فواصل

بقلم
د.ناجي حجلاوي
المطالب العالية : نتائج البحث (2-3)
 يمثّل التّفسير المعتمد على المنهج النّقلي محاولة في الكشف عمّا غمض من معاني الآيات بحشد الأدلّة المنقولة مثل ربط الآيات ‏بعضها ببعض وما أُثر عن الرّسول وأصحابه. وفي هذا الاتّجاه يقول الطّبري:«إنّ ما قلنا عن أهل التّأويل، هو التّأويل الّذي وردت به الأخبار ‏عن بعض أصحاب رسول الله (ﷺ)»(1)‏‏. وقوله هذا يعضد ما صرّح به في موضع آخر من أنّ تأويل آي القرآن «لا يُدرك ‏علمه إلاّ بنصّ بيان رسول الله(ﷺ)، أو ما يدلّ عليه، وهو ما لا يجوز لأحد القول فيه برأيه لأنّ القائل فيه برأيه مخطئ، وإن ‏أصاب الحقّ لأنّ هذه الإصابة ليست إصابة موقن أنّه على حقّ وإنّما هي إصابة خارص وظانّ، والقائل في دين الله بالظّنّ مدّع على الله بما لا ‏يعلم، وذلك محرّم في كتابه على عباده» (2)‏.‏
وقد يلحق بالصّحابة جيل التّابعين وإن اُختلف في جواز الأخذ عنهم، باعتبارهم طبقة لم تأخذ عن الرّسول مباشرة وإنّما تلقّوا عن الّذين ‏أخذوا عنه. والطّبري هو الّذي أقحم أخبارهم في دائرة هذا المنهج الّذي يحتلّ فيه رجال الحديث المنزلة الأولى، ولا سيّما أنّ التّفسير قد بدأ بابا من ‏أبواب المسانيد قبل أن يستقلّ بذاته، وقد أُلْحقت صفة القداسة بالرّواة بناء على تصوّر قبْلي مفاده أنّ حامل الخبر الدّيني لا يمكن له أن يختلق ‏من لدنه زيادة أو نقصانا يمليهما تصوّره الخاصّ وانتماؤه الاجتماعي والسّياسيّ، ومن ثمّة ركّز التّعديل والتّجريح على المخبِر لا على الخبر ‏المأثور وهو نقد خارجيّ للمضامين المأثورة والمنقولة، وتحت وطأة هذه الطّريقة تضاءلت منزلة العقل ولولا ثقل هذه الوطأة لتمكّن العقل من ‏الاهتداء إلى غربلة هذه الأخبار والآثار إن لم يقع التّخلّص من أغلبها، وهكذا غدا هذا المنهج مركّزا على التّوليد الجانح بدوره إلى إدخال مواد ‏نصّيّة ثانويّة طيَّ التّفسير سعيا إلى الإشباع النّفسي والاستجابة إلى الانفعال العاطفي.‏
والملاحظ أنّ هذا المنهج يتّسم بعدّة خصائص من أهمّها: تفسير القرآن بالقرآن باعتباره وحيا منقولا عن الرّسول عن جبريل إلى ‏الصّحابة ومنهم إلى الأمّة كافّة، وهذه الخاصّيّة يعدّها الطّبري درجة سَنِيّة لأنّ القرآن يقدّم نفسه على أنّه تبيان لكلّ شيء ومن باب أولى أن يبدأ ‏بتوضيح ما غمض منه، فالآيات المفصّلة تفسّر الأخرى الّتي وردت مجملة. والخاصيّة الثّانية تتمثّل في التّركيز على الجانب البياني من خلال ‏الاهتمام بالأساليب وأسباب النّزول وصولا إلى أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، وفي هذا المستوى يتمّ الاعتناء باللّغة العربيّة بعباراتها ‏وصيغها وأساليبها. وأمّا الخاصّيّة الثّالثة فهي التّركيز على القراءة بوصفها علما يحرص على سلامة النّصّ القرآني من التّحريف والْتماس المعنى ‏بضبط الإعراب في أواخر الكلمات(3)‏‏، وبالفعل فقد عكس جامع البيان هذه الخاصّيّة بجلاء فدراسة علم القراءات بالنّسبة إلى الطّبري ليست ‏جزءا إضافيّا يعالجه في البداية من أجل التّخلّي عنه لاحقا، ولكّنه واحد من الشّروط الّتي تخوّل الولوج في عالم تفكيره التّفسيري (4)‏‏ ‏.‏ والجدير بالذّكر أنّ عبد القاهر البغدادي قد اعتبر هذه السّمة خاصيّة مميّزة لصنف من ‏أصناف أهل السّنّة في قوله إنّهم « أحاطوا عِلما بوجوه قراءات القرآن » (5) ‏. 
