في الصميم

بقلم
د. مصطفى حضران
سؤال الهوية في الرؤية الإسلامية
 الإسلام دين عالميّ يتّجه برسالته إلى البشريّة جمعاء،‎ ‎وعالميّة الإسلام هذه، تجعل الثّقافة ‏الإسلاميّة منفتحة ومتجاوبة مع ثقافات الشّعوب الأخرى. فالإسلام  يرفض مقولة «الهويّة الضّيقة» ‏أو «الهويّة العضويّة» التي تهدف إلى طمس هويّات الشّعوب، وتنميط عاداتهم وثقافاتهم في قالب ‏ثقافيّ ومعرفيّ واحد، بل نجده يؤسّس «للهويّة الجامعة» أو«الهويّة الفضفاضة والممتدّة»، التي بفضلها ‏تستطيع كلّ الجماعات المنضويّة والمكوّنة للمجتمع الإسلامي، من الاحتفاظ بخصوصيّتها والتّعبير عن ‏ذاتها. فالحقيقة التّاريخية تؤكّد أنّ الإسلام احترم كلّ الهويّات التي ارتضى أصحابها طوعا العيش ضمن ‏نسيجه الاجتماعي، دون إقصاء أو تمييز بسبب اللّغة أو الجناس أو الدّين . ‏
فالمنهجيّة الإسلاميّة تطرح مفهوم عالميّة الهويّة بشكل لا يقصي وجود هويّة الآخر وثقافته ‏ليصبح وجود الآخر أمرا ضروريّا ليس فقط في الخريطة الإنسانيّة فحسب، بل لا يمكن أن تتحقّق ‏عالميّة الإسلام دون اعتراف بهذا الآخر مهما اختلفنا معه، فالتّصور الإسلامي يعترف بالتّنوع ‏والاختلاف البشري في اللّون والجنس والثّقافة والطّبائع، فالمجتمع الإنساني وإن كانت أفراده متشابهة في التّكوين ‏العضويّ والهيئة الخلقيّة، لكنّه ليس كذلك في الاستعدادات والتّكوينات النّفسيّة والتّجارب التّاريخيّة، ‏والألسن اللّغويّة والعلاقات والعادات الاجتماعيّة، وهذه كلّها تشكّل عوامل الاختلاف والتّمايز بين ‏النّاس، هذا التّنوع والتّعدد الإنساني حقيقة موضوعيّة يعتبرها القرآن الكريم آية من آيات الله تعالى ‏الباهرة «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»(1)‏ ‏.‏
فإذا كان التّاريخ المعاصر يؤكّد أنّ السّبب الرّئيسي في ظهور الطّائفية راجع لقمع ثقافات ‏الجماعات الصّغرى المكوّنة للجماعة القوميّة، فإنّ التّجربة الإسلاميّة عكس ذلك إذ «الدّولة ‏الإسلاميّة، كان يوجد بها هويّات مختلفة، لكن مع ذلك غير متنازعة، فالإسلام قبل التّنوع داخل إطار ‏شامل من الوحدة، وحدة ليست عضويّة وإنّما فضفاضة، هو تنوّع قد سمح للجماعات الإثنيّة المختلفة ‏بأن تبدع من خلاله، مثل إبداع الأكراد وإبداع العرب المسيحيّين واليهود»‏ (2) ‏. ‏
فالهويّة من منظور إسلامي هويّة منفتحة على كلّ الحساسيّات الثقافيّة المنضوية والمكوّنة ‏للمجتمع الإسلامي، وليست هويّة عضويّة كما طرحها الفكر الغربي، والتي انتهت في الأخير إلى هويّة ‏عنصريّة ترفض الأقليّات الأخرى وثقافتها وعاداتها ولهجاتها. يقول الجابري: «فكان العربي هو المسلم، ‏والمسلم هو العربي، لم تكن الهوية تتحدد بالنسب، بل كانت تتحدد حضاريا بالانتماء إلى الثقافة العربية ‏الإسلامية، وسياسيا واجتماعيا ودينيا بالانتماء إلى إحدى الهويات الصغرى عرقية مذهبية دينية ‏طائفية»‏(3) ‏.‏
فلسفة الإسلام في استيعاب الهويات الصغرى‏
‏     من معالم التّجربة الإسلاميّة الاستيعاب التّام لكلّ القوميّات والأقليّات، والاعتراف بحقوق كلّ ‏المواطنين على اختلاف لغاتهم ومعتقداتهم وأجناسهم، فالإسلام أسّس مسلكا فكريّا استطاعت من ‏خلاله كلّ الهويّات والحساسيّات من التّعبير عن ذاتها، وتمكين أهلها من ممارسة عاداتهم وطقوسهم، ‏كما تمليها عليهم ثقافتهم وعاداتهم.‏
