الأولى

بقلم
فيصل العش
عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ
 (1)
عمل بن علي وزبانيته خلال مدّة حكمه على تشويه ثقافة الشّعب، وإرساء ثقافة جديدة ذات خصائص سهّلت السّيطرة على المجتمع، والتّحكم في مفاصله، وارتكزت على الخوف والعنف والنّفاق، مستعينا في ذلك بماكينة أمنيّة عنيفة وشبكة فاسدين من أشباه المثقّفين والمتفرنسين. وقد وجد هذا النّظام كلّ الدّعم من قوى الفساد الدّاخلي التي رأت في مشروعه مجالا خصبا لتنفيذ مخطّطاتها، كما وجد الدّعم الكافي من القوى الاستعماريّة التي تعلم أنّه من الصّعب التحكّم في شعب متجذّر في ثقافته ومتمسّك بهويّته.
استغل بن علي خوف بعض القوى الأجنبيّة من الظّاهرة الإسلاميّة ومباركة بعض القوى الدّاخلية المحسوبة على العلمانيين لينفذ مخطّطا جهنّميا للقضاء على كلّ مظاهر التديّن في البلاد متّبعا في ذلك سياسة تجفيف المنابع ومحاصرة كلّ فكرة تستند إلى الهويّة العربيّة الإسلاميّة من جهة وتشجيع كلّ عمل ثقافي ليس وراءه فكرة أو هدف من جهة أخرى. 
ولئن تمكّن الشّعب التونسي من الإطاحة برأس النّظام وطرده خارج الدّيار وتحقيق نقلة نوعيّة في الجانب السّياسي بانتخابه من يمثّله في الحكم وفي صياغة دستور جديد للبلاد، فإنّ الجانب الثّقافي بقي عصيّا ومازال المجتمع تحت سيطرة ثقافة الاستبداد التي تعمل جاهدة بكلّ ما أوتيت من قوّة على تعطيل المسار الثّوري ويظهر ذلك جليّا من خلال التّعبيرات الثّقافية التي تحصل هنا وهناك وفي أسلوب التّعامل بين الفرقاء السّياسيين والفكريّين المرتكز على مبدأ الإقصاء واعتماد العنف اللّفظي والجسدي عوضا عن الحوار والمجادلة(1). كما يظهر جليّا في سيطرة ثقافة المطالبة بدلا عن العطاء والتّعطيل بدلا عن الدّعم (2).
إن نجاح الثّورة في تونس وإنجاز استحقاقاتها، يتطلّب النّجاح في تحقيق تحوّل  نوعيّ في المسارات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ عبر القيام بثورة ثقافيّة وقِيَمِيَّة  تغيّر العقول وتمحو منها ما هو سائد من مفاهيم وما تعلق بها من أدران الماضي وتملؤهــا بمفاهيم جديــدة ترفع مستوى وعي النّاس وترتقي بهم إلى منزلة المواطنة. ثورة تهدف إلى تحطيم ركائز ثقافة الاستبداد وبناء ركائز جديدة تقوم على مبادئ الحرّية بدلا عن القمع، والكرامة والعزّة بدلا عن الذلّة والمسكنة، والعمل بدلا عن التّواكل، والتّعاون بدلا عن عرقلة الآخرين، والتّضحية بدلا عن المصلحيّة وحبّ الذّات؛ ثقافة ديمقراطيّة تقدّس المواطنة وتكرّس سيادة القانون وتمنع المحسوبيّة وتعيد للهويّة العربيّة الإسلاميّة مكانتها في عمليّة إعادة بناء النّسيج المجتمعي.
لكنّ هذه الثّورة لا يمكن أن تتحقّق بين عشيّة وضحاها، فتغيير الثّقافات ليس بالأمر الهيّن، ويتطلب مزيدا من الجهد والصّبر والتّخطيط المحكم. ولا يمكن أن يحدث هذا التغيير إلاّ إذا تكاتفت جهود السّياسيين والمثقّفين المدافعيـن عن الثّورة بمختلف مشاربهم الفكريّة، لخلق جوّ من الحوار والتّقارب والتّعاون بديلا عن محاولات الإقصاء والمواجهة. وهم بذلك يقطعون الطّريق أمام تحالف القوى المضادّة للثّورة المتمثّلة في بعض المثقّفين والسّياسيين المنتمين إلى مدارس ذات طابع إقصائي معادي للدّين كالمدرسة الفرنسيّة والمدرسة الشيوعيّة ومنظومة الفساد التي استعادت عافيتها وازدادت قوّة على قوّة في ظلّ ضعف الدّولة وتشتّت صفوف القوى التي جاءت بها الثّورة . 
