فواصل
بقلم |
د.ناجي حجلاوي |
المطالب العالية : نتائج البحث (2-3) |
يمثّل التّفسير المعتمد على المنهج النّقلي محاولة في الكشف عمّا غمض من معاني الآيات بحشد الأدلّة المنقولة مثل ربط الآيات بعضها ببعض وما أُثر عن الرّسول وأصحابه. وفي هذا الاتّجاه يقول الطّبري:«إنّ ما قلنا عن أهل التّأويل، هو التّأويل الّذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله (ﷺ)»(1). وقوله هذا يعضد ما صرّح به في موضع آخر من أنّ تأويل آي القرآن «لا يُدرك علمه إلاّ بنصّ بيان رسول الله(ﷺ)، أو ما يدلّ عليه، وهو ما لا يجوز لأحد القول فيه برأيه لأنّ القائل فيه برأيه مخطئ، وإن أصاب الحقّ لأنّ هذه الإصابة ليست إصابة موقن أنّه على حقّ وإنّما هي إصابة خارص وظانّ، والقائل في دين الله بالظّنّ مدّع على الله بما لا يعلم، وذلك محرّم في كتابه على عباده» (2).
وقد يلحق بالصّحابة جيل التّابعين وإن اُختلف في جواز الأخذ عنهم، باعتبارهم طبقة لم تأخذ عن الرّسول مباشرة وإنّما تلقّوا عن الّذين أخذوا عنه. والطّبري هو الّذي أقحم أخبارهم في دائرة هذا المنهج الّذي يحتلّ فيه رجال الحديث المنزلة الأولى، ولا سيّما أنّ التّفسير قد بدأ بابا من أبواب المسانيد قبل أن يستقلّ بذاته، وقد أُلْحقت صفة القداسة بالرّواة بناء على تصوّر قبْلي مفاده أنّ حامل الخبر الدّيني لا يمكن له أن يختلق من لدنه زيادة أو نقصانا يمليهما تصوّره الخاصّ وانتماؤه الاجتماعي والسّياسيّ، ومن ثمّة ركّز التّعديل والتّجريح على المخبِر لا على الخبر المأثور وهو نقد خارجيّ للمضامين المأثورة والمنقولة، وتحت وطأة هذه الطّريقة تضاءلت منزلة العقل ولولا ثقل هذه الوطأة لتمكّن العقل من الاهتداء إلى غربلة هذه الأخبار والآثار إن لم يقع التّخلّص من أغلبها، وهكذا غدا هذا المنهج مركّزا على التّوليد الجانح بدوره إلى إدخال مواد نصّيّة ثانويّة طيَّ التّفسير سعيا إلى الإشباع النّفسي والاستجابة إلى الانفعال العاطفي.
والملاحظ أنّ هذا المنهج يتّسم بعدّة خصائص من أهمّها: تفسير القرآن بالقرآن باعتباره وحيا منقولا عن الرّسول عن جبريل إلى الصّحابة ومنهم إلى الأمّة كافّة، وهذه الخاصّيّة يعدّها الطّبري درجة سَنِيّة لأنّ القرآن يقدّم نفسه على أنّه تبيان لكلّ شيء ومن باب أولى أن يبدأ بتوضيح ما غمض منه، فالآيات المفصّلة تفسّر الأخرى الّتي وردت مجملة. والخاصيّة الثّانية تتمثّل في التّركيز على الجانب البياني من خلال الاهتمام بالأساليب وأسباب النّزول وصولا إلى أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، وفي هذا المستوى يتمّ الاعتناء باللّغة العربيّة بعباراتها وصيغها وأساليبها. وأمّا الخاصّيّة الثّالثة فهي التّركيز على القراءة بوصفها علما يحرص على سلامة النّصّ القرآني من التّحريف والْتماس المعنى بضبط الإعراب في أواخر الكلمات(3)، وبالفعل فقد عكس جامع البيان هذه الخاصّيّة بجلاء فدراسة علم القراءات بالنّسبة إلى الطّبري ليست جزءا إضافيّا يعالجه في البداية من أجل التّخلّي عنه لاحقا، ولكّنه واحد من الشّروط الّتي تخوّل الولوج في عالم تفكيره التّفسيري (4) . والجدير بالذّكر أنّ عبد القاهر البغدادي قد اعتبر هذه السّمة خاصيّة مميّزة لصنف من أصناف أهل السّنّة في قوله إنّهم « أحاطوا عِلما بوجوه قراءات القرآن » (5) .