وأمّا الخاصّية الرّابعة في هذا المنهج فهي ‏الاعتماد على المأثور عن الرّسول والصّحابة والتّابعين. ولقد مثّلت شخصيّة ابن عبّاس رأس هذا المنهج الّذي تتعلّق به سلاسل الرّوّاة عنه تأخذ ‏وفيه تختصم بالحقّ والباطل، إذ كان الوضّاعون أنفسهم يدّعون الوصل به (6)، وقد سُمّي بترجمان القرآن وحبر الأمّة، حوله حيكت قصص ‏وحبكت أحاديث ثمّ نُسبت إليه التماسا للصّدقيّة، ففاقت أضعاف ما صحّت نسبته إليه، وقد بدا ذلك جليّا فيما عبّر عنه الشّافعي بقوله:« لم يثبت ‏لابن عبّاس في التّفسير إلاّ شبيه بمائة حديث»(7). وفي إطار هذا المنهج يندرج تفسير الطّبري الّذي تعتبره طائفة من الدّارسين أنّه من أشهر ‏المصنّفات وأوسع ما أُلّف في هذا المجال، يذكر الرّوايات المسندة أو الموقوفة عن الصّحابة والتّابعين، وهو محتو على نصيب غير يسير ممّا ‏يسمّى بالإسرائليّات»(8) ولا يخفي الطّبري نفسه معالم منهجه في الكتابة فيما يشير إليه بصريح العبارة فـي قوله:« نذكر الدّلائل على صحّة ما ‏قلنا من الأخبار والآثار»‏(9)‏. ونظرا لتأخّر ابن جرير النّسبي فـي الزّمن فقد سبقته محاولات متفرّقة من التّفاسير تَمثّل جهده في الجمع بينها ‏مخالفا بعضها ومؤيّدا بعضها الآخر بالتّرجيح والتّفضيل، فغدا هذا المجهود علامة بارزة أمام أنظار المهتمّين بشأن التّفسير وتاريخه من أمثال ‏بدر الدّين الزّركشي الّذي صرّح بأنّ« محمّد بن جرير الطّبري جمع على النّاس أشتات التّفاسير، وقرّب البعيد » (10)‏.‏
والّذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذا المنهج في التّفسير رغم تمسّكه النّظري بسلامة المرويّ من الضّعف والوضع فإنّه يعتمد الآثار ‏المنقولة سواء كانت متواترة أو غير متواترة، ويقتصر على مراعاة المعنى العامّ إذا كان موافقا لمراد الله بحسب ما ورد في القرآن أو السّنّة وما ‏حفّ بها من الأخبار والآثار، ونسوق في هذا الإطار أثرا له دلالة كبيرة على ما يوليه الضّمير المسلم من تقدير لجيل الصّحابة، وهذا الأثر ‏أورده الحاكم في مستدركه مفاده أنّ كلّ ما ورد من الصّحابة فحَسَنٌ مقدّم (11)، وكأنّ السّنّة في حدّ ذاتها صافية من الوضع والتّدليس نقيّة من ‏التّزيّد والافتراء فهي لا تثير عند أصحاب هذا المنهج إشكالا أو تساؤلا، ورغم أنّ الزّركشي قد نبّه إلى هذا الأمر وحذّر من غلبة الضّعف على ‏الأحاديث وتفشّي الوضع فيها، فإنّ الأخذ بها ظلّ كثيرا(12)، ومعنى ذلك أنّ الأقدمين أنفسهم كانوا على غير اتّفاق إزاء سيول المرويّات، ‏ومصداق ذلك ما عبّرت عنه رؤية أحمد بن حنبل نفسه البادية في تصريحه بأنّ «  ثلاثة كتب ليس لها أصل: المغازي والملاحم ‏والتّفسير»(13) ، والقصد من ذلك أن لا أسانيد صحيحة في هذه المجالات العلميّة. ومع ذلك يتّخذ أنصار هذا المنهج النّقلي موقف المناوئ ‏لإعمال الرّأي والاجتهاد معتبرين أنّ النّقل هو الأصل الّذي ينبغي أن يقوما عليه محتجّين بالحديث القائل:« مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ ‏مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار» (14)‏.‏
