قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
في ذكري يناير
 (1) 
حلّت منذ أيام، في الخامس والعشرين من شهر جانفي/يناير ذكرى الثّورة المصريّة التي أسقطت نظام حسني مبارك بعد عقود ثلاثة من الحكم، وهي ثورة على خلاف غيرها من الثّورات ارتدّت إلى استبداد مقيت لم تعرف له مصر مثيلا رغم اختلاف التّقييم من جماعة اديولوجيّة فكريّة إلى أخرى ورغم مكابدة البعض في اعتبار ما جرى ثورة داخل الثّورة، وهم قلّة رغم ارتفاع أصواتهم وإصرارهم على تلبيس الواقع.
(2)
بعيدا عن جدال التّقييم ودون البحث في أسباب ما جرى وما يجرى ومن أخطأ ومن أصاب، وبعيدا أيضا عن النّبوءات وأحلام اليقظة، نودّ في هذا المقال التّأكيد على أمرين أساسيّين أولهما أنّ ثورة حقيقيّة حدثت في مصر وأن لا مجال في التّشكيك في ذلك اعتمادا على نظريّة المؤامرة لتهافتها في جميع الثّورات عامّة وفي الثّورة المصريّة خاصّة. وثانيهما أنّ استبدادا مقيتا يجثم الآن على كاهل المصريّين جميعا دون استثناء نخبة وشعبا، وأنّ هذا الاستبداد سيكون له من طول البقاء ما يجعله مؤذنا بخراب العمران في برّ مصر إن لم يتداركهم الله برحمته.
(3)
كانت مصر أكثر البلدان تهيؤا للثّورة وكانت النّذر تأتي مباشرة بها حينا ومنذرة بخراب كبير حينا آخر قبل أن يثور الشّعب بكثير، وأسباب ذلك كثيرة لا يمكن تعدادها كلّها، و لعلّنا نكتفي في تعداد الأسباب ببعضها دون الإطالة، ومن أراد المزيد فباستطاعته الحصول على مأربه من الدّراسات والتّقارير التي كانت تخرج في حينه عن الدّوائر المتخصّصة محليّا ودوليّا ومنها الأمم المتّحدة على سبيل المثال . 
لقد طال بقاء الحاكم في كرسيّه حتّى صار هرما ولم يكتف بعقود ثلاثة وكان ينوي المزيد، وبات التّغيير من الدّاخل مستحيلا بعد إصرار الابن على وراثة أبيه. ولا يخفي على أحد في حينه أنّ البلد كان يعاني من مشكلات جمّة أخطرها البطالة والفقر والعشوائيّات وارتفاع نسق الجريمة واهتراء الدّولة وانسداد الأفق وغياب الدّيموقراطيّة الحقيقيّة وظهور طبقة من المتنّفذين من ذوي المال والجاه صارت تتحكّم بكلّ موارد البلد وتحتكر ريعها دون أيّ رادع.
كان التّغيير يلوح في الأفق ولكنّ الوسيلة كانت محلّ جدال حتّى جاءت ثورة التّونسيين لتكون نبراسا ونورا يهتدي به المصريّون اللّذين هبّوا دون خوف مؤمنين بحقّهم في إنفاذ إرادتهم غير مبالين بسطوة النّظام، عازمين كلّ العزم على تحقيق أهدافهم، فكان شعارهم «عيش، حرية، كرامة وطنية» شعار الثّورة التي أسقطت النّظام.
(4)
سقط النظام وكان بعده ما كان من نزاع مع الجيش ومن انتخابات ودستور ورئيس منتخب وبرلمان وصراع وتآمر وغير ذلك ممّا لا يسعنا الخوض فيه، تاركين للتّاريخ أنّ يقول كلمته وللمنصفين مجال الإنصاف ولو بعد حين، وما ذلك بالهروب أو المخاتلة ولكنه تجنّب للجدال حول ومضة من ومضات الزّمن مرّت بما لها وما عليها، ويقينا منّا أنّ ما أعقبها انقلاب لا جدال في توصيفه وكارثة بكلّ المعاني لا مجال لتبريرها ومن لا يجد في نفسه حرجا من التّبرير فلا يعنينا أمره لأنّ تبريره لا يمكن أن يدلّ إلاّ عن حقد فكري أو استبطان للإستبداد لا شفاء منه وكلا الأمران لا يصدر إلاّ عن قلّة سيرميها التّاريخ في مزابله ولو بعد حين.
