نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
العلم والمعرفة، صعود السّلطة الخامسة في زمن الكورونا ...
 في أوج الأزمة الوبائيّة للفيروس التّاجي المُستجدّ، التي تشهدها دولة عظمى مثل فرنسا إلى جانب بقيّة دول العالم، وأمام ضرورة اتخاذ قرارات مصيريّة في علاقة بالتوجّهات والتّدابير الواجب اتّخاذها للتحوّط من أخطار وجوديّة، فرضتها الحرب الضّروس التي أعلنها الفيروس القاتل على البشريّة جمعاء، هرع رأس الدّولة الفرنسيّة بتاريخ التّاسع من أفريل / نيسان 2020 إلى معقل «ديديي راوول» عالم الطبّ الوبائي المثير للجدل ومدير المعهد الجامعي المتوسّطي لطبّ الأمراض المنقولة بمدينة مرسيليا، حيث جلس مصغيا كالتّلميذ الذي يتلقّى درسا توجيهيّا من لدن أستاذه، في صورة معبّرة على هيمنة سلطة العلم والمعرفة على باقي السّلطات في زمن الأزمات.
عندما نعي أنّ البروفسور راوول هو المثال الحيّ للعالم المتمرّد على دوائر النّفوذ ومنظومة اللّوبيات، التى تسيطر على المال والسّياسة والإدارة والتّشريع والاقتصاد والإعلام في بلاده، والتي كانت قد فتحت أبواب جهنّم عليه ولم تأل جهدا لشيطنته والتّشكيك في مصداقيّته وتجريم دوافعه والحطّ من مكانته العلميّة لأنّه تجاسر وقدّم علاجا زهيد الثمن ومتوفّرا في الأسواق وقادرا على إنقاذ الأرواح في حين أنّ الخطّة المرسومة كانت تقتضي دفع الوضع الصّحي إلى التعفّن والتّضحية بملايين البشر، حتّى يتمكّن المتنفّذون في عالمنا من بلوغ أهدافهم في فرض شروطهم على من  يبغي النّجاة بغرض المزيد من إحكام السّيطرة على عالمنا هذا، وعندما نستحضر أنّ السّياسي البرغماتي (وكذلك هو ماكرون) لا يرتقي أن يكون صاحب قرار مبدئي لا يحكّم فيه إلاّ ضميره، وهو في الغالب لا يعدو أن يكون سوى موفّق بين القوى المتصارعة التي أتت به إلى المنصب، حتّى تضمن في المقابل تطويع القرار الذي يُصدره حسب مصالحها الضيّقة، فإنّنا نقف إذّاك على البعد التّاريخي لهذه الصّورة المعبّرة وللتّحول الجذري في المفاهيم وموازين القوى الذي تبشّر به في قادم الأيام. لتحقيق هذا الانتصار الكاسح وغير المسبوق لم يكن في ترسانة البروفسور الثّائر سوى سجلّه العلمي الحافل وأنصاره من نشطاء المجتمع المدني الذين استمالهم إلى جانبه بإقناعهم بأنّ أمرا دُبّر بليل وأنّ عليهم التّخندق للدّفاع على الصّالح العام. انبرى الأحرار مدافعين عن العالم النّزيه ولم يتوانوا على فضح ممارسات ومخطّطات الجانب المقابل، مستعملين في ذلك المُتاح لهم من وسائل الإعلام البديل ووصل بهم الأمر إلى تهديد الرّئيس بحبل المشنقة وشفرة المقصلة وبالويل والثّبور وعظائم الأمور، وبتحميله مسؤوليّة الأرواح التي ستُزهق إذا ما هو رضخ للمؤامرة التي تستهدف الشّعب ولم يُقرّ البروتوكول العلاجي الذي اقترحه البروفيسور راوول.
لا يخلو التّاريخ القديم كما الحديث من شواهد وأمثلة تتجلّى فيها قيمة ودور العلماء والمهندسين في إنقاذ شعوبهم من مخاطر تهدّد وجودهم كما في المحن والأزمات. نذكر على سبيل الذّكر لا الحصر لجوء الملك اليوناني «هيرو» للعالم الفذّ  «أرخميدس» الذي طوّر له مرايا عاكسة مكنّته من حرق الأسطول الرّوماني عن بُعد وفكّ الحصار على مدينة سراقوسة بعدما أوشكت على السّقوط في أيدي الغزاة.  كما نسوق الفكرة المُبدعة التي تفتّق عليها ذهن الضابط «باقي زكي يوسف» من سلاح المهندسين في الجيش المصري والذي أقترح تجريف خطّ بارليف المنيع باستعمال مضخّات، تدفع بمياه قناة السّويس على السّاتر التّرابي لإحداث ثغرات فيه، بما يسمح بعبور الآليّات العسكريّة إلى أرض سيناء، عوض محاولة إزالته بالمتفجّرات والتي لم تكن لتجدي نفعا، وكان له بذلك دور حاسم في صنع النّصر بأقلّ الخسائر في حرب أكتوبر 1973. لا يمكن أن نُغفل في هذا السّياق دور المهندس الشهيد «محمد الزواري» في تطوير طائرات الأبابيل التي مكّنت المقاومة الغزاويّة الباسلة من تملّك سلاح رادع، يقلّص من الاختلال في موازين القوى مع المحتلّ الصهيوني  في معركة العصف المأكول، سنة 2014.