وأمّا الخاصّية الرّابعة في هذا المنهج فهي الاعتماد على المأثور عن الرّسول والصّحابة والتّابعين. ولقد مثّلت شخصيّة ابن عبّاس رأس هذا المنهج الّذي تتعلّق به سلاسل الرّوّاة عنه تأخذ وفيه تختصم بالحقّ والباطل، إذ كان الوضّاعون أنفسهم يدّعون الوصل به (6)، وقد سُمّي بترجمان القرآن وحبر الأمّة، حوله حيكت قصص وحبكت أحاديث ثمّ نُسبت إليه التماسا للصّدقيّة، ففاقت أضعاف ما صحّت نسبته إليه، وقد بدا ذلك جليّا فيما عبّر عنه الشّافعي بقوله:« لم يثبت لابن عبّاس في التّفسير إلاّ شبيه بمائة حديث»(7). وفي إطار هذا المنهج يندرج تفسير الطّبري الّذي تعتبره طائفة من الدّارسين أنّه من أشهر المصنّفات وأوسع ما أُلّف في هذا المجال، يذكر الرّوايات المسندة أو الموقوفة عن الصّحابة والتّابعين، وهو محتو على نصيب غير يسير ممّا يسمّى بالإسرائليّات»(8) ولا يخفي الطّبري نفسه معالم منهجه في الكتابة فيما يشير إليه بصريح العبارة فـي قوله:« نذكر الدّلائل على صحّة ما قلنا من الأخبار والآثار»(9). ونظرا لتأخّر ابن جرير النّسبي فـي الزّمن فقد سبقته محاولات متفرّقة من التّفاسير تَمثّل جهده في الجمع بينها مخالفا بعضها ومؤيّدا بعضها الآخر بالتّرجيح والتّفضيل، فغدا هذا المجهود علامة بارزة أمام أنظار المهتمّين بشأن التّفسير وتاريخه من أمثال بدر الدّين الزّركشي الّذي صرّح بأنّ« محمّد بن جرير الطّبري جمع على النّاس أشتات التّفاسير، وقرّب البعيد » (10).
والّذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذا المنهج في التّفسير رغم تمسّكه النّظري بسلامة المرويّ من الضّعف والوضع فإنّه يعتمد الآثار المنقولة سواء كانت متواترة أو غير متواترة، ويقتصر على مراعاة المعنى العامّ إذا كان موافقا لمراد الله بحسب ما ورد في القرآن أو السّنّة وما حفّ بها من الأخبار والآثار، ونسوق في هذا الإطار أثرا له دلالة كبيرة على ما يوليه الضّمير المسلم من تقدير لجيل الصّحابة، وهذا الأثر أورده الحاكم في مستدركه مفاده أنّ كلّ ما ورد من الصّحابة فحَسَنٌ مقدّم (11)، وكأنّ السّنّة في حدّ ذاتها صافية من الوضع والتّدليس نقيّة من التّزيّد والافتراء فهي لا تثير عند أصحاب هذا المنهج إشكالا أو تساؤلا، ورغم أنّ الزّركشي قد نبّه إلى هذا الأمر وحذّر من غلبة الضّعف على الأحاديث وتفشّي الوضع فيها، فإنّ الأخذ بها ظلّ كثيرا(12)، ومعنى ذلك أنّ الأقدمين أنفسهم كانوا على غير اتّفاق إزاء سيول المرويّات، ومصداق ذلك ما عبّرت عنه رؤية أحمد بن حنبل نفسه البادية في تصريحه بأنّ « ثلاثة كتب ليس لها أصل: المغازي والملاحم والتّفسير»(13) ، والقصد من ذلك أن لا أسانيد صحيحة في هذه المجالات العلميّة. ومع ذلك يتّخذ أنصار هذا المنهج النّقلي موقف المناوئ لإعمال الرّأي والاجتهاد معتبرين أنّ النّقل هو الأصل الّذي ينبغي أن يقوما عليه محتجّين بالحديث القائل:« مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار» (14).