خرج الناس ثائرين آملين أن ينصلح حال البلد وأن يكون لهم الحقّ في اختيار من يحكمهم وفي العيش بكرامة وحرّية وأن يكون البلد بما فيه من نعم وخيرات ملكا لهم جميعا دون استثناء فئة واستعلاء إحداهما على الأخرى. خرج النّاس آملين مصرّين ولكن الأمل لم يدم طويلا، وها هي الثّورة تصاب في مقتل وينتهي أمرها إلى خدعة سرعان ما تحوّلت إلى خديعة ثمّ إلى استبداد فردي مقيت أين منه ما سبق من عصور فى تاريخ مصر حتّى لكأنّها عادت إلى  فرعونيّة ما قبل موسى عليه السّلام .
(5)
تبخر حلم المصريين في «العيش و الحرّية و الكرامة الوطنيّة» وتحوّل البلد إلى طاحونة تطحن الأخضر واليابس، وعاد النّاس يلهثون وراء لقمة الخبز المغمّسة في الذلّ، فلا يجدونها إلاّ بشقّ الأنفس، أمّا الدّيمقراطيّة والحرّية والتّداول السّلمي على السّلطة والمشاركة في القرار وغير ذلك ممّا كان متاحا بعد «ثورة يناير» فقد أُزيل من قاموس المصريّين السّياسي بعد موت السّياسة في البلد وتحوله إلى سجن كبير عليه سجّان وجلاّدون لا يدركون للسّياسة معنى ولا يفهمون في الحكم وأصوله وإنّما هم وكلاء عن غيرهم يحتقرون الشّعب وثروته وثورته رغم ما يحدثونه من ضجيج.
دفع الإخوان المسلمون كتنظيم وجماعة أو كتيّار فكريّ وسياسي ثمنا للثّورة ليس الآن مجاله رغم كلّ الأراجيف التي يرجف بها مناوئوهم، ولكنّهم دفعوا ثمنا باهظا للانقلاب لم يكن أشدّهم تشاؤما ليتنبّأ به في زحمة ما حيك لهم على مدى عقود. آلاف مؤلّفة منهم تقبع الآن في سجون قاتلة شعارها الموت البطيء، وآلاف أخرى مشرّدة أو أحيلت إلى صنوف أخرى من المعاناة والتّنكيل، ضربت بنية الجماعة كليّا وصودرت ممتلكاتها ثمّ جرى تشويهها على نحو لم يحدث مع أيّ تيار فكري آخر وبقدر من الحقد لم يسبق له مثيل، حتّى وصل الأمر إلى اعتبار الجماعة وفكرها وصما يتبرّأ منه المتحذلقون من مدّعي الانتساب إلى المرجعيّة الإسلاميّة أو الصّادقون منهم على حدّ السّواء طلبا للسّلامة أو رغبة في التّميز.
كان مطمع المناوئين للجماعة أن يكون أصحاب الحظوة والقرار حين ساندوا الانقلاب ولكّن سيّدهم لم يرحمهم فأصبحوا خدما له بلا مقابل، وهكذا وبفضلهم ترك الإخوان دون سند ونهشتهم كلاب السّلطة حتّى استكانوا ومن رفض منهم ناله ما نال الإخوان، أمّا البلد فقد استحال إلى مزرعة للحاكم لا ترتع فيها إلاّ خيله وإلى سجن كبير يقبّل فيه العبيد حذاء العسكر بلا كرامة ولا شرف.
(6)
ماتت ثورة المصريّين ولم يبق منها إلاّ الذكرى وضاقت الأرض على الإخوان ومن والاهم من الصّادقين بعد ظنّ بأنّها رحبت وصارت البلاد بلادا لا تشبه غيرها في شيء اللّهم إلاّ من كان على شاكلتها لا فيها «عيش» ولا «حرية» ولا «كرامة وطنية»، و لم ينج من العار إلاّ من شاء أن ينجو ونعمّا هم شاء من شاء وأبى من أبى.