حوارات
بقلم |
د. حميد السراوي |
حوار مع الدكتور نورالدين الخادمي |
(1)
س: أستاذ نورالدّين، منذ مدّة وأنتم تشتغلون بالمقاصد تأصيلا وتنزيلا، في نظركم ما هي الإمكانات التي تتيحها المقاصد في المجالات الحياتيّة؟
المقاصد كما هو معلوم علم من علوم الشّريعة الإسلاميّة ومنهج من مناهج النّظر والعمل والاجتهاد والفتوى، فهي إذن تتواصل مع كلّ هذه المجالات الحياتيّة على مستوى الوعي الحقيقي والعمل الصّحيح والتّثمير بمعنى إيجاد الثّمرة.
ونعتبر أن مقاصد الشريعة في العصر الحالي تحضر بقوّة على مستوى الدّرس والبحث وعلى مستوى الإفتاء وعلى مستوى الاجتهاد وعلى مستوى الدّعوة والخطاب وعلى مستوى السّياسة والمجتمع المدني وكذلك على مستوى الوجود الإسلامي في الغرب والتّعارف الإنساني بهدف تعزيز المشترك الإنساني. المقاصد حاضرة بقوة في كلّ هذه المجالات، لأنّها تتناول المصالح والمفاسد. المصالح من جهة جلبها والمفاسد من جهة درئها، وهذه هي الأهداف التي يتطلّع إليها النّاس جميعا وكلّ إنسان عموما وكل مسلم خصوصا يعمل من أجل أن يصلح نفسه وأن يصلح مجتمعه وأن يحقّق النّفع للإنسانيّة، وهذا يتأطر بالمقاصد باعتبار موضوعها الذي هو المصلحة والمفسدة.
فحضور المقاصد مثلا في الفتوى والنّوازل كان حضورا قويّا يتمثل في أنّ عددا هائلا من القضايا الجديدة في البيولوجيا والطّب وفي الاقتصاد وفي الماليّة وفي الحياة العامّة، هذه النّوازل تأطّرت اجتهاديّا لتبيّن فتاواها مقارباتها انطلاقا من المقاصد الشّرعيّة باعتبارها إطارا مرجعيّا غائبا كذلك في الخطاب.
والخطاب بما هو بيان وإيضاح يتأسّس على المقاصد لتحقيق أهدافه وبناء الوعي به. إذن المقاصد الشّرعية هي حاضرة بقوّة في مجالات الحياة المختلفة، وهذا ملاحظ في الكتابات والفتاوى كما ذكرت لك.
(2)
فضيلة الدكتور الخادمي، كيف يمكن للمقاصد أن تسهم في ترشيد العمل الإسلامي وتوحيد جهود العاملين فيه للائتلاف وخدمة الأهداف المشتركة؟
نعم، تحضر المقاصد في ترشيد العمل الإسلامي وتحقيق الائتلاف وترسيخ التعاون بين العاملين في المجال الإسلامي، وتحضر أيضا في المجال العلمي وفي المجال الوطني، كلّ هذا يتأسّس على المقاصد التي تؤسّس لمقصد الوحدة بين المسلمين والتعاون والرّحمة بينهم.
المقاصد في مجال العمل الإسلامي هي الارتقاء بالنّاس علميّا وثقافيّا وفنيّا واجتماعيّا، هذا العمل الإسلامي هو توحيد الجهود بين كل الوطنيين وكلّ شركاء الوطن في اتجاه مصلحة وطنيّة واحدة، وحدة إنسانيّة، وحدة اجتماعيّة، نبذ للفرقة، نبذ للتّعصب، نبذ للطّائفية، فالمقاصد إذن في العمل الإسلامي تحضر كذلك بقوّة لأنّ الذي يعمل في هذا العمل الإسلامي إنّما يريد وجه الله سبحانه وتعالى، لا يريد الحظّ الذّاتي أو الانتصار لنفسه أو لحزبه أو لجماعته أو لعائلته، بل يعمل من أجل الصّالح العام وأن يعمل ليكون وجوده ووجود حزبه أو جماعته أو هيئته ضمن الفضاء الواحد في الأمّة وضمن الفضاء الواحد في المشهد العالمي، انطلاقا من أهداف ومقاصد هذا العمل الإسلامي.