وهكذا يظلّ أنصار هذا المنهج هم الغالبيّة من الجمهور رغم كونهم لا يتمتّعون بِطاقة على قبول من يخالفهم رأيهم وفهمهم إزاء الآيات لأنّهم أصحاب عقول محدودة يغلّبون الوجدان والعاطفة الدّينيّة على النّظر والتّعقّل، ثمّ إنّ هذا المنهج هو منهج المحدّثين الّذي لم يسلم من الضّعف في الرّواية والتّدليس والكذب، وفي هذا المجال يندرج قول سفيان الثّوري: «لمّا استعمل الرّوّاة الكذب استعملنا التّاريخ»(15)، والقصد من ذلك اعتماد تاريخ الولادات والوفايات للتّثبّت من صحّة الأسانيد، بالإضافة إلـى أنّ النّقل مهدّد بتلاشي الذّاكرة تحت وطأة الأمراض والعاهات والتّقدّم في السّنّ.
وإذا كان ابن جرير الطّبري يكتفي بترجيح رأي من الآراء الّتي يعرضها، فإنّ أبا عليّ الجبّائي يذكر رأيه الخاصّ ويوسّع من الدّوائر التّأويليّة بتقليب أوجه الفهم للآية الواحدة لتبلغ، في كثير من الأحيان، الثّلاثة أوجه(16). وشتّان بين من يستعرض آراء غيره ومن يستنبط من لدنه أكثر من تأويل للآية الواحدة.
لقد أعرض الجبّائي عن الرّواية والأخذ عن الغير وإن بدرجة غير كلّيّة ممّا أثار حفيظة العديد من العلماء، إذ من غير اليسير تقبّل الرّأي المخالف والطّريقة المغايرة، ولا سيّما إذا تعلّق الأمر بمعالجة ما تقدّس من النّصوص، ومن هؤلاء ابن طاووس الّذي قال في الجبّائي: كأنّه ما سمع في الدّنيا مفسّرا للقـرآن اسمه عبـد الله بن عبّاس (17)، وانطلاقا من هذه الأرضيّة اتّسم منهجه بالميسم النّقدي إزاء الأخبار والآثار للضّعف الّذي يعتري سلاسل الأسانيد في غالب الأحيان.
إنّ هذه النّزعة النّقديّة لدى الجبّائي رشّحت العقل لديه إلى أن يصير مصدرا للمعرفة لا يقلّ قيمة وسلطة عمّا يمثّله النّصّ الدّيني، ولقد تجاوز سلطة النّقل ليصبح أداة معرفيّة تبحث في النّظر والعمل، وأصبح معيارا تصدر عنه أحكام التّحسين والتّقبيح، وبه تتحدّد حجّيّة القرآن والسّنّة والإجماع. وعلى النّقيض من ذلك لا يعير الطّبري العقل كبير أهميّة مقارنة مع الخبر والأثر، وقد لا يكون العيب في هذيْن النّمطين من المنقول، وإنّما هو كامن فيما يلحقاه، بما أوتياه من سلطة، من دغمائيّة في التّفكير.
إنّ الطّبري يعتمد على الرّواية ولا يتجاوزها إلى غيرها سواء وافق مضمون الخبر منطق العقل أو خالفه. ولعلّ هذا التّصوّر هو الّذي جعل الطّبري لا يفصل في تفسيره بين حدود الأسطوري اللاّتاريخي وما هو تاريخيّ، ثمّ إنّ الإعلاء من شأن الرّوّاة صحابة وتابعين وتابعي التّابعين ليس أمرا معزولا عمّا كان سائدا في عصره من إرادة سياسيّة تؤسّس مشروعيّتها على الدّين، حتّى أضحت عصمتهم مسلّمة لا تقبل النّقاش والمساومة (18).
