نقاط على الحروف

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
المذهب المالكي في بؤرة«الفقه بين أهل الرأي وأهل الأثر»‏ 2/2 : آفاق البحث في أصول المذهب المالكي
 معنى المذهب والمذهب الفقهي:‏
أورد الزّبيدي للفظ المذهب في التّاج أربعة معان، ما يهم هذا المقام منها معنيان : المذهب بمعنى ‏الطّريقة، ثمّ المذهب بمعنى الأصل. ويستفاد منهما أيضا أمران اثنان: البعد التّأصيلي الذي ‏يجعل صاحب المذهب صادرا عن أصل يعرف به، ثم البعد المنهجي الذي يجعل من مذهب ‏الشّخص وطريقته تفكيرا وممارسة محلّ حسن أو قبح.‏
وعن الربط بين البعدين معا صدرت جلّ التّعريفات الاصطلاحيّة للمذهب (1) إلاّ أنّها وسعت ‏مجاله، بحيث لم يعد مقتصرا على الفرد فقط، وإنّما شمل أيضا الجماعة الصّادرة عن نفس ‏الأصول، المتّحدة من حيث طريقة التّفكير. وبهذا التّوافق في المبادئ والمنهج تصير هذه ‏الجماعة مدرسة أو تجمعا أو مذهبا. فلا يمكن الحديث إذن عن مذهب من غير منهج، كما لا ‏يمكن الحديث عن منهج من غير أصول.‏
وعليه يمكن تعريف المذهب الفقهي بأنّه منهج في التّفقه، صدر فيه مجتهد أو جماعة من ‏المجتهدين عن أصول محدّدة، مرتّبة ترتيبا محكما، يؤهّلها للاستثمار الاجتهادي، على مستوى ‏الاستنباط والتّرجيح والتّنزيل. ومن ثمّ كانت مسألة ترتيب الأدلة بعد كيفيّة إعمالها مؤشّرا كبيرا ‏على تمايز المذاهب الفقهيّة وتفاردها.‏
منهج البحث في أصول المذهب المالكي: معالم واعتبارات:‏
وإذا انطلقنا ممّا قرر الحجوي من أنّ النّواة الأولى لظهور المذاهب كانت زمن عثمان رضي الله ‏عنه إذ «هو الذي رخّص لهم في الانتشار في الآفاق، فأخذ أهل كلّ بلد برواية معلّمهم وبرأيه، ‏فكان ذلك أوّل تشعّب الفقه واختلاف البلدان والأقطار فيه»(2) فإنّ ضبط أصول المذاهب ‏وصفا وتصنيفا هو مربط الفرس فيما يتعلق بإشكال الرّأي والأثر في الفقه الإسلامي، بحيث ‏يتبيّن على طريق الحسم مجال توظيفهما ومقدار إعمالهما.‏
وبما أنّ الوسيلة تأخذ حكم مقصدها، فإنّ المنهج الذي يفتقر إليه إشكال الرّأي والأثر هو عين ‏المنهج الذي يفتقر إليه ضبط هذه الأصول، إذ لابدّ فيه من عمل سكوني يستوعب المادّة الفقهيّة ‏لكلّ مذهب على حدة مع التّحقيق أولا، ثمّ يصف الأصول بعد إحصاء نصوصها وسياقاتها ‏وتصنيفها ثانيا، ثمّ يركّب كلّ ذلك تركيبا محكما تبرز فيه جليّة نسبة إعمال كلّ من الرّأي ‏والأثر، وتظهر معه حقيقيّة الشّخصيّة المنهجيّة للمذهب. يقول الدكتور محمد المختار ولد باه ‏متحدّثا عن منهج البحث في أصول المذهب المالكي «دراسة أصول الإمام مالك تتطلّب بحثا ‏شاملا في أدلّة الأحكام الواردة في الكتب المعروفة بأمّهات فقه المذهب، مثل الموطأ ومدونة ‏سحنون، ونوادر ابن أبي زيد وبيان ابن رشد، وتصنيف هذه الأدلّة لنميّز منها ما يستند إلى ‏النّصوص في عمومها أو ظواهرها، ثمّ ما استمد أصله من أسس الاجتهاد كالقياس والاستحسان، ومحاولة تبيين المنهج المتكامل في استنباط الأحكام، وتأسيس السّلم الموصل في ‏وضع القواعد الاستنباطيّة، ومعرفة درجاتها بالنّسبة لبعضها البعض.»(3)
