قراءات

بقلم
محمد بن الظاهر
الممارسة الحوارية والرؤية الإستشرافية قراءة في كتاب«حوارات من أجل المستقبل» لطه عبد الرحمن
 على سبيل التقديم
كلّ فكر لا يستشرف صاحبه مآل الحاضر لا يعول عليه؛ فالرّؤية الإستشرافيّة تقوم على قراءة واعية مدركة لما حدث، هذا الماضي الذي ما ينفك يشكّل الحاضر، لا أتحدث عن الماضي الممتد نحو الحاضر والآتي من المستقبل ويحوّلها إلى كائنات تراثيّة. الرّؤية الإستباقيّة ليست ضرباً من التّنجيم أو قراءة الطّالع ولا ترفاً فكريّاً، بل هي رؤية لا تنفصل عن منهج وموضوعيّة علميّة. وبهذا الفرش المقارباتي لمفهوم الإستشراف foresight، نعرج إلى قراءة لأحد مؤلّفات الأستاذ طه عبد الرحمن المعنونة بـ «حوارات من أجل المستقبل»(1). وهو كتيب عن الحوارات التي أجرتها معه مؤسّسات إعلاميّة مغربيّة وعربية، و«لم تكن هذه الحوارات أبدا من نوع «الدردشات» التي يملأُ بها الفراغ في الصّحف أو يُزجى بها الوقت عند الإرسال»(2) ولاتقلّ عن مؤلّفاته في المنطق وفلسفة اللّغة، بل هي بيانات كاشفة وتأمّلات هادفة كما يقول.
يحتوي الكتاب على تقديم بقلم المؤلّف نفسه وثمانية أبواب والتي منها سنجعل فصول هاته القراءة.
الحوار والحوار وحده، ولا شيء غير الحوار، هكذا جاء عنوان التّقديم ونعرف أنّه أحد أهمّ مؤلّفات الرّجل كانت وما تزال «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام»(3). وبيّن أن الحقيقة الحواريّة تقوم على:
أ) طرق الحقّ متعدّدة، فالحقّ متغيّر وأصله أن يتغيّر ويتجدّد وما كان أصله متجدّدا فطرقه متعدّدة. وكلّ تعدّد في الطّرق يستدعي الحوار بين المتوسّلين بها. 
وكأنّه هنا يُحي الخلاف الفلسفي بين ابن رُشْد والغزالي والطّرق الموصلة للحقّ. وكلٌ من الفيلسوف/ابن رشد والمتصوّف/ابن عربي والفقيه/الغزالي له مسلكه، وكَذٓلِك الفرق الكلاميّة؛ لكن محطّاتهم الأخيرة واحدة؛ فالحقّ ذو الجوهر الثّابت واحد لا يتغيّر، عكس ماجاء في الكتاب، فالحقّ«على خلاف الرّأي السّائد، ليس ثابتاً لا يتغيّر، بل أصله أن يتغيّر ويتجدّد»(4).
ب) أنّ الحوار المتواصل يفضي إلى تقلّص الخلاف بين المتحاورين إذ ينصرف ذو الحجّة الواهية متى تبيّن له تهافت حججه إلى القول برأي من يخالفه، فالحوار ينزل منزلة الدّواء الذي يشفي الشّقاق.
ج) الحوار يعمّق مدارك العقل؛ إذ هو بمنزلة نظر من جانبين. والعقل يتقلّب بتقلّب النّظر في الأشياء وعلى قدر تقلّبه، يكون توسّعه وتعمّقه.
كل رفض للحوار هو قتل لروح «العقلانيّة النّافعة»، هذه المعرفة الممتحنَة من تجابه الرّؤى(جمع رؤية) وقتل لروح «الجماعة الصّالحة». وهذان الرّوحان تورِّثُهما الممارسة الحواريّة.
ولكلّ هذه الإعتبارات اقتضت الممارسة الحواريّة أن تكون حياة العقل وبه وجب القول، ولمّا لم يجد حديثه سامعاً أودعه للمستقبل لعَلّ ساكنيه يلبّون النّداء.