وفي مباشرة الجبّائي لعمليّة التّفسير يجنح إلى التّركيز على عدم مخالفة ظاهر القرآن، إذ العدول عن الظّاهر إلى التّأويل بالنّسبة إليه إنّما يُحتاج إليه عند قيام الدّليل على أنّ إجراء اللّفظ على ظاهره غير ممكن كأن يؤدّي إلى ما يخالف المراد كالوقوع في التّشبيه أو التّجسيم(19). ولقد ولج الجبّائي هذا المجال من باب امتلاكه لناصية اللّغة العربيّة نحوا وصرفا وبلاغة متسلّحا بما اكتسبه من المنظومة الكلاميّة من ظروب الجدل وأصناف البراهين، فوفّر تفسيره، رغم عدم تغطيته لكلّ آيات المصحف، رؤية شموليّة إزاء العالم نسمّيها الرّؤية الجبّائيّة، وهذه النّقطة تدعونا إلى مراجعة ما ذهبت إليه نائلة السّلّيني من أنّ المتكلّمين لم يقصدوا التّفسير لذاته، وإنّما توقّفوا عند الآيات الّتي مثّلت إشكالا بينهم وبين مذاهب المفسّرين المستندين إلى ظاهر النّصّ (20). ونحن نستند في دعم هذا الاعتراض إلى ما شهده القرن الثّالث وبداية الرّابع الهجريّيْن من تفاسير وموسوعات اعتزاليّة كثيرة، وقد عُني المعتزلة بهذا المَشغل منذ وقت مبكّر ولا سيّما بعد اكتمال أصول المذهب اللّهمّ إلاّ إذا عنت الباحثة أوائل المفسّرين الّذين اهتمّوا بالآيات المتشابهات بصفة خاصّة وأفردوها بالتّأويل دون غيرها من الآيات لأنّها شكّلت مبحثا خلافيّا بينهم وبين بقيّة المذاهب.
إنّ التّفكير الدّيني التّقليدي من خلال الاتّجاه السّنّي والمعتزلي بدا حاملا لبذور الانكفاء على الذّات بما بدأ ينجذب إليه من صراع بين المذاهب مقارنة بالحيويّة الّتي طبعت الثّقافة الدّينيّة الّتي سادت في القرنين الأوّلين، فكيلت التّهم المتعلّقة بالتّبديع والتّكفير، وبدت بذور الإقصاء تطفو لتتبلور في شكل التّعصّب للمذهب وهو علامة تخفي الاعتقاد الجازم بامتلاك الحقيقة. فالطّبري، على سبيل المثال، قد كرّس الفَهْمَ السّنّي للقرآن، ورغم انفتاحه على جملة الآراء التّفسيريّة السّائدة تصريحا وتلميحا، فقد بدا حريصا على لمّ شعث كلّ ما يمتّ إلى السّنّة القوليّة والفعليّة بصلة مغضيا عمّا أضافه رجال الدّين إليها من تصوّرات حافلة بالتّرغيب والتّرهيب، فغدا شديد الحرص على تثبيت الفهم ذي الاتّجاه الواحد، من خلال الإشادة بما توصّل إليه السّلف من شروح وتفاسير وعبر الإعلاء من شأن بعضها وترجيحها، وهذا التّرجيح نابع من كون هذه التّفاسير قد وفّرت للجيل الأوّل أجوبة عمّا اعترضه من معضلات وذلّلت ما واجهه من إشكالات.
لقد ارتقى الطّبري بالأثر إلى حدّ جعله شاهدا على صحّة المعنى القرآني، فاحتلّ الأثر درجة اليقين الّتي حازها من سلطة النّصّ القرآني ذاته، وبذلك ارتفعت درجة أصحابه إلى مرتبة لا تضاهى، وقد أشار جنبول إلى هذه الفكرة في اعتباره أنّ عدالة الصّحابة قد أُحكمت جوانبها نهائيّا خلال العقود المتأخّرة من القرن الثّالث والعقود الأولى من القرن الرّابع هجريّا(21). في حين أنّ أبا عليّ الجبّائي قد كشف من خلال مجهوده التّفسيريّ عن مدى تغلغل المنزع العقلي في تفكيره المتمثّل في إزاحة الحواجز الّتي تحول دون مباشرة النّصّ القرآني ونبذ الوسائط الّتي تحجب المعنى المباشر منه، وهي رؤية تنبع من إضعاف سلطة الماضي وتجويز الخطأ على الصّحابة والتّابعين وإن لم يخلُ عمله هو الآخر من بعض آثار التّعصّب إلى المذهب الاعتزالي في التّفسير كما سيتّضح لاحقا.