(1) لغة القرآن:  إنّ اللّغة التي نزل بها القرآن الكريم، تؤسّس لثقافة الاعتراف بهويّة الآخر، تجلى ذلك ‏في أحد أهم ركائز الهويّة وهي اللّغة، فالقرآن تضمّن وحوى كثيرا من لغات القبائل العربيّة، وليس نزول ‏القرآن على سبعة أحرف ببعيد عن هذا الذي نبيّنه، وفي هذا إشارة قويّة للاعتراف بلغة الآخر، وعدم ‏إقصائها. لقد كان النّبي (ﷺ)، يتلو آيات الذّكر الحكيم بلغات متعدّدة ومختلفة مراعاة ‏وتيسيرا لمختلف القبائل، ولقد حدثت وقائع بين الصّحابة تؤكّد هذا التّنوع والاستيعاب اللّغوي لعدد ‏من القبائل، ومنها ما رواه عمر بن الخطاب قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورةَ الفرقانِ في حياةِ ‏رسولِ اللهِ (ﷺ)، فاستمعتُ لقراءَته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئٍنيها رسول اللهِ (ﷺ)، فكدتُ أساورُه في الصّلاةِ، فتصبَّرتُ حتّى سلَّم، فلببتُه بردائِه، فقلت: من أقرأَك ‏هذه السّورةَ التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول اللهِ (ﷺ)، فقلتُ : كذبتَ، أقرأَنيها ‏على غيرِ ما قرأتَ، فانطلقتُ به أقودُه إلى رسولِ اللهِ (ﷺ) فقلتُ : إني سمعت هذا يقرأ ‏سورة الفرقان على حروفٍ لم تقرئنيها، فقال : ( أرسله، اقرأ يا هشام) . فقرأ القراءة التي سمعته، فقال ‏رسولُ اللهِ (ﷺ) : كذلك أنزلت. ثم قال رسول اللهِ (ﷺ) : اقرأْ يا عمر . ‏فقرأت التي أقرأني، فقال :كذلك أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعةِ أحرفٍ، فاقرؤوا ما تيسَّر منه. ‏وذلك تسهيلا على النّاس وتيسيرا لهم، بأن يجدوا لغتهم التي تعارفوا عليها مبثوتة في القرآن ويقووا على  ‏نطقه وفق ما تصالحوا عليه. يقول الباقلاني «أنّه لم يقم دليل على أنّ جميعه بلغة قريش قال الله تعالى‏‏: «قرآنا عربيّا» ولم يقل: «قرآنا قرشيّا» قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا واحدا يعني حجازها ‏ويمنها»، وإذا تأمّلنا قوله تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ»(4) تبيّن أنّ القرآن نزل ‏بلسان العرب جميعهم، ولم ينزل فقط بلغة قريش أو بلغة قبيلة واحدة. فهو نزل بلغة عامّة وهي اللّغة التي ‏يتحدّث بها عامّة النّاس، وتسود كلّ مجالاتهم ومفهومة من الجميع.‏
(2) العرف والعادة: لقد جعل الإسلام من أصوله في التّشريع العادة والعرف، حتّى قيل العادة محكمة، ‏فما تعارف عليه النّاس وما أجمعوا عليه في عاداتهم وتعاملاتهم، أقرّه الشّرع وجعله من الأصول التي ‏يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشّرعيّة، فرفع الشّرع بذلك العرف إلى درجة الأصول ما لم تكن ‏مخالفة له. وفي هذا احترام لعادات الشّعوب وأعرافهم واعتراف بها.‏
اعتبرت الشّريعة عرف المكلف، وقبلته في مجالات كثيرة عملا منها بقاعدة اليسر ورفع الحرج عن ‏النّاس في حياتهم ومعاشهم، فلا يكاد يوجد باب فقهي إلاّ وقد اعتبرت الشّريعة فيه العرف وحكَّمته ‏حتّى نصّ الفقهاء على أنّ من قواعد الشّرع التي أسّس عليها قاعدة اعتبار العرف والعادة. وفي هذا ‏استيعاب وتعايش واضح واحترام كبير لهذه المجموعات وأعرافها وتقاليدها.‏
