شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام اللغة وواضع علم العروض
 هو من أئمة اللغة والأدب، ترك بصمات واضحة في التطور الحضاري للأمّة العربيّة والإسلاميّة، فكانت له الريادة في تأسيس علم العروض ووضع أول معجم عربي، يرجع إليه الفضل في تطوير علوم اللّغة والنحو وعلم الموسيقى والرّياضة، إنّه الخليل بن أحمد الفراهيدي.
ولد أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي في سنة 100 هـ / 718م في زمن الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز. ولا يُعلم على التحقيق أين كان مولده، وإن كان بعضهم يقول إنه ولد بمدينة عُمان على شاطئ الخليج العربي. وهو عربي الأصل والفراهيدي نسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد.
نشأ الخليل بن أحمد بالبصرة وتربّى فيها، وكان مولعا بالدرس والبحث، فتتلمذ على مشاهير علمائها فأخذ على أيوب السختياني وعاصم الأحول فقه اللغة، ودرس الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها من علوم الشريعة على العوام بن حوشب، وغالب القطان، وأبو عمرو بن العلا، وعثمان بن حاضر.
وقد وهب الله الخليل بن أحمد ذكاءً خارقًا وفطنة كانت مضربًا للمثل في عصره وعرف بالصلاح وحسن الخلق ورجاحة العقل والذكاء والوقار والتواضع، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه والتقلل من الدنيا والصّبر على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: «إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي»، وكثرت الروايات التي تؤكّد إخلاصه للعبادة وزهده، فحكى عنه تلميذه النضر بن شميل، أنه أقام في خصّ من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال. كما كان سليمان بن حبيب بن أبى صفرة والي فارس والأهواز يدفع له راتباً بسيطاً يعينه به، فبعث إليه سليمان يوما يدعوه إليه، فرفض وقدم للرّسول خبزاً يابساً ممّا عنده قائلاً: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَـــــــةٍ وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَــــــداً يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ
وَإِنَّ بَينَ الغِنى وَالفَقرِ مَنزِلَـــــــــةً مَخطومَةً بِجَديدٍ لَيسَ بِالبالــــــي
الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتــــــالِ 
فوق زهده وورعه، وتقواه وعلمه، كان الخليل ابن أحمد رجلاً ظريفًا متواضعًا حسن الخُلُق ومن أفضل ما عُلم عن أدب الخليل وتواضعه ما حكاه عنه أيوب بن المتوكل حيث يقول: «وكان الخليل إذا أفاد إنسانًا شيئًا لم يُرِه أنه أفاده، وإن استفاد من أحدٍ شيئًا أراه بأنه استفاد منه». وفي ذلك ما فيه من سموٍّ نفسي وإنكارٍ للذات، فضلاً عن احترام المعلم والإقرار بفضله على المتعلم؛ إذ يعدّ ذلك من بعض حقوقه.
وفي مثل ذلك أيضًا ما أخبر به تلميذه النضر بن شميل حيث قال: «ما رأيت أحدًا يُطلب إليه ما عنده أشد تواضعًا منه».
وفي موقفٍ يجسِّد صفة التواضع هذه يحكي الفضل بن محمد اليزيدي فيقول: «قدم الخليل بن أحمد عليَّ وأنا على طِنْفسةٍ، فأوسعت له عليها، فأبى إلا القعود معي عليها، ثم قال: مهلاً، إن الموضع الضيق يتسع بالمتحابين، وإن الواسع من الأرض ليضيق بالمتباغضين؛ ثم أنشأ الخليل بن أحمد يقول:
يقولون لي دار المحبين قد دنـت ***      وإني كئيب إن ذا لعجـيــــب
فقلت: وما يغني الديار وقربهـــا ***      إذا لم يكن بين القلوب قريب 
وعكف الفراهيدي على دراسة علوم اللغة العربية، ودفعه حبه وشغفه بلغة القرآن الكريم إلى العمل على وضع قواعد مضبوطة للغة، حتى عده العلماء الواضع الحقيقي لعلم النحو في صورته النهائية، التي نقلها عنه تلميذه سيبويه في كتابه المسمى «الكتاب» فذكره وروى آراءه في نحو ثلاثمئة وسبعين موضعاً معترفاً له بوافر علمه، وعظيم فضله. ويذكر أنه ذهب إلى الكعبة حاجاً، فتعلق بأستارها، ودعا الله أن يهب له علماً لم يسبقه أحد إليه، ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في دفتر منفرد، وذات يوم مر الخليل بسوق النخاسين، فسمع طرقات مطرقة على طست من نحاس، فلمعت في ذهنه فكرة علم العروض، وهو ميزان الشعر أو موسيقى الشعر، الذي ميز به الشعر عن غيره من فنون الكلام، فكان للخليل بذلك فضل على العرب، إذ ضبط أوزان الشعر العربي، وحفظه من الاختلال والضياع، وقد اخترع هذا العلم وحصر فيه أوزان الشعر في خمسة عشر بحراً «وزناً». كما اهتم بضبط أحوال القافية، وهي الحرف الأخير في بيت الشعر، والتي يلتزم بها الشاعر طوال القصيدة فأخرج للناس هذين العلمين الجليلين كاملين مضبوطين مجهزين بالمصطلحات.