ولتأسيس ثقافة تؤكّد على الإبداع والابتكار ضمن رؤية تعدّدية تفاعليّة وبناء مجتمع واثق من نفسه يلج عالم الحداثة وما بعد الحداثة من موقع الإبداع لا الاتباع، فإنّ من واجب مثقّفي الثّورة التّكفّل بترسيخ عقليّة احترام الآخر وتكريس مبدأ التّنوع وإبراز ميول التّونسي إلى السّلم والوسطيّة ورفضه كلّ أشكال التّطرف والعنف وذلك عبر:
- بناء منظومة تربويّة أصيلة تتبنّى عبر مناهجها وبرامجها هذه المبادئ السّمحة بخيارات بيداغوجيّة «علميّة» بعيدًا عن كلّ أشكال الاستبداد ومظاهر «الواحديّة» الفكريّة والثّقافيّة الّتي حوّلت المؤسّسة الترّبوية بتونس إلى مؤسّسة «لتنميط» العقول و«تسطيح» الوعي و«ابتذال» الذّوق. 
- استغلال مختلف الوسائل الثّقافيّة المتاحة من مسرح وسينما وفنّ وموسيقى ومحاضرات وندوات، بالإضافة إلى المساجد ودور العبادة لنشر ثقافة التّسامح والحوار وقبول الآخر والعمل والعطاء. 
وبذلك يتسنّى خلق مناخ فكري وعلمي في البلاد يفجّر من خلاله شبابنا قدراته في مختلف المجالات.
(2)
لكنّ ما حدث خلال فترة ما بعد 2011 وحتّى هذه السّاعة لا يدلّ على أنّ البلاد تسير في الاتجاه الصّحيح، فتونس عاشت طيلة هذه المدّة، ومازالت تعيش، حالة من الاحتقان السّياسي في غاية الخطورة وهشاشة في الوضع الاجتماعي تنبئ بالانفجار وصعوبات اقتصاديّة جمّة توارثتها الحكومات المتتالية وزادتها «الكورونا» حدّة فوق حدّتها. 
إن ما نشهده اليوم في السّاحة السّياسيّة التونسيّة وما نعيشه يوميّا من صراع خفيّ تارة وعلنيّ تارة أخرى بين مختلف القوى السّياسيّة وبين مؤسّسات الدّولة نفسها المتمثّلة في البرلمان ورئاسة الجمهوريّة والحكومة(3) يجعلنا لا نخفي مخاوفنا الحقيقيّة من الانزلاق نحو اعتماد العنف السّياسي المنظّم كأسلوب للتّعامل بين الفرقاء السّياسيين وعندها ستحدث الكارثة لا قدّر اللّه .. فبلادنا لا تستطيع تحمّل مزيد من الأزمات والفتن. ونحن الآن أمام لحظة فارقة في تاريخ ثورتنا ستتحمّل النّخبة السّياسية والثّقافيّة مسؤوليتها في توجيه المسار إلى الاتجاه الصّحيح أو السّقوط المدوّي المصحوب بموجات من العنف ستأتي على الأخضر واليابس وسيتضرّر منها الفاعل والمفعول به وسيكتوي بها الجميع، لأنّ الانزلاق نحو العنف السّياسي بجميع أشكاله سيكون إعلانا لنهاية حلم شعب بكامله بذل من أجله الغالي والرّخيص. حلم تمثّل في تأسيس جمهوريّة المواطنة ودولة مدنيّة تسع الجميع وتعمل على تحقيق شعار الثّورة المركزي « شغل، حرية، كرامة وطنيّة».