العمل الإسلامي هو بأهداف الرّسالة نفسها في إطار العمل البشري وليس في إطار النّبوة والعصمة، فالدّعاة إلى الله سبحانه وتعالى يتصرّفون - باعتبارهم بشرا- بالرّسالة الإسلاميّة في إطار الاجتهاد وفي إطار المقاربة وليس في إطار عصمة أو في إطار نبوّة، فهذا أمر يتّصف به النّبي صلى الله عليه وسلم فقط، فإذا اعتبرنا أنّ المقاصد في مجال العمل الإسلامي هي تحقيق أهداف الرّسالة الإسلاميّة من حيث إصلاح الأوضاع والإسهام في إصلاحها بتدرّج ورفق وتوعية وحلم وسلم وبالفنون وكذلك بالمنتوجات والصّناعة والزّراعة والإدارة والبيئة، كلّ هذا من رسالة الإسلام والعاملون في الحقل الإسلامي هم معنيّون بهذه الرّسالة في إطارها الإنساني وفي إطارها الاجتهادي.
فإذا استحضروا هذه المقاصد عملوا أكثر من أجل الإسهام في عمليّة الإصلاح مع جميع المصلحين، وحقّقوا بهذا الإسلام النفع المادي والرّوحي، والنّفع الفردي والجماعي، والنّفع الدّنيوي والسّعادة الأخرويّة، بإذن الله سبحانه وتعالى.
(3)
فضيلة الشيخ، نلاحظ في الواقع الحالي للأمّة المسلمة فرقة شديدة بين مكوّنات وتيّارات متعدّدة، ماهي الأسباب التي ستؤدي إلى تجاوزالفرقة، لنحقق هذه المقاصد الجميلة الطّيبة؟
هذه الأسباب كثيرة والأصل أنّ يتمّ تشخيص هذه الأسباب تشخيصا دقيقا من قبل كلّ المعنيّين كالعلماء في مختلف الاختصاصات كعلماء الاجتماع والنّفس والدّين وكذلك المربين والأئمة ومكوّنات المجتمع المدني، والنخبة بأنواعها، كلّ هؤلاء معنيّون بتشخيص الأسباب العميقة التي أدّت إلى هذه الفرقة وغذّتها وآلت بها إلى مآلات ذميمة على مستوى التفرّق القويّ الشّديد، وعلى مستوى التعصب والنّزاع وربّما الوقوع في الانقسامات في الدّاخل الوطني أو التّمادي إلى مشروعات طائفيّة أو عرقيّة خارج إطارها الوطني وخارج إطار الوحدة الإسلاميّة، وخارج إطار المنطق الإنساني.
ومن هذه الأسباب هناك أسباب (ذاتيّة) تتعلّق بمستوى الوعي بوحدة النّاس ووحدة الأمّة بمستوى المقاصد التي هي إطار واسع لاستقطاب النّاس وامتصاص ما قد يؤول إليه اختلافهم وتفرقتهم من التّنابز بالألقاب وربّما التّناحر. تمثّل هذه المقاصد إطارا مهمّا لتطويق الخلافات الذّميمة ومنع آثارها السّيئة، ولذلك فإنّ الوعي بالمقاصد مهمّ جدا في إزالة هذه الأسباب أو التقليل منها.
هذه الأسباب المتعلّقة بفرقة الأمّة وفرقة المجتمع أيضا هي من الأسباب الذّاتية كالتّعصب للجهة والتّعصب للحزب أو التّعصب للقبيلة أو التّعصب للوطن تعصّبا ذميما. الإنسان يحب وطنه بلا شكّ ويغار عليه ويدافع عنه ولكنّ لا ينبغي أن يؤدي هذا الحبّ للوطن إلى الوقوع في تعصّبات مذمومة، كالقطيعة مع الشعوب الأخرى أو ذمّها، أو في إحداث القلاقل والفتن معها، فالمحبة للوطن أمر واجب لكنّ التفتّح على الآخر والتعارف مع البشر أمر واجب أيضا، وهذه مقاربة مهمّة جدّا تتأسّس على الوعي والفعل، وتتأسّس على الرّوح والإرادة والحرّية، وتتأسّس على علميّة قويّة جدّا، وعلى نفسيّة عميقة جدّا تؤمن بالله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الكون وخلق هذه الأرض وخلق النّاس جميعا من أجل التّعايش السّلمي بينهم، لأنّه وضع الأرض للأنام كما جاء ذلك في قوله « وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ» ، ثم خلق النّاس باختلافات في المناهج والرّؤى وفي زوايا النّظر وجعل ذلك ابتلاء لهؤلاء الناس جميعا وأمرهم بأن يحسنوا إدارة هذا الاختلاف «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ»، فهذه أسباب ذاتيّة.