نرجع إلى زيارة الرّئيس الفرنسي، الذي لم يتمالك نفسه من سؤال أعضاء فريق البروفسور راوول عن أصولهم، لمّا لاحظ وجود وجوه ذات ملامح أجنبيّة، ليأتيه الجواب بأنّهم ينحدرون من تونس والجزائر والمغرب ولبنان إلى جانب دول إفريقيّة أخرى ناطقة بالفرنسيّة، ممّا أعاد تسليط الضّوء على معضلة الإفقار المعرفي لبلداننا بسبب هجرة الأدمغة وكيف أنّ دولنا ومجتمعاتنا بخياراتها وممارساتها لا يمكن إلّا أن تكون طاردة لكفاءاتها العلميّة، خصوصا إذا كانت هذه الكفاءات رافضة لمجاراة الوضع القائم وملتزمة بإعادة أمجاد الأمّة من خلال التّغيير الجذري لأوضاعنا المتردّية وتجاوز التخلّف الذي جعل سائر الأمم، مهما علا أو هان شأنها، تتجاسر وتتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها. هنا وجب التّنويه بأنّ البروفسور راوول هو أفريقي المولد والمنشأ، حيث وُلد وترعرع في داكار عاصمة السّنغال، وقد صرّح بأنّه يحمل أجمل الذّكريات على فترة حياته الإفريقيّة وأنّ حنينه لأفريقيا يجعله يوفّر الفرصة والمجال للتّألق والإبداع للأطبّاء والعلماء العرب والأفارقة بعدما أوصدت الأبواب في وجوههم وضاقت بهم أوطانهم بما رحُبت لأنّ الجهلة والطّغاة فيها يسودون.
في العالم الجديد، على الضفّة الغربيّة من المحيط الأطلسي وتحديدا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، لا يختلف المشهد عن ذاك الذي نراه في القارة العجوز وتحديدا في فرنسا. يقف أنتوني فاوتشي عالم الأوبئة المرموق ومدير المعهد الوطني للأمراض المعدية والمسؤول في البيت الأبيض على خليّة الأزمة المكلّفة بمجابهة وباء الكورونا، غير آبه بتقاسيم وجه الرئيس المتجهّمة وهو واقف خلفه على المنصّة، يلقنّه في عقر داره وأمام الملأ، درسا في التّفكير الهادئ ورجاحة العقل وقوّة الحجّة والرّأي المستنير بالعلم والمعرفة، ولا يتوانى على مخالفته الرّأي وإبراز مواطن الخلل في طروحاته العشوائيّة وفي قراراته المرتجلة، هكذا علنا وأمام وسائل الإعلام في المؤتمرات الصّحفية، التي تكاد تكون يوميّة. تتوالى وتتعالى تغريدات اللّوبيات المتنفّذة مطالبة بإقالة البروفيسور فاوتشي ويعضّ ترامب على أصابعه حنقا لأنّ يداه مغلولتان، فهو يدرك أنّ المساس بهذا العالم في هذا الظّرف سيكون له عواقب سياسيّة وخيمة. لقد أصبح الرّجل الذي شارف الثّمانين سنة نجما في أعين الأمريكيين، يحبّونه ويجلّونه ويقبلون على اقتناء مختلف السّلع التي أصبحت تحمل صورته.
