الحضارات في إطار يطبعه السّلم والاستقرار والتّعايش، فقد خصّص القرآن الكريم مساحات كبيرة لهذا المفهوم، وهذا ما يبيّن الأهمّية الكبرى لهذا المفهوم داخل حياة الإنسان المستخلف؛ وتجسّد دور الحوار جليّا في العهد النّبوي على يد خير الأنام محمد ﷺ، حيث كان بمثابة العصى السّحريّة في يد المصطفى ﷺ في تعامله مع المشركين وغيرهم ، هنا يتجلّى الدّور الكبير الذي يلعبه مفهوم الحوار في بناء علاقة سليمة بين طرفين أو أكثر ترتكز حول مفاهيم أساسيّة أهمّمها: قبول الرّأي الآخر، والمجادلة بالتي هي أحسن، وحسن الاستماع والإنصات للآخر كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾(1) .
ومن بين أنواع الحوار ذلك الذي يتعلّق بالحضارات، وهو موضوع دراستنا، باعتبار أهمّية هذا الأخير في حلّ النّزاعات القائمة بين الحضارات منذ الأزمان، فهو بمثابة جسر التّواصل والاتصال بين الحضارات، وهو بمثابة المصلح بين حضارة وأخرى، يقودهما معا إلى تحقيق السّلم والأمن وتغييب العنف والصّراع؛ وفي هذا الصّدد يقول عبد العزيز التويجري «الحوار بين الحضارات والثّقافات هو الوسيلة المثلى لتحقيق التّوازن في الحياة الإنسانيّة»(2) ، فالحوار بين الحضارات بمثابة قمرٍ منيرٍ في ظلام العنف والتّطرف، يُزيل عتمة الصّراعات والحروب .
أولا: مدخل مفاهيمي.
الحوار لغة:
«أصل المادّة من الحوار، وهو الرّجوع عن الشّيء وعنه حوارا ومحاورة، رجع عنه وإليه، ومنه أحار عليه جوابه: رده وأخّرت له جوابا وما حار بكلمة، والاسم من محاورة الحوير، قول: سمعت حويرهما وحوارهما.
والمحاورة: المجاوبة والتّحاور، والتّجاوب، وتقول كلمته فما أحار إليّ جوابا وما رجع إليّ حويرا ولا حويرة، ولا محورة، ولا حوارا أي ما ردّ إليّ جوابا استحاره أي استنطقه، يقال أصل الحوار الرّجوع إلى النّقص ومنه حديث عبادة: «نوشك أن يرى الرّجل من ثبج المسلمين، قرّاء القرآن على لسان محمد ﷺ، فأعاده وأبد أه لا يحور فيكم إلا كما يحور صاحب الحمار الميّت، أي لا يرجع فيكم بخير ولا ينتفع بما حفظه من القرآن كما لا ينتفع بالحمار الميّت صاحبه.
في حديث سطيح: فلم يحر جوابا، أي لم يرجع ولم يرد، وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة، والمحورة من المحاورة مصدر، كالمشورة من المشاورة كالمحورة»(3).  
وجاء في مقاييس اللّغة «فإنّنا نجد أنّ الحور الحاء والواو والراء، ثلاثة أصول أحدها لون والأخر الرجوع والثالث أن يدور الشّيء دورا، فأمّا الأول، فالحور: أي شدّة بياض العين في شدّة سوادها، أمّا الرّجوع فيقال حار: إذا رجع قال اللّه تعالى «إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ»(4)، والعرب تقول «الباطل في حور» أي رجع ونقص، وكلّ نقص ورجوع حور. والأصل الثّالث المحور: الخشية التي تدور فيها المجادلة، ويقال: حورت الخبرة تحويرا، إذا هيأتها وأدرتها لتضعها في الملّة»(5).
يتبين من خلال التّعاريف السابقة أنّ الحوار هو تلك العمليّة التي تدور بين طرفين فأكثر وفق شروط وضوابط تؤدّي إلى التّوافق بين تلك الأطراف.
الحوار اصطلاحا: 
من خلال الوقوف على المعنى اللّغوي للحوار، نستطيع القول بأنّ معناه الاصطلاحي هو نفسه اللّغوي، قال الزّمزمي:«هو مراجعة الكلام، وتداوله بين طرفين، وعرفه بعضهم بأنّه نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين يتمّ فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة، فلا يستأثر أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة، وهو ضرب من الأدب الرّفيع ، وأسلوب من أساليبه»(6).  