تراثيات: نحن في التراث كما نحن في العالم
لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه:
الإنسان كائن له تراث والمهموم بسؤال الهويّة وسؤال الذّات لا جرم من رجوعه إلى تراثه متقصّياً عمّا يقيم هذه الهويّة، وكلّ قطيعة بإسم الحداثة لا تعدو أن تكون مجرّد وهم، فهاته الحداثة modernity سندها التّراث الغربي الحاملة لسماته، كما يقول الدكتور طه عبدالرحمان، فـ «الموضوعيّة» و«العمليّة» و«العقلانيّة» «معايير نفسها ليست إلاّ قيماً أنتجها هذا التّراث الأجنبي، وليس من «الشموليّة» أو«الكونيّة» إلاّ ما لهذا التّراث نفسه»(5). وبالتّالي فإنّنا نستشفّ هنا أنّه ليس هناك إطلاقيّة في القطيعة مع التّراث الأصلي، وكلّ وعد بالقطيعة لا ينتهي إلّا بإخلافه.
أغلب المناهج النّقدية للتّراث يصعب التّسليم بها وقبولها جدلاً فإنّه يصعب قبول تطبيقاتها ونتائجها، وكما يؤكّد د. محمد عابد الجابري  في «نحن والتّراث» فكلّ منهج له رؤيته والتي لا تنفصم معه. ثمّ إنّ صعوبة تطبيق النّتائج تأتي من ضعف قدرة أغلب المشتغلين بالتّراث وعدم امتلاكهم ناصية الأدوات المنهجيّة العقلانيّة والفكرانيّة(6)، والمنهجيّات المختزلة والمبتسرة أحياناً للتّراث والمستنقصة لرجاله.
إنّ التراث واحد، والكثرة لا تكون إلاّ في «القراءة». وعلى سبيل التّعريف بمفهوم «التّراث» فقد قارنه بمفهومي الثّقافة والحضارة اللّذان لا يقلاّن عنه مسالمة، وتعريفه كالآتي:
الثّقافة : نتاجٌ خِطابي وسلوكي يستند على قيم قوميّة حيّة.
            « التّراث: الثّقافة+قيم قوميّة ميّتة»
الحضارة: نتاجٌ خِطابي وسلوكي يستند على قيم إنسانيّة حيّة.
            « التراث:  الحضارة+قيم إنسانية ميّتة»
معناه «أنّه عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابِيّة والسّلوكيّة التي تحدّد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القوميّة والإنسانيّة، حيّة كانت أم ميّتة»(7). 
ويستعمل المؤلف قواعد من أمّهات القواعد لقراءة التراث يجملها في:
- قراءة تعتني بآليات النّص التّراثي.
- الإعتماد على مستجدات علم المناهج.
- نقد وتمحيص كافٍ لكل آلية مقتبسة من تراث أجنبي قبل تطبيقها على التراث الإسلامي العربي.
- تنقيح -أو تلقيح- الآليات ينبغي لها أن تكون من الجهتين.
تكمن جدّة كتاب د.طه عبدالرحمن «تجديد المنهج في تقويم التّراث» في مساهمته في «معرفة التّراث من حيث محدّداته الموضوعيّة ومقوِّماته الذّاتية على مقتضى موجبات النّظر العلمي الخالص، بحيث لا يجوز الاشتغال بتلك الأهداف الأخرى مثل «التّحديث» أو «العقلنة» أو «الاستصلاح» أو «التّقنية» إلاّ بعد تمام المعرفة بهذه المحدّدات والمقومات التّراثية.»(8). واهتمامه بالوسائل التي تمّ بها تقويم هذه المضامين ولم يكن غرضه تقسيم التّراث إلى وحدات وتفضيل واحدة على أخرى، نظرة تجزيئية (الجابري)-كما قال المؤلّف في نقده لقراءة الجابري في مؤلفه «تجديد المنهج»-. فالرجل نجح في زحزحة التراث بأدوات نقلها من تراثات أخرى مع الأخذ بالمقتضى المنطقي الذي يوجب على المنهج أن يستمد من الموضوع ذاته لا مسلطاً عليه من الخارج وقد أسماها بـ «الآليات المأصولة» في مقابل «الآليات المنقولة». وقد وقع افراط في معالجة التّراث من أسبابه التّاريخيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والسّياسيّة من قبل المنهجيّات المادّية وكادت أن تكون  «مقدّسة»، وكأنّه هنا يشير إلى حسين مروة وطيب تيزيني وغيرهما مِن أصحاب النّظرة الماركسيّة.