وهكذا يظلّ أنصار هذا المنهج هم الغالبيّة من الجمهور رغم كونهم لا يتمتّعون بِطاقة على قبول من يخالفهم رأيهم وفهمهم إزاء ‏الآيات لأنّهم أصحاب عقول محدودة يغلّبون الوجدان والعاطفة الدّينيّة على النّظر والتّعقّل، ثمّ إنّ هذا المنهج هو منهج المحدّثين الّذي لم يسلم ‏من الضّعف في الرّواية والتّدليس والكذب، وفي هذا المجال يندرج قول سفيان الثّوري: «لمّا استعمل الرّوّاة الكذب استعملنا التّاريخ»(15)، ‏والقصد من ذلك اعتماد تاريخ الولادات والوفايات للتّثبّت من صحّة الأسانيد، بالإضافة إلـى أنّ النّقل مهدّد بتلاشي الذّاكرة تحت وطأة الأمراض ‏والعاهات والتّقدّم في السّنّ.‏
وإذا كان ابن جرير الطّبري يكتفي بترجيح رأي من الآراء الّتي يعرضها، فإنّ أبا عليّ الجبّائي يذكر رأيه الخاصّ ويوسّع من الدّوائر ‏التّأويليّة بتقليب أوجه الفهم للآية الواحدة لتبلغ، في كثير من الأحيان، الثّلاثة أوجه(16). وشتّان بين من يستعرض آراء غيره ومن يستنبط من لدنه ‏أكثر من تأويل للآية الواحدة.‏
لقد أعرض الجبّائي عن الرّواية والأخذ عن الغير وإن بدرجة غير كلّيّة ممّا أثار حفيظة العديد من العلماء، إذ من غير اليسير تقبّل ‏الرّأي المخالف والطّريقة المغايرة، ولا سيّما إذا تعلّق الأمر بمعالجة ما تقدّس من النّصوص، ومن هؤلاء ابن طاووس الّذي قال في الجبّائي: كأنّه ‏ما سمع في الدّنيا مفسّرا للقـرآن اسمه عبـد الله بن عبّاس (17)، وانطلاقا من هذه الأرضيّة اتّسم منهجه بالميسم النّقدي إزاء الأخبار والآثار ‏للضّعف الّذي يعتري سلاسل الأسانيد في غالب الأحيان.‏
إنّ هذه النّزعة النّقديّة لدى الجبّائي رشّحت العقل لديه إلى أن يصير مصدرا للمعرفة لا يقلّ قيمة وسلطة عمّا يمثّله النّصّ الدّيني، ‏ولقد تجاوز سلطة النّقل ليصبح أداة معرفيّة تبحث في النّظر والعمل، وأصبح معيارا تصدر عنه أحكام التّحسين والتّقبيح، وبه تتحدّد حجّيّة القرآن ‏والسّنّة والإجماع. وعلى النّقيض من ذلك لا يعير الطّبري العقل كبير أهميّة مقارنة مع الخبر والأثر، وقد لا يكون العيب في هذيْن النّمطين من ‏المنقول، وإنّما هو كامن فيما يلحقاه، بما أوتياه من سلطة، من دغمائيّة في التّفكير.‏
إنّ الطّبري يعتمد على الرّواية ولا يتجاوزها إلى غيرها سواء وافق مضمون الخبر منطق العقل أو خالفه. ولعلّ هذا التّصوّر هو الّذي ‏جعل الطّبري لا يفصل في تفسيره بين حدود الأسطوري اللاّتاريخي وما هو تاريخيّ، ثمّ إنّ الإعلاء من شأن الرّوّاة صحابة وتابعين وتابعي ‏التّابعين ليس أمرا معزولا عمّا كان سائدا في عصره من إرادة سياسيّة تؤسّس مشروعيّتها على الدّين، حتّى أضحت عصمتهم مسلّمة لا تقبل ‏النّقاش والمساومة (18)‏.‏