وينطلق الدّكتور ولد باه في تقرير هذا العمل الكبير الهائل من ثلاثة اعتبارات مؤدّاها أنّ الإمام ‏مالكا لم يكتب في الأصول ليبيّن منهجيته في تقرير الأحكام مثل ما فعل الشّافعي في الرّسالة، ‏ومثل ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة. ثم ندرة من اعتنى بأصول الفقه في القرون الأولى ممّن ‏ينتمون إلى المذهب المالكي، باستناء القاضي عبد الوهاب وأبي الوليد الباجي اللّذين لم تنشر ‏كتبهما في الأصول نشرا كافيا. هذا فضلا عن عدم تأسيس مؤلّفي المالكيّة لمنهج مستقلّ في ‏الاستنباط، وإنّما «لخّصوا ما كتب من قبلهم دون أن يرسموا طريقة جديدة، فمختصر ابن ‏الحاجب الأصلي وتنقيح القرافي ينظر إليهما كمختصرات لمحصول الرازي وإحكام الآمدي».‏
وممّا يضاف إلى هذه الاعتبارات، من باب الاستدراك، تقوية للدّعوة إلى المنهج المقترح، ‏لضبط أصول المذهب اختلاف عدد الأصول بين راصديها، وهو ناجم عن الخلط بينها وبين ‏القواعد، أو عن اتفاق على بعضها دون بعض، إذ ثمّة من حصرها في ستّة عشر عادا بعد ‏العشرة الأولى المتعلّقة بمدارك الاستنباط من الكتاب ثمّ من السّنة، والإجماع، والقياس، وعمل ‏أهل المدينة، والاستحسان، وسدّ الذرائع، ومراعاة الخلاف، على تردّد فيه، وثمّة من أضاف ‏الاستصحاب، وأضاف الشّيخ الحجوي قول الصّحابي، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا بعد ‏قوله «قلت إنّها بلغت عشرين» وربّما أوصلها بعضهم إلى أكثر من هذا العدد أضعافا مضاعفة ‏كما عند التّاج السّبكي إذ ذكر أنّها تفوق الخمسمائة، «وأنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة ‏وثمانية وأربعين، وغيره أنهاها إلى الألف والمائتين كالمقري وغيره –قال الحجوي- لكنّها في ‏الحقيقة تفرّعت عن هذه الأصول، والإمام لم ينص على كلّ قاعدة قاعدة، وإنّما ذلك مأخوذ من ‏طريقته وطريقة أصحابه في الاستنباط» (4).‏ولعلّ هذا المنهج المقترح لن يؤتّي أكله ما لم يستند إلى الدّراسة المفهوميّة لهذه الأصول عامّة ‏والاجتهاديّة منها خاصّة، بحيث تضبط من حيث العدد، ويفصل بين بعضها البعض ممّا يتداخل ‏فيه مفهوم هذا الأصل مع ذاك نحو أصلي مراعاة الخلاف والاستحسان.‏
وربّما يتّسع مجال البحث في أصول المذهب بهذا المنهج إذا ما انطلقنا من المفهوم الذي حدّده ‏الدكتور أحمد الريسوني للمذهب المالكي، حيث ألغى فيه الدّور التّأسيسي للإمام، وما يجعل منه ‏الخاسف لعين أصول المذهب وقواعده كما هو حال المذاهب الأخرى (5). ولإثبات ما ذهب إليه ‏يسوق شواهد من الموطأ ومن غير الموطأ دالة على أنّ ّمذهب مالك إنّما هو امتداد لمذهب أهل ‏المدينة، بحيث يشكّل حلقة من حلقاته ورثت علم سابقاتها وعملها بالسّند المتّصل إلى حلقة عمر ‏الذي كان يشاور أكابر الصّحابة. ولعلّ أقواها نصّ عياض في المدارك، ونقله ابن فرحون في ‏الدّيباج المذهب حيث ورد فيه جواب مالك نفسه عن معنى العبارات الواردة في موطئه، نحو ‏الأمر المجتمع عليه عندنا، والأمر عندنا، وببلدنا، وأدركت أهل العلم، والسّنة عندنا... ومنه «أمّا ‏أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هم برأي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل ‏والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتّقون الله تعالى، فكثر عليّ فقلت رأيي ‏وذلك رأيي، إذ كان رأيهم رأي الصّحابة الذين أدركوهم عليه وأدركتهم أنا على ذلك، فهذا وراثة ‏توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا... وأمّا ما لم أسمع منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من ‏لقيته متى وقع ذلك موقع الحقّ أو قريبا منه حتّى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم.»(6)
