باختصار شديد

بقلم
محمد مراح
لُمعة
 كثيرة هي المسائل التي تثير في عقول شباب قد يقودهم النّبش في طيّات الأحكام التّشريعيّة إلى نوع من الحيرة وربّما الرّيب. فكيف يمكننا التّفاعل معها من زاوية الإرشاد دون الإفتاء من خلال حالة\عيّنة عرضت لي ؟   
إنّ طرح الأسئلة العقليّة حول القرآن الكريم ليس أسلوبا مذموما في ذاته ؛لكون القرآن الكريم مجَّد العقل فيما يربو عن ألف آية، وبنى محاججته للمشركين والمخالفين على بيّنات العقل وأدلته. لكن    العرض على العقل المجرّد ليس كافيا للفهم والتّعقّل في كلّ الأحوال ، خصوصا في موضوعات آيات التّشريع التي تنزّلت في سياق اجتماعي تعالجه بالدّرجة الأولى، وتستمرّ الحال فيها على أصلها إلاّ أن يحدث التّغيير في واقع حال النّاس ممّا قد يدعو للاجتهاد في فهم النّص بما يحقّق مقصد الشّارع ولو على وجه الظنّ، كما هي طبيعة الأحكام التّشريعيّة في أغلبها. وفي هذا الإطار نفهم مسألة الحجاب بين الحرائر والإماء ؛ فالحَرة صاحبة قرارها الحرّ وتصرّفها الحرّ ؛ لذا فإنّ مسؤوليتها كاملة ؛ فإذ تُكلّف تكون مسؤوليتها كاملة على تكاليفها الشّرعيّة. أمّا الأمّة ـ بمقتضى الحال والوضع آنذاك ـ فحرّيتها منقوصة وبالتّالى مسؤوليتها كذلك، لذا فهي تكلّف في حدود وبنسبة ما تتمتّع به من حرّية. فلو كُلّفت مثلا بالحجاب على الدّرجة نفسها التي كُلّفت بها الحرّة، لكان تكليفا لها بما لاتطيق في كلّ أحوالها.ومعلوم أنّ الإماء المسلمات كنّ حينذاك ملكا لمسلمين ولمنافقين ومشركين وربّما يهود ، وهي مجبرة على طاعة سيّدها، فلو كلّفت بهذا التّكليف الذي هو في جانب واسع منه سلوك اجتماعي، ثمّ لاقت العنت بالمنع من سيّدها فالمشقّة حاصلة لها، والتّكليف بما لا يُطاق وارد بشأنها، وهو ما ينافي خاصّية التّكليف بما هو في الوسع «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(1). وعلى كلّ فالقرآن الكريم والسّنّة المطهّرة تعاملا في أحكام الرّقيق عموما على أنّها الظّاهرة الآيلة للزّوال، لو فقه المسلمون حقيقة تلك الآيات والأحاديث الشّريفة. أمّا مسألة العدل بينهن، فلا تحتاج إلى نصّ يخصّها لأنّ الأمر بالعدل في الإسلام مع كلّ أحد حتّى العدو ذي الحقد والشّنآن. ويكفى فيها وصايا النّبي ﷺ بالعبيد عموما كحديث أبي داود عن المعرور بن سويد، قال : دخلنا على أبي ذرّ بالربذة ، فإذا عليه برد، وعلى غلامه مثله، فقال : يا أبا ذرّ ، لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلّة. وكسوته ثوبا غيره؟ قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول: هم إخوانكم، جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليكسه ممّا يكتسي، ولا يكلّفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه» (2). وروي أنّ عثمان بن عفان رضي اللّه عنه دعك أذن عبد له على ذنب فعله ، ثمّ قال له عثمان بعد ذلك : تقدّم واقرص أذني، فامتنع العبد، فألحّ عليه، فبدأ يقرص بخفّة، فقال له: اقرص جيّدا، فإنّي لا أتحمّل عذاب يوم القيامة، فقال العبد : وكذلك يا سيدي : اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضا. وكان عبد الرّحمن بن عوف إذا مشى بين عبيده لا يميّزه أحد منهم، لأنّه لا يتقدّمهم، ولا يلبس إلاّ من لباسهم. ومرّ عمر يوما بمكّة فرأى العبيد وقوفا لا يأكلون مع سادتهم، فغضب وقال لمواليهم : ما لقوم يستأثرون على خدّامهم؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم. ودخل رجل على سلمان رضي اللّه عنه فوجده يعجن، فقال له: «يا أبا عبد الله، ما هذا؟ فقال:بعثنا الخادم في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين. هذا ممّا أسداه الإسلام للرّقيق من أياد !
ومن النّاحية المنهجيّة، فإنّنا لا نستطيع فهم التّشريع في القرآن الكريم والسّنة الشّريفة دون التوفّر على أدوات الفهم السّليم، وأخصّ هنا أداتين : اللّغة العربيّة في أساليبها وأدواتها، والسّياقات الاجتماعيّة، ومنها ما يعرف في التّفسير وعلوم القرآن بأسباب النزول، وفي السّنة بأسباب الورود، فعرض المسائل على العقل مجرّدا من أدوات المعرفة اللاّزمة في علم ومعرفة، تكون بمثابة تمرير الشّكل أو الصّورة على جهاز ماسح ضوئي (سكانير) يخرج لنا معالم الصّورة الظّاهرية لكنّه لا ينفذ بنا إلى تفاصيلها ومكوّناتها كاملة على حقيقتها. مهما بلغ الماسح من دقّة . نسأل اللّه تعالى لنا ولكم برد اليقين ، وفضيلة الأناة ، ونفاذ البصيرة . وبعث في نفوسنا وعقولنا نور الحقّ والحقيقة ساطعا .
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 286 (2) رواه البخاري