وفي مباشرة الجبّائي لعمليّة التّفسير يجنح إلى التّركيز على عدم مخالفة ظاهر القرآن، إذ العدول عن الظّاهر إلى التّأويل بالنّسبة إليه ‏إنّما يُحتاج إليه عند قيام الدّليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن كأن يؤدّي إلى ما يخالف المراد كالوقوع في التّشبيه أو ‏التّجسيم(19)‏. ولقد ولج الجبّائي هذا المجال من باب امتلاكه لناصية اللّغة العربيّة نحوا وصرفا وبلاغة متسلّحا بما اكتسبه من المنظومة الكلاميّة ‏من ظروب الجدل وأصناف البراهين، فوفّر تفسيره، رغم عدم تغطيته لكلّ آيات المصحف، رؤية شموليّة إزاء العالم نسمّيها الرّؤية الجبّائيّة، وهذه ‏النّقطة تدعونا إلى مراجعة ما ذهبت إليه نائلة السّلّيني من أنّ المتكلّمين لم يقصدوا التّفسير لذاته، وإنّما توقّفوا عند الآيات الّتي مثّلت إشكالا ‏بينهم وبين مذاهب المفسّرين المستندين إلى ظاهر النّصّ (20)‏. ونحن نستند في دعم هذا الاعتراض إلى ما شهده القرن الثّالث وبداية الرّابع ‏الهجريّيْن من تفاسير وموسوعات اعتزاليّة كثيرة، وقد عُني المعتزلة بهذا المَشغل منذ وقت مبكّر ولا سيّما بعد اكتمال أصول المذهب اللّهمّ إلاّ ‏إذا عنت الباحثة أوائل المفسّرين الّذين اهتمّوا بالآيات المتشابهات بصفة خاصّة وأفردوها بالتّأويل دون غيرها من الآيات لأنّها شكّلت مبحثا خلافيّا ‏بينهم وبين بقيّة المذاهب.‏
إنّ التّفكير الدّيني التّقليدي من خلال الاتّجاه السّنّي والمعتزلي بدا حاملا لبذور الانكفاء على الذّات بما بدأ ينجذب إليه من صراع بين ‏المذاهب مقارنة بالحيويّة الّتي طبعت الثّقافة الدّينيّة الّتي سادت في القرنين الأوّلين، فكيلت التّهم المتعلّقة بالتّبديع والتّكفير، وبدت بذور الإقصاء ‏تطفو لتتبلور في شكل التّعصّب للمذهب وهو علامة تخفي الاعتقاد الجازم بامتلاك الحقيقة. فالطّبري، على سبيل المثال، قد كرّس الفَهْمَ السّنّي ‏للقرآن، ورغم انفتاحه على جملة الآراء التّفسيريّة السّائدة تصريحا وتلميحا، فقد بدا حريصا على لمّ شعث كلّ ما يمتّ إلى السّنّة القوليّة والفعليّة ‏بصلة مغضيا عمّا أضافه رجال الدّين إليها من تصوّرات حافلة بالتّرغيب والتّرهيب، فغدا شديد الحرص على تثبيت الفهم ذي الاتّجاه الواحد، من ‏خلال الإشادة بما توصّل إليه السّلف من شروح وتفاسير وعبر الإعلاء من شأن بعضها وترجيحها، وهذا التّرجيح نابع من كون هذه التّفاسير قد ‏وفّرت للجيل الأوّل أجوبة عمّا اعترضه من معضلات وذلّلت ما واجهه من إشكالات.‏