وفي إطار تصحيح المعرفة وتنويع الإنتاج والإشتراك في طلب الحقيقة فقد انتقد د. طه عبد الرحمن القراءة الجابريّة للتّراث بعدما كشف ثغرات هذه القراءة «الإبستيميّة» المزعومة، حسب قوله. ودعى إلى نظرة تكامليّة تتّجه إلى البحث من أجل معرفته من حيث هو كذلك.
وخلاصةً؛ فإنّ نظرة د. طه عبد الرحمن للتّراث تدعو إلى تشكيل تراث جديد بدل التّراث القديم، وتقوم النظرة على محدّدات ثلاثة:
محدد تداولي: كلّ مظهر من مظاهر الإنتاجية في التّراث حاملة لخاصّية العمل.
محدّد تداخلي: المعارف التّراثية تشترك اشتراكاً في وسائل إنشاء مضامينها ونقلها ونقدها.
محدّد تقريبي: المنقول عن الغير يخضع لتحويلات تصحيحيّة مختلفة ليصير ملائماً مع المقتضيات التّداولية للتّراث.
فلسفيّات: 
ألا إنّه لا يكون لنا من الحداثة والمعاصرة إلّا مالنا من القدرة على الإبداع والمبادرة!
يشكو د.طه عبدالرحمن تردّي واقع الفلسفة في الوطن العربي، شأنه شأن الأوضاع الأخرى، ذلك أنّه واقع تقليد وتبعيّة عمياء والتي ستسلمنا لآفتين: إحداهما تتعلّق بسلوكه الفلسفي وهي الخلط بين الفلسفة والسّياسة حيث يجري اعتقاد واهم بأنّ الفيلسوف يهتمّ بالظّواهر السّياسيّة كما يهتم بها عالم السّياسة والصّواب أنّ الأخير هذا يعنيه واقعها المادّي -السّياسة- بينما الفيلسوف بقيمتها المعنوية، وعليه فإنّ واجب الفيلسوف ألاّ يتيامن ولا أن يتياسر كما يقول. وليس لأنّ الفلسفة تترفّع عن اليومي والواقع، فالمشاركة في الأحداث ليس لها وجه مقرّر. وبالنّسبة للآفة الثّانية فتتعلّق بخطابه الفلسفي وهي آفة الفصل بين الفلسفة والمنطق ومردّها هنا سببان؛ فساد تصوّرهم عن النّطق أنّه أمر زائد عن الفلسفة والواقع أن لا تفلسف دون منطق. معنى هذا أنّ الأولى اتصال والثّانية انفصال، وحيث «أدّى هذا التّهلهل المنطقي في كتابة المفكّرين العرب إلى أن يوهموا قرّاءهم بأنّ التأليف الفلسفي لا يختلف في شيء عن الإنشاء الأدبي أو التّحرير الإعلامي، حتّى أصبح هؤلاء القرّاء يطمعون في أن يقرؤوا المقال الفلسفي كما يقرؤون صحيفة الصّباح عند الاستيقاظ أو يقرؤون قصّة المساء عند النوم [...] وفي هذا إيذاء كبير للقدرة الإجتهاديّة عند الإنسان العربي»(9).
كيف يصبح المتفلسف العربي مبدعاً؟، بهذا السّؤال ينقب باحثاً في دروب اللاّمفكّر فيه، حيث رد وجه السّؤال إلى المجال التّداولي، أي اليومي، ورجع إلى النّصوص في لغتها الأصليّة لينظر كيف يضع ويبني مفاهيمه ونظريّاته «أي [يقول] أراقبه في مختبره اليومي وهو يصنع فلسفته الخاصة به»(10).
كانت الخطوة الأولى في هذا المشروع هي تقويم الترجمة الفلسفيّة، فكان جواب سؤال القدرة على تفلسفٍ مبدع، هو أن تقرب له الفلسفة إلى حياته. ولا يمكن الإكتفاء بطريق واحد في التّرجمة للنّص الفلسفي، الأولى تتولّى تقريب المعاني الأساسيّة في النّص الأصلي وسمّى هذه المرحلة الأولى بـ «الترجمة التّأصيليّة» يتمّ فيها الاستئناس بالمنقول والثّانية بـ «الترجمة التّوصيليّة» ويتم فيها نقل المضامين من التي لا اتصال لها باليومي، والثّالثة بـ «الترجمة التّحصيليّة» وفيها يتمّ نقل ألفاظ النّص الأصلي كلّها. وخلاصة الأمر أنّ الترجمة لدى عبد الرحمن ينبغي لها «أن تكون مربّية للعقل على التّفلسف خطوة خطوة»(11). 
