تمتمات

بقلم
محمد المرنيسي‎
خطوات على الرّصيف
 حاولت أن أطرح همومي في بيتي: وضعت كتابي وأوراقي وقلمي وساعتي ‏ونظارتي، وألقيت بجهاز المراقبة من جيب سترتي، تركت الكلّ وانطلقت ‏منفردا، متحرّرا من قيودي وشرودي وحدودي، هاربا من المطالب والرّغائب والمآرب ‏التي لا تنتهي ولا تبيد، إلاّ لتشرع من جديد في استحضار ما يفيد وما لا يفيد، من ‏غذاء ودواء وكساء وغطاء وعبارات الثّناء والوفاء.‏
خرجت لأستمتع بالنّظر إلى الفضاء والسّماء والأفق المغلق والأجواء، وأستمع إلى ‏أصوات النّاس وصخبهم، ولزفرات المحرّكات ومنبّهاتها، الكلّ يجري بلا توقّف، ‏ولكلّ وجهته وحاجاته ونيته، يسعى لتوفير متطلّبات الحياة، وكمالياتها وما لا حدّ له ‏من أمراض السّرف والتّرف .‏
مشيت على الرّصيف مسافة بعيدة بخطى وئيدة، لا ألتفت ولا أتفحّص الذين ‏يقابلونني؛ تجنّبا لما يتركه فضول النّظر من آثار وأضرار، كنت أستمتع بجمال ‏الأشجار والحدائق والأزهار، وبديع صنع الله في الخلق والأرض وعجائب الآثار ‏والأقدار.‏
استعرضت شريط ذكرياتي: أين ولدت، وأين درست، وأين اشتغلت، وما أنجبت، وما ‏جمعت من مال ومتاع، وما عملت ممّا يضرّ وما ينفع، وتساءلت:ما ذا بقي علي أن ‏أفعل قبل أن أرحل؟
أوقفني شابّ أنيق، وسألني بإلحاح: «ساعدني ياعمّ، أعنّي، فأنا محتاج لشراء دواء ‏لوالدي». حسبت أنّه نصاب، فأدخلت يدي في جيبي، فبرقت عيناه، وأخرجت علبة دواء ‏فارغة، وقلت: «يا ولدي، وأنا أبحث عمّن يشتري لي هذا الدّواء، فلترافقني إلى محلبة ‏قريبة، نسأل الجياع مساعدتنا معا». شعر بالهزيمة والسخرية،ولم يجد غير التّعبير عن ‏سخطه بملامحه، فعبس وقطب، زفر ثم نفر..‏
تابعت المسيرعلى الرّصيف أدعو الله أن يكفيني شرّ البشر، وحرّ الشّمس وطوفان ‏المطر، وشرّ طوارق اللّيل والنّهار، وبينما أنا غارق في بحر التّضرّع والمناجاة، فإذا بي ‏أحسّ بيد من الخلف تضغط على عاتقي بعنف، وبصوت أجشّ يسأل : «إلى أين يا أبا ‏الرّيحان؟»
التفت، فإذا بكهل فظّ غليظ الملامح، في عينيه مكر ودهاء، أحسست بالخطر، فقلت ‏بأسى بالغ: «أنا أبو الخرفان، تركتهم يثغون، وخرجت أبحث عن الكرام أمثالك، أسأل الله ‏أن لا يخيب فيك رجاءنا». نظر إليّ مستغربا، ثم ضحك وقال: «نحن إذن خرّيجو مدرسة ‏واحدة، مدرسة الاحتيال والنّصب والخداع، ما كان لنا أن نلجأ لهذا لنعيش بلا شرف ولا ‏كرامة، وغيرنا يرمي في صندوق القمامة ما يكفينا وزيادة.‏
معذرة يا أبا الخرفان، ما زال أمامك فسحة للاحتيال حتّى تشتد قرون خرفانك، وانتظر ‏حظك، فقد يكفونك همّ العيش فتحيا، وقد ينطحونك فتشقى، أمّا أنا فأعيش بلا خلف، ‏فمن يحمل اسمي؟ ومن يذكرني ويدعو لي بعد غيابي؟»
قلت: «نحن لا ندري ما الأصلح لنا؟ وما اختار الله لنا فهو خير، وقد تأتي الأيام بما لم ‏يكن في الحسبان، كلّ ما علينا هو أن لا ننسى أنّنا عبيد لله..‏».
أطرق رأسه ومضى، وعدت أدراجي أستعيد شريط الأحداث في هذا الظرف ‏الوجيز، وأعجب كيف نجوت من فخّ النّصابين بدون خسارة أو ضرر.‏
اقتربت من مسكني فإذا أنا بسائل مسنّ بالباب يسأل ولا من مجيب، حاولت تقليده، ‏وقفت خلفه، فالتفت إلي وقال عندما رآني: «لعلّ البيت غير مسكون يا صاحبي».‏
قلت: «كرّر الضّغط على زرّ التّنبيه حتّى تقلقهم فيستجيبون لطلبك أو يصرفونك».‏
نظر إليّ باستعلاء وقال: «أوَ تعلّمني ذلك؟»
قلت معاندا: «أما أنا، فسأقف بالباب حتّى يفتح لي، فكم من طعام قدّم لي في هذا البيت، ولا ‏أنسى فضل أهله.‏ التفت إليّ مرّة أخرى وقال ساخرا: «والله لو مكثت بهذا الباب عمر نوح ما انتفعت ‏بشيء،غير وجهتك واتبعني أهدك إلى..». 
قطع كلامه حين رآني أفتح الباب، نظر إليّ ‏بارتياب وقال:‏ «نحن شركاء في الغنيمة، وإلاّ..‏»
قلت بنبرة حازمة: «نعم،ولكن نقتسم أوّلا ما في جيبك قبل أن ندخل معا».‏
أعاد النّظر في هيئتي وملامحي، وهرول وهو يصيح: «السّلامة أولى، أنا لا أضحّي ‏بالموجود طمعا في الغائب المفقود، لا صداقة ولا شراكة ولا ثقة فيمن تجهله، ‏وترتاب في سلوكه، فالسّلامة أولى، السّلامة أولى».‏
دخلت بيتي واحتضنت همومي وأدواتي،أخذت قلمي ودونت بخط غليظ :‏
في بيتي سلامتي وسعادتي.‏