لقد ارتقى الطّبري بالأثر إلى حدّ جعله شاهدا على صحّة المعنى القرآني، فاحتلّ الأثر درجة اليقين الّتي حازها من سلطة النّصّ ‏القرآني ذاته، وبذلك ارتفعت درجة أصحابه إلى مرتبة لا تضاهى، وقد أشار جنبول إلى هذه الفكرة في اعتباره أنّ عدالة الصّحابة قد أُحكمت ‏جوانبها نهائيّا خلال العقود المتأخّرة من القرن الثّالث والعقود الأولى من القرن الرّابع هجريّا(21)‏. في حين أنّ أبا عليّ الجبّائي قد كشف من ‏خلال مجهوده التّفسيريّ عن مدى تغلغل المنزع العقلي في تفكيره المتمثّل في إزاحة الحواجز الّتي تحول دون مباشرة النّصّ القرآني ونبذ الوسائط ‏الّتي تحجب المعنى المباشر منه، وهي رؤية تنبع من إضعاف سلطة الماضي وتجويز الخطأ على الصّحابة والتّابعين وإن لم يخلُ عمله هو ‏الآخر من بعض آثار التّعصّب إلى المذهب الاعتزالي في التّفسير كما سيتّضح لاحقا.‏
وعموما فإنّ الفارق بين المفسّريْن يتجلّى في أنّ أبا عليّ الجبّائي إذا فسّر الآية قال: هي تعني، أو عنى الله ويورد ما بدا له صوابا من ‏فهم الآية، في حين أنّ الطّبري إذا فسّر قال: عنى الله بالآية، وأورد فهم السّلف لها، ومن ثمّ خضعت دلالة النّصّ القرآني للرّواية عند الطّبري، ‏وبدت حصيلة نظر وتأمّل عند الجبّائي.‏
ورغم هذه الفروق فإنّنا لا نعدم التقاء الرّجليْن حول العديد من النّقاط لعلّ أبرزها أنّ أفضل ضروب التّفسير لديهما أن توضّح الآية ‏الآية وأن يفسّر الواضح من القرآن ما غمُض منه وأنّ اللّغة هي المدخل الأمثل للتّفسير والتّأويل وأنّ القراءة قد تعين على إدراك المعنى المراد ‏وأنّ الجمع بين القراءتيْن وارد بشرط أن لا تكون القراءة شاذّة. وقد لا نأتي بجديد إذا اكتفينا بهذا المستوى الوصفي من الدّراسة ولم نلاحظ أنّ هذا ‏الالتقاء بين التّفسيريْن دليل على أنّ السّنّة الثّقافيّة تتمتّع بنصيب من الحيويّة بالقدر الّذي يسمح للمذاهب أن تتعايش وتتحاور وتتعالق قبل أن ‏تتكلّس الأفكار وتنحو منحى الجمود والتّعصّب، فالاختلاف بينهما يدلّ على أنّ الثّقافة في تلك الفترة قد اتّسمت بشيء من الاتّساع والمرونة ‏بالقدر الّذي يسمح بنسبة من التّغاير وهو دليل تنوّع داخل الوحدة، فللتّفسير بالنّظر العقلي ما يجمعه مع التّفسير بالأثر المقدار الّذي يجعله مباينا له. فما الجامع بين هذيْن التّفسيريْن؟ ‏
إنّ الدّارس لا يمكن له أن يغضّ النّظر عن ملاحظة أساسيّة تتمثّل في أنّ التّفسير بشكل عام قد بدأ يُقيَّد، تدريجيّا، بما يمليه المذهب ‏من قواعد، فغدا الوفاء للمذهب أحيانا أكثر حضوة من الوفاء للمعنى الّذي يحتمله النّصّ المفسَّر، وهكذا يتّضح أنّ التّأويل أهمّ خاصيّة طبعت ‏العمل التّفسيري العليق بالنّصّ القرآني، فطُوّع إلى الانتماء المذهبي والعقيدة، والأصل في الشّيء أن تنبع العقيدة من النّصّ موضوع التّفسير ‏وليس العكس، ولا يخفى على الدّارس مدى تأثّر كلّ مذهب بالمؤثّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة، في حين أنّ واجب المفسّر هوّ التّفكير ضمن إيقاع ‏التّاريخ والتّحلّي قدر المستطاع بالتّجرّد كي ينفتح المفسّر على النّصّ قدر انفتاح النّصّ على الواقع.‏