(3) العلاقة الزوجية: الإسلام وهو يؤسّس لنظام الأسرة، حرص حرصا شديدا على أن تؤسّس الأسرة ‏على الحرّية واحترام كلّ طرف للآخر، لتتحقّق مقاصد الزّواج وفي مقدمتها السّكينة والرّحمة والمحبّة، فلا ‏عجب أن تجد أحكام الإسلام في مثل هذه العلاقات الخاصّة والضّيقة جدّا بين الزّوج وزوجه، نجده ‏يشرّع قوانين تكفل الحقّ لكلّ طرف في الاحتفاظ بهويّته وثقافته، فلإسلام تعامل مع زوجة المسلم ‏الكتابيّة وفق قاعدة «لا إكراه في الدّين»، فالمسلم المتزوّج كتابيّة لا يجوز له مطلقا أن يمنعها من ممارسة ‏شعائرها والاحتفال بأعيادها والاحتفاظ بهويّتها التي تمثّل خصوصيّتها. قال الأوزاعي: «لا أرى بأسا بأن ‏يأذن لها في الكنيسة ولا أرى أن يمنعها» وإلى هذا ذهب ابن القيم بقوله: «وليس له منعها من صيامها ‏الذي تعتقد وجوبه».‏
تفاعل الهويات داخل المجتمع الإسلامي أهل الكتاب نموذجا‎.‎
تنظر ‏المنهجيّة الإسلاميّة إلى ثنائيّة الأنا والآخر نظرة تكامليّة لا إقصائيّة، فالأنا في فلسفة الإسلام ‏لا يحدّد وجوده وقيمته باستحضار الصّراع مع الآخر، لأنّ الأنا والآخر مهما اختلفا فهما في نهاية ‏المطاف إنسان تربط بينهما كثير من الرّوابط، رغم حصول الاختلاف والتّمايز الطّبيعي بينهما. ‏
«فالآخر وأنا، وأنا والآخر في الرّؤية القرآنيّة الكونيّة في الحقيقة كلّ واحد، متعدّد الجوانب ‏والانتماءات، وذلك هو الإنسان قرآنيّا، وحدة في تنوّع وتنوّع في وحدة لا تفاضل إلاّ في مدارج تحقيق ‏الذّات الإنسانيّة السّويّة، التي هي أصل الفطرة وغاية وجودها ومناط مسؤوليّتها واستخلافها في هذه ‏الحياة الدّنيا»(4) ‏ ‏.‏
وبهذا تمثل قيمة التّعايش بين الثّقافات والهويّات المختلفة مسارًا حضاريًّا، ينطلق من خلاله ‏المجتمع الإسلامي في صفٍّ واحدٍ للتّكامل والرّقي خدمة لمكوناته العرقيّة واللّغويّة والدّينيّة، كما أنّ قيمة ‏التّعايش ترفض رفضًا قاطعًا كلّ ما من شأنه أن يُذكّي روح التّعصب والإقصاء. ‏
تؤسّس الآية  13 من سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» لمجتمع إنساني عالميّ ‏تسوده أخلاق التّواصل والتّعارف والتّعاون، وتسقط كلّ دعوات العصبيّة المقيتة التي تجعل الإنسانيّة ‏عبارة عن جزر متناثرة هنا وهناك، كلّ جزيرة ترتاب ممّا عند الأخرى. كما تبيّن هذه الآية كذلك خلق ‏الاعتراف بالآخر وإبداء الرّغبة في التّعامل والتّعاون معه خدمة للبشريّة جمعاء دون النّزوع إلى الإقصاء ‏والتّجاوز.‏ فمنهج الإسلام يسقط كلّ موازين التّفاضل بين النّاس، المبنيّة على اعتبارات عرقيّة أو دينيّة أو ‏لغويّة، كما يزعم بعض النّاس اليوم إذ منهم من يرى أنّه شعب الله المختار، ومنهم من يرى أنّ عرقه ‏أرقى وأطهر الأعراق، وهكذا تتوزّع أوصال الإنسانية  بحسب رغبات دعاة الصّدام والصّراع، الذين لا ‏يحلوا لهم أن تتواصل البشريّة وتتعاون فيما بينها.‏
لهذا نجد من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة حسن التّعامل مع النّاس كافّة، وحسن التّعامل مع أهل ‏الكتاب خاصّة أو ما اصطلح عليه تاريخيّا بأهل الذمّة (5) ، كما في قوله الله عز وجل: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ ‏عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ‏الْمُقْسِطِينَ»(6)،‏ وفي قول النّبي (ﷺ): «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق ‏طاقتِه أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ فأنا حجيجُه يوم القيامةِ، وأشار رسولُ اللهِ (ﷺ) بأصبعِه إلى صدرِه ألا من قتل معاهدًا له ذمةُ اللهِ وذمةُ رسولِه حرم اللهُ عليه ريحَ الجنةِ ‏وإن ريحَها لتوجدُ من مسيرةِ سبعين خريفًا» (7).‏ 