وفي قول آخر «الحوار الرّجوع عن الشّيء وإلى الشّيء، يقال: حار إلى الشّيء وعنه حوار ومحاورة: رجع عنه وإليه. وفي الحديث «من دعا رجلا بالفكر وليس كذلك حار عليه، أي رجع إليه ما نسب إليه. والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرهُ﴾(7)، أي وهو يراجعه الكلام ويجادله، والتّحاور: التّجاوب لذلك كان لابدّ في الحوار من متكلّم ومخاطب، ولابدّ فيه من مراجعة الكلام وتبادله وتداوله، وغاية الحوار، توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلّم، لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفي هذا التّجاوب توضيح للمعاني، وإغناء للمفاهيم يفضيان إلى تقدّم  الفكر»(8).
الحضارة لغة:
يعتبر لفظ «الحضارة» من الألفاظ اللّغويّة الأكثر شيوعا في الاستعمال لدى الكتّاب والمفكّرين في عصرنا الحالي، غير أنّ هناك غموضا يكتنف مدلولها، ولعلّ ذلك راجع إلى الخلفيّة الفكريّة والأيديولوجيّة  لدى معرّفيها، ممّا أدّى إلى عدم الاتفاق في التّعاريف.
وسنقتصر على تعريفين لها فقط، الأول لابن منظور: «الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي...والحاضر المقيم في المدن والقرى والبادي المقيم في البادية...ويقال فلان حضري، وفلان قروي والحضارة الإقامة في الحضر»(9) . وفي «اللّغة الانجليزيّة، الحضارة ترجمة للكلمة(civilisation) وهي بمعنى مدني أو من معاني المدينة أو ما يتعلق بساكن المدينة، حيث تقوم الحياة الحضاريّة عادة في المدن»(10) .
نستشفّ من خلال التّعريفين أعلاه أنّ الكلمة تُطلق على الذين يسكنون المدينة. وهذا ما يدفعنا للبحث عليها في الاصطلاح.
الحضارة اصطلاحا :
إن كلمة الحضارة لم تكن شائعة في الاستعمالات العربيّة اللّغويّة طيلة القرون التي أعقبت مرحلة الفتوحات الإسلاميّة، ويكاد يكون ابن خلدون أوّل من نبّه إليها واستخدمها في كتاب المقدّمة، من خلال اصطلاحه الخاصّ حيث يقول:«إنّ الدّولة تمرّ بثلاثة أطوار هي البدواة  والتّحضّر و التّدهور، وكلّ منها متواصل مع الآخر، فبإفراط الملك والسّيطرة التي كان يطمح لها البدو بصفتهم القبيلة والعصبيّة، وهذا الملك والحكم بطبيعته يستدعي التّرف، وبالتّرف ستكون الدّولة في طور الحضارة وذلك التّرف هو ما يجعلها آيلة إلى الانهيار والسّقوط»(11).
يُفهم من كلام ابن خلدون أنّ الإفراط في التّرف وليس بداية التّرف -الذي برأيه يزيد الدّولة قوّة إلى قوتها - هو الذي يجعلها آيلة إلى الانهيار والسّقوط. كما نراه يجعل من طور التّحضّر سببا في الانهيار، إذ يقول:«والجيل الثّاني حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة...وتؤنس منهم المهانة والخضوع...». أو كقوله في موضع آخر «أنّ الحضارة نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشّر والبعد عن الخير»(12).
من خلال ما سبق يتبين أنّ ابن خلدون يعتبر الحضارة طورَ الانحطاط وليست طورَ الازدهار. أمّا جميل صليبا فيرى أنّ الحضارة تمثّل:«مظاهر التّقدم العقلي المادّي معا، وهي ذات طابع اجتماعي»(13)وهذا دأب عدد من المفكّرين والباحثين، بينما يرى محمود الخالدي على أنّها:«مجموع المعارف العلميّة والتّشريع والنّظم والعادات والآداب التي تمثّل الحالة الفكريّة والاقتصاديّة والخلقيّة والسّياسيّة والفنّية وسائر مظاهر الحياة المادّية والمعنويّة...»(14). أمّا مالك بن نبي، فيذهب إلى المعنى الأخلاقي والإنساني، فيرى أنّ الحضارة هي:«مجموع الشّروط الأخلاقيّة التي تتيح لمجتمع معيّن أن يقدّم لكلّ فرد من أفراده في كلّ طور من أطوار حياته منذ الطّفولة إلى الشّيخوخة، المساعدة الضّرورية له»(15)، فالحضارة والرّقي تساعد على الكمال الرّوحي والأخلاقي القيمي للأفراد والمجتمعات على حدّ السواء.
الحوار قيمة إنسانيّة وفضيلة أخلاقيّة جعلها اللّه تعالى لعباده في الأرض، لتوحيد الصّفوف وإزالة الاختلاف وتحقيق الائتلاف. وهذا ما سنحاول تأصيله عبر رصد عدد من المحطّات التّاريخيّة التي تجلّى فيها الحوار الحضاري بين الشّعوب والأمم.