إلاّ أنّ المفسّر التّقليدي، على العكس من ذلك، لم يهتمّ بالدّلالة النّصّيّة من أجل الوقوف على مقاصدها ومراميها مجرّدة بعيدة عن ‏المعتقد، وإنّما جنح إلى تأصيل أفكاره وآرائه، فبدا هذا التّأويل محتويا على محاذير لعلّ من أهمّها تضييق ما اتّسع من المعاني والدّلالات النّصّيّة ‏بحصرها في اتّجاه واحد، والحال أنّ طبيعة النّصوص القرآنيّة بوصفها منجزا لغويّا تقتضي المعنى ومعنى المعنى. وهكذا حدّ العمل التّأويليّ من ‏القراءات الممكنة فتسبّبت في إفقار النّصّ (22). ثمّ إنّ هذا المنحى في التّعامل مع القرآن يوفّر تفسيرا متعسّفا ومحرّفا لمعانيه الجوهريّة.‏
ولئن تجاذبت التّراث التّفسيري منازع متعدّدة منها عقليّة ويمثّلها المعتزلة وذوقيّة ويجسّدها المتصوّفة وحرفيّة ويعبّر عنها أهل السّنّة، ‏ولا سيّما الظّاهريّة منهم، فإنّ المجهود التّأويلي لدى المفسّرين المدروسيْن قد أخضع النّصّ إلى تصوّرات ذاتيّة بمفعول الانتماء المذهبي، إذ كان ‏كلّ واحد منهما يجتهد في تفسيره ويحرص على أن تكون له المشروعيّة دون غيره. فليس من العسير، حينئذ، أن يهتدي المطالع لتفسيرٍ ما أن ‏يدرك مذهب صاحبه ويضع إصبعه عن طبيعة اتّجاهه هل هو تفسير بالنّظر أو هو تفسير بالأثر (23)‏.‏
ويبدو أنّ الجريان وراء المذهب هو من أبرز العوامل الكامنة وراء الجمود الّذي بدأ يدبّ في الثّقافة بشكل عامّ في الفترة الّتي تلت ‏القرنين الثّالث والرّابع للهجرة، إذ وقع تَغليب الفقه على الكلام وتقويض عُرى المعقوليّة لصالح الدّغمائيّة، وأضحى النّقل مُقدَّما على العقل، وقد ‏تُوّج هذا المسار بصدور البيان القادري المتضمّن لقواعد اعتقاديّة تنقض آراء المعتزلة وتمنعها منعا وتكفّر من اتّبعها وتهدر دمه.‏
ومن النّتائج المنجرّة عن الانسياق وراء تعاليم المذهب الضيّقة، نذكر أنّ المفسّر بدلا من أن ينكبّ على نصّ من أهمّ مميّزاته أنّه ‏متحرّك ومنفتح ومناوئ لكلّ دواعي الانغلاق، فإنّنا نلفي الالتفات إلى الوراء حيث معاكسة الحركة التّاريخيّة بالانشداد إلى الفترة التّأسيسيّة إلى حدّ ‏التّقديس والأسطرة، فالطّبري يعلي من شأن الصّحابة والتّابعين إلى حدّ اعتبارهم معصومين، وهو أمر يفتقر إلى ما يدعّمه:  باعتبار الواقع ‏التّاريخيّ أوّلا وبالنّظر إلـى بعض أقوال رجال الدّين أنفسهم ثانيا، ولا غرو في ذلك فطبيعة المنهج الاتّباعي تنهض على عدالة الرّوّاة، وهي عدالة ‏يكشف التّثبّت منها أنّها ضعيفة الأركان تفتقر إلى أدلّة موضوعيّة لأنّها خضعت في أغلب أحوالها إلى اختيارات أملتها ضروب الانتماء ‏المذهبيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة.‏