فإذا كانت نصوص القرآن والسّنة، شكّلت الخلفيّة الفكريّة والثّقافيّة التي أصّلت في عقل المسلم ‏خلق التّعايش واحترام ثقافة الآخر، فإنّ التّجربة الإسلاميّة التّاريخيّة ممثلة في السّيرة النّبويّة، كانت ‏نموذجا عمليّا وتطبيقا راقيا في استيعاب الآخر والتعايش معه كيفما كان هذا الآخر مسلما أو كتابيّا، ‏فالأمر لم يبق متروكا للمسلمين، كلّ حسب سجيته ومزاجه ورغباته، بل الأمر تعدّى هوى ورغبات ‏الأشخاص، لهذا نجد الرّسول الكريم (ﷺ) قنّن هذه التّوجيهات والمبادئ فصارت ‏دستورا مكتوبا ملزما لكلّ مسلم‎.‎ فكتب السّير والتّاريخ، تؤكّد أنّه بمجرد وصول النبي(ﷺ) المدينة المنوّرة، ‏بادر إلى كتابة وثيقة لاستيعاب الواقع البشري الذي تميّز بالتّعدّد والاختلاف على أساس من ‏العدل وعدم الإقصاء. يقول الجابري:«لقد بدأ هذا الكيان في التّشكل دستوريّا مع الصّحيفة ‏المعروفة بصحيفة النبي(ﷺ)، وهي عبارة عن ميثاق قومي أبرمه النبي (ﷺ) بعد الهجرة مع سكّان المدينة من عرب ويهود، فكان هذا الميثاق قوميّا بالفعل لأنّه اعتبر في ‏إحدى بنوده أنّ المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعا أمّة واحدة متضامنون ضدّ أي اعتداء ‏خارجي. فها هنا وحدة قوميّة بين المهاجرين الآتين من مكّة والأنصار سكان المدينة واليهود ‏القاطنين فيها، في إطار هذه الوحدة القوميّة، والهويّة الجامعة، حافظت الوثيقة لكلّ قبيلة من ‏قبائل يثرب اليهوديّة منها والعربيّة وللمهاجرين من قريش على أعرافهم»(8).‏
لقد كانت هذه الوثيقة علامة شامخة في سماء الاعتراف المتبادل بين كلّ الهويّات والمكونات الثّقافيّة ‏والعرقيّة التي اختارت العيش داخل المجتمع الإسلامي، بحيث اعتراف الإسلام بالشّخصيّة المستقلّة لهذه ‏الجماعات والأقليّات، واعتبرتهم مواطنين كاملي المواطنة، وأسّست لمبدأ دستوري مفاده أنّ المواطنة ‏ليست تصنيفا على أساس الدّين واللّون أو العرق بل على أساس الانتماء للوطن، حيث نصّت على ‏أن ّ«اليهود أمّة والمسلمين أمّة» أي أمّة العقيدة وأنّ «المسلمين واليهود أمّة» أي أمّة المواطنة ‏بالتّعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم حقوقا متساوية باعتبارهم مواطنين حاملين ‏لجنسيّة الدّولة المسلمة. قال عنهم الخليفة الرّاشد عليّ كرم الله وجهه «إنّما أعطوا الذّمة ليكون لهم مالنا ‏وعليهم ما علينا».وممّا يؤيّد ذلك: أنّ فقهاء الشّريعة في جميع المذاهب، اعتبروا أهل الذّمة من (أهل ‏دار الإسلام) ومعنى أهل الدّار:‏‎ ‎أي أهل الوطن، أنّهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة، ‏يقول الشّيخ محمد الغزالي هذا الاتجاه يقول أنّ اليهود والنّصارى السّاكنين في ديار الإسلام «أصبحوا ‏من النّاحية الّسياسية أو الجنسيّة مسلمين، في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وإنْ بقوا من ‏النّاحية الشّخصيّة على عقائدهم، وعباداتهم وأحوالهم الخاصّة»(9)‏.‏