وعموما فإنّ الفارق بين المفسّريْن يتجلّى في أنّ أبا عليّ الجبّائي إذا فسّر الآية قال: هي تعني، أو عنى الله ويورد ما بدا له صوابا من فهم الآية، في حين أنّ الطّبري إذا فسّر قال: عنى الله بالآية، وأورد فهم السّلف لها، ومن ثمّ خضعت دلالة النّصّ القرآني للرّواية عند الطّبري، وبدت حصيلة نظر وتأمّل عند الجبّائي.
ورغم هذه الفروق فإنّنا لا نعدم التقاء الرّجليْن حول العديد من النّقاط لعلّ أبرزها أنّ أفضل ضروب التّفسير لديهما أن توضّح الآية الآية وأن يفسّر الواضح من القرآن ما غمُض منه وأنّ اللّغة هي المدخل الأمثل للتّفسير والتّأويل وأنّ القراءة قد تعين على إدراك المعنى المراد وأنّ الجمع بين القراءتيْن وارد بشرط أن لا تكون القراءة شاذّة. وقد لا نأتي بجديد إذا اكتفينا بهذا المستوى الوصفي من الدّراسة ولم نلاحظ أنّ هذا الالتقاء بين التّفسيريْن دليل على أنّ السّنّة الثّقافيّة تتمتّع بنصيب من الحيويّة بالقدر الّذي يسمح للمذاهب أن تتعايش وتتحاور وتتعالق قبل أن تتكلّس الأفكار وتنحو منحى الجمود والتّعصّب، فالاختلاف بينهما يدلّ على أنّ الثّقافة في تلك الفترة قد اتّسمت بشيء من الاتّساع والمرونة بالقدر الّذي يسمح بنسبة من التّغاير وهو دليل تنوّع داخل الوحدة، فللتّفسير بالنّظر العقلي ما يجمعه مع التّفسير بالأثر المقدار الّذي يجعله مباينا له. فما الجامع بين هذيْن التّفسيريْن؟
إنّ الدّارس لا يمكن له أن يغضّ النّظر عن ملاحظة أساسيّة تتمثّل في أنّ التّفسير بشكل عام قد بدأ يُقيَّد، تدريجيّا، بما يمليه المذهب من قواعد، فغدا الوفاء للمذهب أحيانا أكثر حضوة من الوفاء للمعنى الّذي يحتمله النّصّ المفسَّر، وهكذا يتّضح أنّ التّأويل أهمّ خاصيّة طبعت العمل التّفسيري العليق بالنّصّ القرآني، فطُوّع إلى الانتماء المذهبي والعقيدة، والأصل في الشّيء أن تنبع العقيدة من النّصّ موضوع التّفسير وليس العكس، ولا يخفى على الدّارس مدى تأثّر كلّ مذهب بالمؤثّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة، في حين أنّ واجب المفسّر هوّ التّفكير ضمن إيقاع التّاريخ والتّحلّي قدر المستطاع بالتّجرّد كي ينفتح المفسّر على النّصّ قدر انفتاح النّصّ على الواقع.
إلاّ أنّ المفسّر التّقليدي، على العكس من ذلك، لم يهتمّ بالدّلالة النّصّيّة من أجل الوقوف على مقاصدها ومراميها مجرّدة بعيدة عن المعتقد، وإنّما جنح إلى تأصيل أفكاره وآرائه، فبدا هذا التّأويل محتويا على محاذير لعلّ من أهمّها تضييق ما اتّسع من المعاني والدّلالات النّصّيّة بحصرها في اتّجاه واحد، والحال أنّ طبيعة النّصوص القرآنيّة بوصفها منجزا لغويّا تقتضي المعنى ومعنى المعنى. وهكذا حدّ العمل التّأويليّ من القراءات الممكنة فتسبّبت في إفقار النّصّ (22). ثمّ إنّ هذا المنحى في التّعامل مع القرآن يوفّر تفسيرا متعسّفا ومحرّفا لمعانيه الجوهريّة.