لقد أبانت هذه الدّراسة المقارنة، قدر المستطاع، عن مدى اعتماد الجبّائي والطّبري على النّصّ القرآني في بلورة آرائهما المشكّلة ‏لمذهبيْهما كما وفّرت لنا اكتناه تفريقيْهما بين ما يقبل التّأويل من الآيات وما لا يقبل، وكشفت عن نظرتهما إلى المعارف ما يدرك منها من جهة ‏الشّرع وما يعرف منها من جهة العقل.‏
وحاصل الكلام أنّ المساريْن اللّذيْن سار فيهما تفسير الطّبري وتفسير الجبّائي قد أحالانا على ملاحظة مفادها أنّهما يشكّلان اختلافا ‏داخل إطار التّكرار وتنوّعا في إطار الوحدة، في حين أنّ النّصّ القرآني ببنيته اللّغويّة الرّمزيّة وبما هو كون من الآيات والعلامات فقد انفتح مع ‏الطّبري على التّفسير بالرّواية كما انفتح مع الجبّائي على التّفسير بالدّراية.‏
وإذ شكّلت هذه المحاولات التّفسيريّة اجتهاد أصحابها في زمانهم قبل أن تنغلق السّنّة الثّقافيّة فإنّ القرآن، حسب عبارة محمّد أركون، ‏نصّ مفتوح على جميع المعاني ولا يمكن لأيّ تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفده بشكل نهائي(24)، وهذا الرّأي غير بعيد عمّا ذهب إليه عليّ ‏حرب في اعتباره أنّ « القرآن إمكان لا ينضب على التّفسير والتّأويل»(25)‏.‏
الهوامش
(1)  ‏ الطّبري، جامع البيان، مج4، ص 3098.‏
(2)  ‏ انظر الطّبري، جامع البيان، مج1، مقدّمة المؤلّف، ص93.‏
(3)  ‏ يحفل جامع البيان للطّبري بالكثير من الإشارات الّتي تشدّد على سلامة القراءة، والطّبري يلحّ على ضرورة تواترها لأنّ ‏القراءة كالخبر يؤخذ بها متى صحّت، معتبرا أنّ الّذي يخالفها خارج عن لغة أهل الإسلام، واستمع لما يقول في معرض تفسيره ‏للآية:« وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا » (البقرة2/ 83): إنّ حُسْنًا في الآية تصبح في قراءة الكوفة غير عاصم حَسَنًا، وفي قراءة أهل ‏المدينة حُسْنًا، وقيل حُسْنًى ويعلّق على هذه القراءة الأخيرة بقوله: وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها خروجها من قراءة أهل ‏الإسلام لو لم يكن على خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب. الطّبري، جامع البيان، ‏مج1، ص ص 529-530. ومـن الكتب الّتي صُنّفت في علم القراءات نذكر على سبيل المثال: «معاني القرآن» للفرّاء ‏و «مجاز القرآن» لأبي عبيدة.‏
(4)  ‏ ‏Claude Gilliot ,Exégèse langue et théologie en Islam, p135 ‎‎  
(5)  ‏ عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص302.‏
(6)  ‏ جاء في كتاب النّاسخ والمنسوخ لأبي جعفر النّحاس، ص 71: أنّ طاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عبّاس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم. 