ثانيا: الجذور التاريخية لحوار الحضارات
لا شكّ أنّ القرآن الكريم هو منبع  الحوار وأصله وهذا ما دلّت عليه الكثير من الآيات القرآنية، وهو أمر ربّاني يدلّ عليه قوله تعالى:﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾(16) .
الحوار مصطلح قرآني أو بالأحرى مصطلح ربّاني، فبعد أن خلق اللّه الإنسان، دار حوار بينه عزّ وجل وبين إبليس اللّعين، حينما أمره اللّه بالسّجود لآدم فأبى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾(17) ، إضافة إلى حوار اللّه تعالى مع الملائكة من خلال قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تعلمون﴾(18) .
أمّا السّنة النّبويّة، فهي مليئة بمواقف تتجلّى فيها فضيلة الحوار مع الغير من خلال أقوال وأفعال المصطفى ﷺ، فقد أرسى الحبيب موقفا ألزم به المسلمين جميعا في عهده وفي العهود اللاّحقة، ففي مصطلح الدّعوة الإسلاميّة وقيام نواة دولتها الأولى في المدينة المنوّرة، استقبل رسول اللّه ﷺ مسيحي نجران(في اليمن) في بيته وأحسن ضيافتهم وحاورهم كمسيحيين، ووعدهم كمسيحيين، إذ قال ﷺ: «ولنجران وحاشيتها، جوار اللّه وذمّة محمد نبيّ اللّه ورسوله على أموالهم وأنفسهم وعشيرتهم وبيعهم، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، ولا يغير أسقف من أسقفتها ولا راهب من رهبانها ولا كاهن من كهنتها»(19) .
هنا يتجلّى حوار الحضارات بصورة واضحة بين الحضارة الإسلاميّة بزعامة المصطفى ﷺ رافع علم السّلم والسّلام وبين الحضارة المسيحيّة الممثّلة بمسيحيي«نجران». وقد تجلّى ذلك من خلال المعاهدات والمواثيق التي أبرمها الرّسول ﷺ مع الحضارات الأخرى المسيحيّة أو النّصرانيّة ومع الحضارة اليهوديّة أيضا ومن بيّنة ما يشهد بذلك قوله: «هذا كتاب أمان من اللّه ورسوله، للذين آوتوا الكتاب من النّصارى...»(20)، هنا أقر المصطفى عليه السلام للآخر مبدأ من المبادئ السّامية للحوار وهو مبدأ الأمن والأمان.
من خلال ما سبق يتبيّن أنّ الدّين الإسلامي مثّل ولا زال يمثّل منبع الحوار مع الآخر. (يتبع)
الهوامش
(1)  سورة المجادلة - الآية 32.
(2)  عبد العزيز التويجري ، الحوار من اجل التعايش ، دار الشروق، بيروت، طبعة 1،1998،ص6.
(3)  أنظر لسان العرب لابن منظور (ج4ص264)، دار صادر، ط2005، وتاج العروس من جواهر القاموس (ج6ص316و317) مراجعة وتعليق أنس محمد الشامي دار الحديث القاهرة لطبع و النشر و التوزيع سنة1994.
(4)  سورة الانشقاق - الآية 14. 
(5)  انظر مقاييس اللغة لأبي أحمد بن فارس بن زكرياء، ص 230و231،مراجعة وتعليق أنس محمد الشامي، دار الحديث القاهرة 2008.
(6)  يحي بن محمد الزّمزمي، الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسّنة، دار التربية و التراث ، مكّة المكرمة، ص22.
(7)  سورة الكهف - الآية 37.
(8)  أحمد عبد الرحيم السّايح، الغزو الفكري، ضمن كتاب الأمّة العدد 38، بتصرف.
(9)  ابن منظور، لسان العرب، مجلد 4، دار صادر، بيروت، ص196.
(10)طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي بيروت،1424ه،ص14.
(11) ابن خلدون، المقدمة ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، دار إحياء التراث العربي، بيروت،ص:186-187.
(12)  المصدر نفسه،ص123.
(13)  جميل صليبا، المعجم الفلسفي، منشورات ذوي القربى، ط1 ،قم إيران، ص477.
(14)  محمود خالدي: الأصول الفكريّة للثّقافة الإسلاميّة، ج1 المدخل إلى الثّقافة الإسلاميّة، دار الفكر للنّشر والتوزيع، عمان الأردن 1983،ص61.
(15)  مالك بن نبي: القضايا الكبرى، دار الفكر، بيروت لبنان،1426ه،ص42.
(16)  سورة آل عمران - الآية 63.
(17)  سورة الأعراف - الآية 11.
(18)  سورة البقرة - الآية 29.
(19)  محمد حميد اللّه، مجموعة الوثائق السّياسيّة للعهد النّبوي والخلافة الرّاشدة، دار النفائــس، بيروت، 1987، ص 176.
(20) المرجع السّابق نفسه، ص171.