ولئن تجاذبت التّراث التّفسيري منازع متعدّدة منها عقليّة ويمثّلها المعتزلة وذوقيّة ويجسّدها المتصوّفة وحرفيّة ويعبّر عنها أهل السّنّة، ولا سيّما الظّاهريّة منهم، فإنّ المجهود التّأويلي لدى المفسّرين المدروسيْن قد أخضع النّصّ إلى تصوّرات ذاتيّة بمفعول الانتماء المذهبي، إذ كان كلّ واحد منهما يجتهد في تفسيره ويحرص على أن تكون له المشروعيّة دون غيره. فليس من العسير، حينئذ، أن يهتدي المطالع لتفسيرٍ ما أن يدرك مذهب صاحبه ويضع إصبعه عن طبيعة اتّجاهه هل هو تفسير بالنّظر أو هو تفسير بالأثر (23).
ويبدو أنّ الجريان وراء المذهب هو من أبرز العوامل الكامنة وراء الجمود الّذي بدأ يدبّ في الثّقافة بشكل عامّ في الفترة الّتي تلت القرنين الثّالث والرّابع للهجرة، إذ وقع تَغليب الفقه على الكلام وتقويض عُرى المعقوليّة لصالح الدّغمائيّة، وأضحى النّقل مُقدَّما على العقل، وقد تُوّج هذا المسار بصدور البيان القادري المتضمّن لقواعد اعتقاديّة تنقض آراء المعتزلة وتمنعها منعا وتكفّر من اتّبعها وتهدر دمه.
ومن النّتائج المنجرّة عن الانسياق وراء تعاليم المذهب الضيّقة، نذكر أنّ المفسّر بدلا من أن ينكبّ على نصّ من أهمّ مميّزاته أنّه متحرّك ومنفتح ومناوئ لكلّ دواعي الانغلاق، فإنّنا نلفي الالتفات إلى الوراء حيث معاكسة الحركة التّاريخيّة بالانشداد إلى الفترة التّأسيسيّة إلى حدّ التّقديس والأسطرة، فالطّبري يعلي من شأن الصّحابة والتّابعين إلى حدّ اعتبارهم معصومين، وهو أمر يفتقر إلى ما يدعّمه: باعتبار الواقع التّاريخيّ أوّلا وبالنّظر إلـى بعض أقوال رجال الدّين أنفسهم ثانيا، ولا غرو في ذلك فطبيعة المنهج الاتّباعي تنهض على عدالة الرّوّاة، وهي عدالة يكشف التّثبّت منها أنّها ضعيفة الأركان تفتقر إلى أدلّة موضوعيّة لأنّها خضعت في أغلب أحوالها إلى اختيارات أملتها ضروب الانتماء المذهبيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة.
لقد أبانت هذه الدّراسة المقارنة، قدر المستطاع، عن مدى اعتماد الجبّائي والطّبري على النّصّ القرآني في بلورة آرائهما المشكّلة لمذهبيْهما كما وفّرت لنا اكتناه تفريقيْهما بين ما يقبل التّأويل من الآيات وما لا يقبل، وكشفت عن نظرتهما إلى المعارف ما يدرك منها من جهة الشّرع وما يعرف منها من جهة العقل.
وحاصل الكلام أنّ المساريْن اللّذيْن سار فيهما تفسير الطّبري وتفسير الجبّائي قد أحالانا على ملاحظة مفادها أنّهما يشكّلان اختلافا داخل إطار التّكرار وتنوّعا في إطار الوحدة، في حين أنّ النّصّ القرآني ببنيته اللّغويّة الرّمزيّة وبما هو كون من الآيات والعلامات فقد انفتح مع الطّبري على التّفسير بالرّواية كما انفتح مع الجبّائي على التّفسير بالدّراية.
وإذ شكّلت هذه المحاولات التّفسيريّة اجتهاد أصحابها في زمانهم قبل أن تنغلق السّنّة الثّقافيّة فإنّ القرآن، حسب عبارة محمّد أركون، نصّ مفتوح على جميع المعاني ولا يمكن لأيّ تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفده بشكل نهائي(24)، وهذا الرّأي غير بعيد عمّا ذهب إليه عليّ حرب في اعتباره أنّ « القرآن إمكان لا ينضب على التّفسير والتّأويل»(25).
الهوامش
(1) الطّبري، جامع البيان، مج4، ص 3098.