وقد ورد عن الحاكم الجشمي في ‏معرض تفسيره للآية 119 من البقرة 2 والّتي نصّها: « إِنَّا أَرْ‌سَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرً‌ا وَنَذِيرً‌ا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» معالجته للخبر الّذي رُوي عن الرّسول، من طريق ابن عبّاس، أنّها نزلت في أبوي ‏الرّسول حين قال:«لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ »، فعلّق الجشمي عن هذا الخبر بقوله: هو من الآحاد ويبعد أن يصحّ ذلك عن ابن عبّاس. 
انظر عدنان زرزور، الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن، ‏ص 154.‏
(7)  ‏  ذكره السّيوطي في «الإتقان في علوم القرآن»، ج2، ص242.‏
(8)  ‏ انظر  السّبحاني، مناهج المفسّرين، ص ص153-154.‏
(9)‏ الطّبري، جامع البيان، مج1، ص595.‏
(10)‏ الزّركشي، البرهان، ج 2، ص159.‏
(11)  ‏ م.ن، ص157.‏
(12)  ‏ تجدر العودة في هذا المجال إلى محمّد حمزة في كتابه «الحديث النّبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» وبالتّحديد، الفصل الثّاني من الباب الثّاني، الحديث في التّاريخ، ص ص 133-203.‏
(13)‏ السّيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص 227.‏
(14)‏ رواه البيهقي عن ابن عبّاس، نقلا عن الزّركشي، البرهان، ج2، ص161.‏
(15)  ‏ابن الصّلاح، علوم الحديث، ص380.‏
(16)  .‏V. Daniel Gimaret, Une Lecture muʻtazilite du coran, Préface, p 61‎
(17)‏ الجبّائي، ت 1، ص 48.‏
(18) ‏‏ نستدلّ على فكرة الانحياز السّياسيّ بالطّريقة الّتي يتعامل بها الطّبري مع ابن مسعود، إذ يهمل ذكره بالرّغم من كونه ‏صحابيّا مقرّبا من الرّسول، وإذا ذكره فهو يذكره مع مُرّة الهمذاني وأبي مالك الأشعري ويحشرهم جميعا في طائفة يتعمّد عدم ‏تحديدها وذكر أفرادها بالاسم مكتفيا بالإشـارة إليها بعبارة: صحابة الرّسول. والحقيقة الكامنة وراء ذلك أنّ الطّبري يخفي ‏احتراسا من إسناد كوفيّ ممثِّل لمدرسة مكّة.‏
Encyclopédie de lʻIslam, nouvelle édition,Tome III, J .C. Vadet, Article ‹Ibn masʽude›, ‎p899‎
والّذي يدعّم هذا الرّأي أنّ السّلطة كانت غاضبة على عبد الله بن مسعود لمعارضته سياسة والي الكوفة، وقد كان هذا ‏الصّحابي خازنا لبيت مال الكوفة وقد اقترض عاملها مالا منه لكنّه تأخّر في إرجاعه. ولمّا طالبه ابن مسعود بدفعه راجع ‏العامل عثمان في الأمر، فما كان من الخليفة إلاّ أن كتب لعبد الله وهو يعتقد أنّه يحطّ من قدره:  إنّما أنت خازن لنا. انظر ‏هشام جعيّط، الفتنة، ص76.