معلوم بأنّ المنحة تولد من رحم المحنة وأنّ بلاء الوباء يُمكن أن يكون حمّالا لخير عظيم إذا ما وعينا الدّرس واستخلصنا العبر وأصلحنا ما بأنفسنا. في تونس كما في فرنسا، مكّنت الكورونا من تعرية القوى التى تجذبنا إلى الخلف، حيث أنكشف تحالف النّخب الفاسدة في السّياسة والاقتصاد في محاولاتها الخسيسة للتربّح الفجّ من الجائحة على حساب الشّعب المنكوب. فضحت الكورونا مجدّدا الأبواق المأجورة لإعلام العار التي آلت على نفسها، منذ انبلاج ثورة الحرّية والكرامة المجيدة، على ألاّ تزيدنا إلاّ خبالا، حيث لمّ تأل خلال هذه الأزمة جهدا في سلوك كلّ السّبل واستعمال كلّ الوسائل لضرب الجيش الأبيض في مقتل وهو في أوج المعركة مع الفيروس. بان لكلّ ذي بنان الدّور السّلبي للنّقابات المنفلتة والمتغوّلة في تعطيل المصالح (رفض قبول الحالات الحرجة لضحايا الكورونا في المستشفيات العموميّة مثالا) وممارسة صراع الطّبقات العلميّة بتسليط الدّهماء على النّخب (حادثة الإعتداء العنيف على الدّكتور العفّاس ومنعه من تأدية دوره الطبّي والبرلماني مثالا). في كلّ هذه العتمة رأينا أيضا بوارق نور وبصيص أمل لمّا عايننا المدّ التّضامني لشباب في مقتبل العمر يتجشّمون العناء ويجمعون المساعدات العينيّة ويوزّعونها على العوائل اللاّتي أقعدها العوز والعجز والحجر الصّحي، غير عابئين بالخطر المحدق الذي يتهدّدهم، رأيناهم أيضا ضمن فرق المتطوّعين لبناء وتجهيز مرفق صحّي متطوّر تمّ إنجازه في زمن قياسيّ وتخصيصه لمعالجة مرضى الكورونا، الشّيء الذي ذكّرنا بمستشفي يوهان الذي أذهلت به الصّين العالم بأسره، وجعلنا ندرك أنّنا ما زلنا قادرين على الإنجاز والإتقان والتميّز رغم الرّداءة التي تحاصرنا. أدركنا قدرتنا على البحث والتّطوير وتصنيع حاجياتنا بأنفسنا لمّا رأينا الرّوبوتات التى ابتدعتها العقول والسّواعد التّونسيّة وهي تجوب الشّوارع وتعاضد جهود الفرق الأمنيّة في فرض الحجر الصحّي العامّ أو تعقّم الفضاءات العامّة، كما زاد يقينا بقدرة أبنائنا لمّا رأينا المهندسين التّونسيّين يهرعون إلى مختبراتهم وورشاتهم لتطوير وصنع المستلزمات الطّبية لفائدة المستشفيات التي تشكو نقصا فادحا في آلات التّنفس ومعدّات التّعقيم والأقنعة والملابس الواقية، وتدعّم يقيننا بذلك لمّا رأينا تطوير الوسائل الافتراضيّة للتّواصل والعمل والدّراسة عن بعد، أحسسنا بأيّما فخار لمّا رأينا فريقا طبّيا عسكريّا يتحوّل إلى بؤرة الوباء في إيطاليا لمعاضدة جهودها في مقاومة الكارثة التي حلّت بهذا البلد المنكوب وتراءى لنا بأنّنا على صغر حجمنا ومحدوديّة مواردنا، فإنّه بإمكاننا أن ننتزع مكانا عليّا تحت الشّمس وبين الأمم، وغير ذلك خير كثير... 
لقد أجبرت الجائحة، القوى المتنفّذة على فكّ قبضتها المُحكمة، بحيث أفلتت الأمور عن سيطرتها ولو إلى حين، الشّيء الذي سمح لقوى مُهمَّشة وأخرى مُغيَّبة على البروز والتّعبير عن نفسها وإقامة الدّليل على قدرتها وجدارتها في لعب دور ريادي في عمليّة النّهوض بالأوطان وخدمة الشّعوب إذا ما توفّر المجال وعنّت الفرص  لذلك، كما برهنت على أنّ الكفاءات العلميّة إذا تمتّعت بالنّزاهة والوطنيّة ولم تبع ذممها في أسواق العمالة بعَرَض من الدّنيا الفانية ومارست دورها في توعية الشّعوب وصدحت بآرائها التي تخدم المصالح الوطنيّة دون غيرها (البروفيسور راوول وفاوتشي مثالا) فإنّها ستشكّل في ظلّ نظم ديمقراطيّة حقيقيّة وغير مغشوشة، سلطة توجيهيّة ورقابيّة خامسة تكون لها العلويّة المعنويّة على باقي السّلط التشريعيّة والتنفيذّية والقضائيّة والإعلاميّة، توجّه مساراتها وترشّد خياراتها وتصحّح أخطاءها بما سيضفي بنا إلى تكريس مجتمع المعرفة وإرساء اقتصاد الذّكاء المبني على الكفاءات العلميّة والمهارات الهندسيّة وليس على الامتيازات الرّيعيّة والغشّ والتّحيّل. لا غرو إذن أنّه في عالم ما بعد جائحة الكورونا، ستكون أهميّة السّلط بقدر نفعها للنّاس لا بقدر القوّة الغاشمة التى بحوزتها وجسامة الضّرر التي هي قادرة على أن تُحدثه وهذا ما سيجعلنا نشهد ميلاد وصعود سلطة العلم والمعرفة، على الأقل في الدّول التي ستبقى وتزدهر،  أمّا الأخرى التي سيصرّ الطّغاة والجهلة على التّشبث بقيادتها فسيطويها الزّمن ويلقيها في مزبلة التّاريخ.
« كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ» (سورة الرعد - الآية 17)
«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» ( سورة فاطر - الآية 28)