وهناك أسباب موضوعيّة لابدّ من ذكرها، وهي أسباب تتعلق بصراعات في كثير من المجالات، نحو استهداف الأوطان ونحو استهداف العمران، ونحو إحداث الفرقة داخل الجسم الإسلامي وداخل الأمّة الإسلاميّة، هذا الأمر لا بدّ أن نعي به والوعي به أمر مهمّ جدّا في حسن التّعامل معه وفي درئه وإبعاده حتّى لا يؤدّي هذا الأمر إلى فرقة الأمّة وإلى انقسام المجتمعات والأوطان.
(4)
فضيلة الدكتور، ماهي السبل الكفيلة بإرجاع الأمّة إلى قوّتها وإلى تكاملها وائتلافها؟
الأمّة هي مثل الفرد ينمو ويتطوّر ويقوى ويضعف وتحيط به مشكلات وملابسات، ولكي تستعيد هذه الأمّة دورها ورسالتها في العالم بين الأمم لا بدّ أوّلا من تشخيص أمراضها وأسباب تفرّقها وأحوالها التي آلت إليها بعد فترة طويلة من الاحتلال الأجنبي ومن الاستبداد بأنواعه.
هذه الأمّة وحدتها وعزّها أوّلا في إيمانها بالله سبحانه وتعالى والتّصديق بكتابه ورسالة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأيضا وحدة هذه الأمّة في وحدة أوطانها وفي وحدة شعوبها وفي وحدة نظمها وخياراتها الحضاريّة والإنسانيّة. وحدة هذه الأمّة هي في إرادتها الحرّة وفي إنجازها الفعلي في التّنمية وفي البناء الحضاري وفي تقوية الاقتصاد وفي منظومة الصّحة وفي التّشغيل وفي الأدوات وفي الآليات وفي التّعليم وفي الشّراكة الدّاخليّة والخارجيّة .
إنّ استعادة هذه الأمّة لقوتها أمر فيه العلم وفيه العمل وفيه الإرادة الحرّة كما ذكرت وفيه أيضا التّشخيص الدّقيق وفيه التّجاوز والتّظافر والتّفاؤل، وفيه النّأي بهذه الأمّة عن التّجاذبات الحزبية والطّائفية والعرقيّة والمذهبيّة .
هناك خصائص التّنوع في هذه الأمّة وخصائص الثّراء وخصائص إمكانيّة التّجاوز وإمكانية الصّعود، وقد وصفت هذه الأمّة بأنّها أمّة وسط «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا». والوسط هو العدل وهو الاستقامة وهو الخطّ المتوازن الذي يكون بين طرفي نقيض، بين طرفي معارضة، ويكون هذا الخطّ المستقيم في الوعي وفي الفعل وفي البرامج وفي السّياسات.
لكنّ خطّ الوسطيّة المستقيم ليس لديه نمط واحد من حيث الكمّ ومن حيث المقادير ومن حيث الوصفات والتّشخيصات، فهو أمر اعتباري ذاتي، أمر اعتباري نسبي يختلف باختلاف الزّمان والمكان والحال وباختلاف الأوضاع السّياسية والاجتماعيّة، المهمّ أن تظلّ هذه الأمّة بالوسط كما شهد لها القرآن بذلك.
وهذه الوسطيّة هي قوّة الأمّة واعتدالها ونماؤها وهي حريتها وكرامتها وهي استقلالها وسيادتها، وإذا تمسّكت الأمّة بوسطيتها تحقّقت إن شاء الله سعادتها. طبعا هذا الموضوع فيه كلام مجمل وعام، وتدقيق هذا الكلام يكون على مستوى البرامج والعلم والخطط الوطنيّة والوظيفيّة والسّياسيّة، وكلّ ما هو مطلوب لتتجاوز الأمّة وضعها نحو الأفضل والأحسن وفق وعد الله سبحانه وتعالى ووفق السّنن الكونيّة وقوانين التاريخ ومنطق الأمور.
|