(3)
إن أزمة تونس تكمن في نخبها التي تتحمّل الجزء الكبير من المسؤولية لأنّها عجزت عن الفعل الإيجابي وظلّت حبيسة معارك وهميّة بين العائلات الايديولوجيّة بعيدا عن نبض الشّارع وتطلّعاته وهمومه. بل عمدت في العديد من المناسبات إلى استحضار صراعات من الماضي السّحيق لتصفية حسابات قديمة نحن في غنى عنها. وارتهن بعضها  «الوطنيّة» عبر استخدامها كسلاح لمهاجمة الخصوم. وعوض أن تقوم هذه النّخب بمهامها في البحث عن حلول للمشاكل المتراكمة وتقود عمليّة إعادة البناء أو على الأقل الخروج من المأزق، غدت هذه النّخب - إلاّ من رحم ربّك- جزءا من المشكل لأنّها في مجملها مهوسة بالحكم إمّا لأنّها حُرمت منه طيلة نصف قرن وترى أنّ الثّورة قد فتحت لها الباب بمصراعيه لتتسلّمه وهذا ينطبق على طائفة منها تحمل معها عقدها ومآسيها وخمسين سنة من القهر والظّلم والمطاردة والسّجن وإمّا لأنّها تخاف أن تخسره إلى الأبد، وهذا ينطبق على طائفة أخرى ارتمت في أحضان الطّواغيت ولوبيات الفساد مقابل عطايا وتحقيق الامتيازات، فانبرت تدافع عن السّلطة السّابقة وتبرّر ممارساتها، وهي تخشى اليوم من فتح ملفّاتها وإبعادها عن موقع القرار ودواليب الدّولة. ولا تشترك هاتان الطّائفتان إلاّ في استبطان ثقافة العنف ومنطق الإقصاء ،بوعي أو من دون وعي، وهو ما يجعل المشهد السّياسي يتّجه عموما إلى مزيد من الاستقطاب الثّنائي الحادّ ونحو الفرز والانقسام الذي قد يفضي، لا قدّر اللّه، إلى المواجهة وإدخال البلاد في دوامة من العنف؛ خاصّة أن وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وشبكات التواصل الاجتماعي تساهم يوميّا في نشر ثقافة العنف اللّفظي والدّفع إلى التّشنّج والصّراع وفتح الأبواب للعنف الجسدي. وبين هذه وتلك تتيه الطّائفة المتبقية من النّخبة المسكونة بفكرة المصلحة العامّة وتكريس الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، ويزداد الخطّ الوسطي المعتدل ضعفا على ضعفه ويضيق مجال دعوته إلى أن يكون الوطن للجميع وميدان خدمته مفتوح لكلّ أبنائه مهما اختلفت مشاربهم الفكريّة والسّياسيّة.
إنّ العنف إذا انطلقت شرارته الأولى لن يتوقّف قبل تدمير البلاد وتفقير العباد ولنا في تجارب جيراننا وإخواننا عبرة ومثل (4). وستكون الفرصة مواتية لبعض الأطراف الأجنبيّة لحشر أنوفها في شأننا الدّاخلي وتوجيهه نحو تحقيق مصالحها، وهي بصدد فعل ذلك علانيّة من دون خوف أو وجل. 
فهل ستستفيق النّخب من تخمّرها وتتّقي اللّه في وطنها، فتقتنع بأنّه لا سبيل لإبعاد شبح العنف والانهيار عن البلاد إلاّ الحوار والدّعوة إلى التّهدئة والبحث عن سبل التّوافق الوطني؟!، أم أنّها ستزيد في سرعة التوتّر، وتتّجه مباشرة إلى التّصادم ؟!.
على الجميع العلم أنّنا بصدد تشييد بناء على جرف هار ... فحذار ! حذار من الانهيار !...
 الهوامش
(1) انظر ما يحدث تحت قبّة البرلمان من مناكفات ودعوات فاضحة إلى الكراهيّة ورفض للآخر .
(2) رغم أنّ البلاد خرجت لتوّها من أزمة الكورونا بنجاح لم يتمّ استثماره وبضعف اقتصادي لا يمكن تفاديه إلاّ بالزيادة في حجم العمل فإنّ العديد من الأطراف قد اتجهت إلى مزيد من المطلبيّة وإعلان الإضرابات والاعتصامات المتنوّعة. 
(3) لم يعد خفيّا على المتابع للوضع بالبلاد التفكّك داخل الحزام السياسي للحكومة وكذلك الاختلاف في مواقف رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهوريّة. 
(4) انظر ما حدث، وما يزال يحدث في ليبيا واليمن وسوريا ومصر من مآس راح ضحيّتها كل أطياف المجتمع.