ناقش في هذا الصّدد كذلك مسألة مهمّة هي اللّغة الفلسفيّة والمعرفة أنّها لغة خاصّة، فوجد المؤلّفات «الفلسفيّة» الحديثة سجينة ترجمات تعسُّفيّة، والحال أن تكون جهودها تهدف إلى وضع المقابل العربي بفلسفة حيث شلّت، يقول، المنطق الدّاخلي للّغة الفلسفيّة  العربيّة وديناميّتها -لهذا نرى في كلّ مؤلفاته أنّ الاصطلاحات المستخدمة يكون وراءها جهد، كما بيّنا في مصطلح «فكرانيّة»/«الإديولوجيا»-. 
واللّغة الفلسفيّة التي يكتب بها د.طه عبد الرحمن هي كتابة استدلاليّة تنسيقيّة وهي ما نجدها في النّصوص الفلسفيّة الكلاسيكيّة والتي تقوم على التّلميحيّة أي تبتعد عن المباشرة. وقد أشار إلى نقطة أساسيّة أعتبرها رداً منه على من يقول بتجميع الكتابة بين مخاطبة الجمهور والمشاركة في همومه، حيث يقول د. طه عبدالرحمن: «فقد يشارك الكاتب في هموم الجمهور من غير أن يكون خطابه مفهوماً من لدن العموم، فقد يتناول هذه الهموم بطرق دقيقة لا يدركها إلاّ الخاصّة، لأنّ معرفتها والتّمكّن من أسبابها لا يتأتّيان إلاّ بدقيق الطرُق [...] والشّاهد على ذلك الكتابة العلميّة في مختلف شعب المعرفة، فهي لا تخاطب الجمهور مع أنّها تبلغ الغاية في المنفعة لهم»(12).
وآخر خصائص لغة د.طه عبد الرحمن الفلسفيّة، إلحاحها على تعدّد العقلانيّات، قاطعاً بذلك الطّريق نحو تبعيّة فكر غيره وفي هذا نجد نحته لمصطلح «التكوثر العقلي».
الهوامش
(1) عبد الرحمن (طه): حوارات من أجل المستقبل، منشورات الزمن، الدار البيضاء، 2000.
(2) المصدر نفسه، ص.، 8.
(3) عبد الرحمن (طه): في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، ط.2، الدار البيضاء،2000.
(4)  المصدر نفسه، ص.، 4.                                                           (5) المصدر نفسه، ص.، 12.
(6)_ يستعمل الكاتب «الفكرانية» في مقابل «إيديولوجيا». أنظر كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث»: «لقد غلب على الاستعمال لفظ «الايديولوجيا» الذي أخضعه البعض لمقتضى الصّرف العربي، فقال: «أدلجة» و«أدلوجة». غير أنّ تعريب هذا اللّفظ على هذا الشّكل لا يلبث أن ينقل إليه المعنى اللّغوي الذي يقترن بالمادة «د،ل،ج» والذي يفيد معنى «السّير في اللّيل»، ممّا يجعل هذا المفهوم معرّضاً لأن يحمل معنى قدحيّاً لا يليق ببعض المنازع الإيديولوجيّة النّافعة؛ لذا آثرنا اشتقاق المصدر الصّناعي: «الفكرانيّة»، بالقياس على صيغة «العقلانيّة»، تجنّباً للأخذ بهذا المعنى القدحي المحتمل، واعتقاداً بأنّ الباعث على استعمال هذا الاشتقاق هو واحد في المصطلحين: «العقلانيّة» و«الفكرانيّة»، فضلاً عن أن اشتراكهما في هذه الصّيغة يفيد في المقارنة بينهما». ص24 _ 25؛ ط.2، المركز الثقافي العربي، بيروت.
(7) المصدر نفسه، ص.، 16. (8) المصدر نفسه، ص.، 19.
(9) المصدر نفسه، ص.، 39. (10) المصدر نفسه، ص.، 41.
(11) المصدر نفسه، ص.، 43. (12) المصدر نفسه، ص.، 50.