ويعد الفراهيدي من أهم علماء المدرسة البصرية، وتتلمذ عليه الكثيرون منهم سيبويه النحوي البصري، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، وحماد بن يزيد، وأيوب بن المتوكل البصري القارئ، وبدل بن المحبر، وداود بن المحبر، وعلي بن نصر الكبير، وعون بن عمارة، والسدوسي، وموسى بن أيوب، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي الأعور، ووهب بن جرير بن حازم، ويزيد بن مرة.
وإذا كان من أكبر أسباب شهرة الخليل بن أحمد هو تلميذه سيبويه في مؤلَّفه الشهير (الكتاب)؛ إذ عامَّة الحكاية فيه عن الخليل، وكلما قال سيبويه في كتابه: «وسألته» من غير أن يذكر قائله، فإنما يعني بذلك الخليل 
إحقاقًا للحق، وامتنانًا بالفضل، وعرفانًا بالسبق فقد أشاد كثير من علماء المسلمين على الخليل بن أحمد رحمه الله، وأثنوا عليه وأنزلوه المكانة اللائقة به، حتى قال عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب (التنبيه على حدوث التَّصحيف): «وبعد، فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم تكن لها أصول عند علماء العرب من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيمٍ أخذه، ولا على مثال تقدَّمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممرّ له بالصَّفَّارين من وقع مطرقة على طست، ليس فيهما حجة ولا بيان يؤديان إلى غير حليتهما أو يفيدان عين جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة لشكَّ فيه بعض الأمم؛ لصنعته ما لم يضعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيسه بناء كتاب (العين) الذي يحصر فيه لغة كل أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه في علم النحو بما صنَّف كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام».
وقال عنه سفيان بن عُيَيْنة رحمه الله: «من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد».وقال السيرافي: «كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله»، وقال عنه ابن حبان: «كان من خيار عباد الله المتقشفين»
ويُروى عن تلميذه النضر بن شميلٍ أنه قال: «كنا نُمَيِّل بين ابن عونٍ والخليل بن أحمد أيهما نقدِّم في الزهد والعبادة، فلا ندري أيهما نقدِّم؟!» وكان يقول: «ما رأيت رجلاً أعلم بالسُّنَّة بعد ابن عونٍ من الخليل بن أحمد». وكان يقول:«أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصٍّ لا يُشْعَر به. وكان يحج سنةً، ويغزو سنةً، وكان من الزهَّاد المنقطعين إلى الله تعالى» 
خلف الفراهيدي الكثير من المصنفات منها كتاب «العروض»، و«الشواهد»، و«النقط والشكل»، و«النغم»، و«معاني الحروف»، و«العوامل»، و«النوادر»، و«الجمل». غير أن الذي طير اسمه وأذاع شهرته في الآفاق هو كتابه ومعجمه الفريد في مصنفات اللغة العربية كتاب «العين»، إذ يعتبر أول معجم جامع للألفاظ في اللغة العربية، هدف الخليل منه ضبط اللغة وحصرها، وقد كان منهجه فيه إلى أن بدأه بترتيب الحروف، ثم بتقسيم الأبنية، وأخيراً بتقليب اللفظة على أحد أوجهها، قال عنه أبو الطيب اللغوي: «أبدع الخليل معجمه حسب مخارج الحروف مع مراعاة أوائل الأصول»، 
كما كان الخليل عجيبًا في حياته، متفردًا بين بني جنسه، كانت وفاته أيضًا كذلك؛ فقد توفي في البصرة بشهر جمادى الآخرة سنة 174 هـ /789م بخلافة هارون الرشيد وهو نفس يوم وفاة الخيزران بنت عطاء وقال الإمام شمس الدين الذهبي في سبب وفاته في كتاب تاريخ الإسلام: «يقال: كان سبب وفاة الخليل أنّه قال أريد أن أعمل نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البائع، فلا يمكنه أن يظلمها، فدخل المسجد وهو يعمل فكرهُ في ذلك، فصدمتهُ سارية وهو غافل فانصرع، فمات من ذلك، وقيل: بل صدمته الّسارية وتوفي بعدها، وهو يقطع بحرًا من العروض» .