إن وثيقة المدينة (10)، باعتبارها عقداً تاريخياً للمواطنة يعدّ نموذجاً حضاريّاً أبدعته الحضارة الإسلاميّة، ‏جعلت جميع مواطنيها سواسية في الحقوق والواجبات، ولا فرق بين مواطن وآخر وإن اختلفت ‏توجهات ومعتقدات هؤلاء المواطنين‎.‎‏ فهي وثيقة أسّست للمواطنة الصّالحة التي يتعايش في ظلها جميع ‏المواطنين والمقيمين في انسجام وتعاون واحترام متبادل، مع تحميلهم جميعاً مسؤوليّة هذه المواطنة ‏وحقوقها ضامنة لجميع المواطنين حقوقا متساوية ليمارسوا دورهم كاملاً في خدمة ورقي وتقدم وطنهم ‏ومجتمعهم، حيث لا مكان في هذه المواطنة لمن يخرق بنودها ويعمل ضد وطنه وأبناء جلدته(11). ويؤكد ‏الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أن الذمي «مواطنٌ يملك من حقِّ المواطنة ما يملكه المسلمون دون ‏أي تفاوت في الدرجات»(12) ‏.‏
خاتمة:‏
‏فالإشكال في حقيقته يكمن في طريقة بسط وتناول موضوع الهوية، وذلك باستحضار بعض ‏المداخل الغريبة عن الثقافة العربية الإسلامية، فعندما يطرح بعض المفكرين مفهوم الصراع حول ‏الهوية، فهذه مقاربة تناقض الثقافة الإسلامية، إذ الأصل هو التعايش والتواصل بين كل الهويات ‏المكونة للأمة الإسلامية، رغم تعددها واختلافها، وكلما أمعنا النظر في مفهوم الهوية انطلاقا من ‏منظورها الإسلامي، إلا ووجدناها أكثر رحابة واتساعا وقبولا بالمخالف وأكثر استيعابا له، لأنه يجد ‏من خلالها فسحة لممارسة شعائره، والاحتكام إلى أعرافه، والمساهمة في تطوير مجتمعه ووطنه، ولا يحق ‏لأحد مهما كان أن يطمس هويته أو يتجاوزها بدعوى أنّها ثقافة أقلّية تخالف توجهات الأغلبية، إنما ‏الصراع حاضر في ذهن دعاة التحيز والانحياز، لفئة ولجماعة ولثقافة معينة دون غيرها، لأن فلسفة ‏التحيز تستدعي بالضرورة الانتصار لجماعة معينة ولثقافة معينة، ورفض ومعاداة من خالفها، هذه ‏هي نفسية وسيكولوجية المتحيز.‏
الهوامش‏ 
(1) سورة الروم - الآية 22‏
(2) عبد الوهاب المسيري «الهوية و الحركية الإسلامية» دار الفكر ط1 السنة 2009 ص24‏
(3) عابد الجابري «مواقف» عدد66 ط1 السنة2007 ص 33‏
(4) سورة ابراهيم - الآية 4
(4)  ‎دعبد الحميد أبو سليمان»الرؤية الكونية الحضارية القرآنية»المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط1 السنة 2009 ص83‏
(5) فإذا كان مصطلح أهل الذمة إنجازا باهرا في وقته وزمانه، يرمز لسماحة الإسلام وحضارته التي تأسست على قاعدة الحرية ‏والاختيار بدل الجبر والإكراه، وإذا أصبح اليوم  يشوبه كثير من التشويه والتلفيق، فيمكن الاستعاضة عنه بأي مفهوم آخر ‏تجنّبا للبس، مثل مفهوم المواطنة نظرا  لأنه ليس من ألفاظ الشريعة الملزمة.‏
(6) سورة الممتحنة - الآية 8‏
(7) سنن أبي داوود كِتَاب الْخَرَاجِ وَالْإِمَارَةِ وَالْفَيْءِ   بَابٌ فِي تَعْشِيرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا اخْتَلَفُوا بِالتِّجَارَاتِ   حديث رقم 2702‏
(8)  د عابد الجابري «مواقف» عدد 66 ط1 السنة 2007 ص 34 ‏
(9)  ‎الشيخ محمد الغزالي ، ‏‎»‎التعصب والتسامح‎ ‎بين المسيحية والإسلام « دار‎ ‎نهضة مصر‎ ‎للطباعة والنشر ط1  القاهرة السنة ‏‏2005‏
(10)  وقد ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري أن نصوصا من الوثيقة وردت في كتب السنة بأسانيد متصلة، وبعضها أورده ‏البخاري ومسلم.. كما أن بعضها ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه والترمذي ‏
(11) انظر محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية،  ص55 فما فوق
(12) محمد رمضان البوطي «الجهاد في الإسلام» ص 140‏