(2) انظر الطّبري، جامع البيان، مج1، مقدّمة المؤلّف، ص93.
(3) يحفل جامع البيان للطّبري بالكثير من الإشارات الّتي تشدّد على سلامة القراءة، والطّبري يلحّ على ضرورة تواترها لأنّ القراءة كالخبر يؤخذ بها متى صحّت، معتبرا أنّ الّذي يخالفها خارج عن لغة أهل الإسلام، واستمع لما يقول في معرض تفسيره للآية:« وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا » (البقرة2/ 83): إنّ حُسْنًا في الآية تصبح في قراءة الكوفة غير عاصم حَسَنًا، وفي قراءة أهل المدينة حُسْنًا، وقيل حُسْنًى ويعلّق على هذه القراءة الأخيرة بقوله: وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لم يكن على خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب. الطّبري، جامع البيان، مج1، ص ص 529-530. ومـن الكتب الّتي صُنّفت في علم القراءات نذكر على سبيل المثال: «معاني القرآن» للفرّاء و «مجاز القرآن» لأبي عبيدة.
(4) Claude Gilliot ,Exégèse langue et théologie en Islam, p135
(5) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص302.
(6) جاء في كتاب النّاسخ والمنسوخ لأبي جعفر النّحاس، ص 71: أنّ طاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عبّاس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم.
وقد ورد عن الحاكم الجشمي في معرض تفسيره للآية 119 من البقرة 2 والّتي نصّها: « إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» معالجته للخبر الّذي رُوي عن الرّسول، من طريق ابن عبّاس، أنّها نزلت في أبوي الرّسول حين قال:«لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ »، فعلّق الجشمي عن هذا الخبر بقوله: هو من الآحاد ويبعد أن يصحّ ذلك عن ابن عبّاس.
انظر عدنان زرزور، الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن، ص 154.
(7) ذكره السّيوطي في «الإتقان في علوم القرآن»، ج2، ص242.
(8) انظر السّبحاني، مناهج المفسّرين، ص ص153-154.
(9) الطّبري، جامع البيان، مج1، ص595.
(10) الزّركشي، البرهان، ج 2، ص159.
(11) م.ن، ص157.
(12) تجدر العودة في هذا المجال إلى محمّد حمزة في كتابه «الحديث النّبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» وبالتّحديد، الفصل الثّاني من الباب الثّاني، الحديث في التّاريخ، ص ص 133-203.
(13) السّيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص 227.
(14) رواه البيهقي عن ابن عبّاس، نقلا عن الزّركشي، البرهان، ج2، ص161.
(15) ابن الصّلاح، علوم الحديث، ص380.
(16) .V. Daniel Gimaret, Une Lecture muʻtazilite du coran, Préface, p 61
(17) الجبّائي، ت 1، ص 48.
(18) نستدلّ على فكرة الانحياز السّياسيّ بالطّريقة الّتي يتعامل بها الطّبري مع ابن مسعود، إذ يهمل ذكره بالرّغم من كونه صحابيّا مقرّبا من الرّسول، وإذا ذكره فهو يذكره مع مُرّة الهمذاني وأبي مالك الأشعري ويحشرهم جميعا في طائفة يتعمّد عدم تحديدها وذكر أفرادها بالاسم مكتفيا بالإشـارة إليها بعبارة: صحابة الرّسول. والحقيقة الكامنة وراء ذلك أنّ الطّبري يخفي احتراسا من إسناد كوفيّ ممثِّل لمدرسة مكّة.
Encyclopédie de lʻIslam, nouvelle édition,Tome III, J .C. Vadet, Article ‹Ibn masʽude›, p899
والّذي يدعّم هذا الرّأي أنّ السّلطة كانت غاضبة على عبد الله بن مسعود لمعارضته سياسة والي الكوفة، وقد كان هذا الصّحابي خازنا لبيت مال الكوفة وقد اقترض عاملها مالا منه لكنّه تأخّر في إرجاعه. ولمّا طالبه ابن مسعود بدفعه راجع العامل عثمان في الأمر، فما كان من الخليفة إلاّ أن كتب لعبد الله وهو يعتقد أنّه يحطّ من قدره: إنّما أنت خازن لنا. انظر هشام جعيّط، الفتنة، ص76.
|