وعلى هذا الأساس فإن البحث في أصول المذهب إنما هو بحث في أصول مذهب أهل المدينة ‏بالأولى إذ هو «الاسم الذي يجمع فقه عمر وفقه مالك وما بينهما... وهو الاسم الذي كان يطلق ‏إلى زمان مالك وبعده» (7) وبهذا يتّسع مجال استيعاب المادّة بحيث يجاوز حلقة مالك إلى حلقة ‏عمر على الأقل، مادام أنّ «الذين يتكلّمون عن الأصول التي يتميّز بها المذهب المالكي –يقول ‏الدّكتور الريسوني- لا يجدون أيّ صعوبة في إدراك أن تلك الأصول إنما هي أصول عمريّة ‏قبل أن تكون أصولا مالكيّة» وهو ما يقتضي أولا إحاطة شاملة بالنشاط الفقهي لكل حلقة من ‏حلقات هذه السلسلة، بل لكل فرد من أفرادها بدءا بفقه عمر وانتهاء بما دونه مالك.‏
 منهج البحث في أصول المذهب المالكي: مقاصد وغيابات
ولا ريب في أنّه عمل إذا ما اعتمد المنهج العلمي السّليم منطلقا من الدّراسة المفهوميّة –كما ‏سبق- للخطاب الفقهي والأصولي لهذه السّلسلة سيؤدّي حتما إلى نتائج مرضيّة تكشف النّقاب ‏عن المفاهيم الحقيقيّة للأدلة وفروعها، وخاصّة الأدلّة الاجتهاديّة، وكيفيّة استثمارها، ليراقب بعد ‏ذلك مسارها مفهوما وإعمالا، وما يمكن أن يطرأ عليه من تحوّل عند هذا المجتهد أو ذاك، أو في ‏هذه الحلقة أو تلك.‏
ولعلّ أكبر ما يجنى من هذه الدّراسة هو بناء المنهاج الأصولي التّام للمذهب بناء صحيحا، ‏تتحدّد من خلاله أصول الاستنباط ومداركه، وقواعد التّنزيل وضوابطه، فيرفع بذلك الحرج عن ‏«الباحث قي أصول الفقه المالكي خاصّة، فإنّه لا يرى بين يديه نظريّات متكاملة مقرّرة في ‏شكلها النّهائي وشاملة لجميع المباحث الأصولية»(8)
ولعل ذلك أيضا سيدفع مؤرّخي علم الأصول إلى إعادة النّظر فيما درجوا عليه من الاقتصار ‏‏«على ذكر مدرستين إحداهما حنفيّة وأخرى شافعيّة» ومن الاكتفاء فقط «بالإشادة بالدّور الذي ‏يعطيه المالكيّة للبحث في المقاصد والحكمة من الشّريعة»(9) كما سيدفع ذلك إلى مراجعة ما ‏درج عليه بعضهم أيضا من الحكم على علماء المذهب أو على بعضهم بنحو قول ابن خلدون في ‏المقدمة «فالأثر أكثر معتمد المالكيّة وليسوا بأهل نظر وأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من ‏الصّنائع» والذي لم يتمالك الدكتور ولد باه من أن يصفه بالرّأي القاسي قائلا بعد ذلك «وبعبارة ‏أكثر صراحة فإنّ ابن خلدون يعتقد أنّ علماء المذهب المالكي لم يحرّروا أصوله ولم يقيموا ‏أدلته، فلم يستطيعوا وضع نظريّات مذهبيّة تجعل المفتي قادرا على إدراج المسائل الفرعيّة ‏تحت قواعد عامّة مضبوطة، تسهل عمليّة الاجتهاد والتّنظير والقياس، وفي قول ابن خلدون ‏مبالغة»(10).‏
وعموما فإنّ ما تسعى إليه هذه الدراسة بعد بناء المنهاج الأصولي التّام الذي سار عليه المذهب ‏المالكي فقها واجتهادا هو تمييز ما أسّس من الأحكام على علم فيما يتعلّق بتاريخ التّشريع ‏الإسلامي فقها وأصولا مما مؤسّس منها على شفا جرف هار. على أنّ مجال البحث – يقول ‏الدكتور ولد باه- «موجود وأنّه قد يعطي نتائج لا نتصوّرها اليوم وأرجو أن يكون من شأنها أن ‏تجعل من علم الأصول مصباحا ينير الطّريق أمام الفقيه، ومنهاجا يدرك من خلاله مغزى ‏الأحكام السّابقة وأداة لإصدارها من جديد» (11).‏
الهوامش 
(1) ينظر معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة لسعيد علوش  والمعجم الفلسفي لجميل صليبا.‏
(2) الفكر السامي ق2/379.
(3) ينظر ندوة الإمام مالك 3/69.‏
(4) الفكر السامي ق2/457
(5) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي 58.‏
(6)  نقلا عن السابق 58-59
(7) نفسه 61
(8) ندوة الإمام مالك 3/71.‏
(9) نفسه.‏
(10) نفسه.‏
(11) نفسه.‏