الأولى

بقلم
فيصل العش
في ذكراها التاسعة: أي مصير للثورة التونسيّة؟
 (1) 
تسع سنوات بالتّمام والكمال مرّت على انتصار ثورة الشّباب أو ثورة الكرامة أو ثورة «البرويطة»، سمّها ما شئت، فالحدث الثّوري تحقّق على أرض تونس واضطر الدّكتاتور أن يهرب بجلده إلى من يحميه حتّى وافته المنيّة. حدثٌ كان له صدّى كبير في أغلب أقطار العالم العربي وغيّر في لحظة ما مجرى التاريخ وبعث في نفوس الشّعوب العربيّة الأمل في العيش بكرامة وعزّة. فهل حقّق هذا الحدث الأهداف التي من أجلها حصل؟ وهل كان المسار الذي تولّد عنه مسارا ثوريّا أم لا؟ 
إنّ قراءة ما حدث في تونس خلال التّسع سنوات الماضية يجعلنا أقرب إلى الحيرة والخوف على مصير هذا الحدث الثّوري بالرّغم من وجود بعض المؤشّرات التي تبعث في النّفوس بصيصا من الأمل. من أهمّ هذه المؤشّرات منسوب الحرّية الذي ما فتئ يرتفع ويشمل الجميع بالرّغم من محاولات بعض المتأدلجين المتحكّمين في المنابرالإعلاميّة ومواقع القرار التّضييق في هامش حريّة بعض مكوّنات المجتمع مقابل تمتّعهم ومن يسير في ركابهم بالحرّية المطلقة، فتراهم يسمحون لأنفسهم بتجاوز كلّ الخطوط الحمراء بما فيها إهانة رموز الدّولة ومؤسّساتها والتعدّي على المقدّسات وتدنيسها في الوقت الذي يصادرون حقّ الآخرين في التّعبير والتّفكير ويضيّقون عليهم بدعوى المحافظة على مدنيّة الدولة ومقاومة الإرهاب الفكري والعقائدي.
المؤشّر الثّاني الذي يبعث في النّفس الأمل بتحقيق أهداف الحدث الثّوري هو التّداول السّلمي على السّلطة والنّجاحات المتتالية في إنجاز انتخابات، اعترف الجميع، إلاّ النّشازمن الطبقة السّياسيّة، بأنّها في المجمل حرّة ونزيهة وشفّافة وهي تعبير عن اختيارات الشّعب بالرّغم من التدنّي النّسبي لنسب المشاركة فيها.
المؤشّر الثّالث يتمثّل في التّعامل الإيجابي للجيش الوطني مع سيرورة الأحداث بدءًا بالحدث الثّوري ومرورا بمختلف الأزمات التي عاشتها البلاد خلال السّنوات التّسع الماضية ووصولا إلى ماراطون الانتخابات التي حرسها الجيش وسخّر لها كلّ امكانياته لتوفير ظروف النّجاح. هذا المؤشر يدلّ على نضج القائمين على هذا السّلك ووطنيتهم وقناعتهم بمدنيّة الدّولة ودور الجيش فيها على عكس كلّ الجيوش العربيّة تقريبا. وهو مؤشر يبعث الأمل في النفوس ويدخل عليها شيئا من الطّمأنينة. 
المؤشر الرّابع وهو الأهمّ، يتمثّل في كشف زيف أطياف عديدة من النّخب التّونسيّة وانتهازيتها حيث كانت  السّنوات التّسع الماضية كافية لتعريتها أمام العامّة والخاصّة وتأكيد إفلاس شعاراتها، إذ بيّنت من خلال تجاربها السّياسيّة أنّها نخب فاشلة لا تجيد سوى التّعطيل والعرقلة وأنّها -عكس ما تعلن عنه صباحا، مساء ويوم الأحد- لا تعمل لصالح أبناء هذا الوطن وإنّما لفائدة أطراف ايديولوجيّة أو أجندات خارجيّة أو عصابات الفاسدين والمفسدين. فبعد تسع سنوات من الحدث الثّوري بدأت الرؤيا تتّضح لدى التّونسيين الذين أصبحوا يميّزون بين من يسعى لخدمتهم وتحقيق مصالحهم ومن يسعى لخذلانهم ولا يفكّر إلاّ في السّلطة وإغراءاتها.
  (2) 
في الجهة المقابلة لهذه المؤشّرات الإيجابيّة إن صحّ التّعبير، تتكاثر مؤشّرات سلبيّة تبعث التّشاؤم في النّفوس وتملأ القلوب جزعا من  مصير مظلم للحراك الثّوري بالبلاد.
المؤشّر الأول : استمرار تآكل البنية الاجتماعية
 لا يختلف إثنان في وصف الوضع الإجتماعي والاقتصادي الذي أصبحت عليه البلاد بالخطير. فجميع المحلّلين متفقون على الضّعف الفادح لاقتصاد البلاد وارتهانه للخارج وتفشي ظاهرة الفساد والرّشوة في مسالك الدّولة، إضافة إلى نسبة الفقر والبطالة خاصّة بالمناطق الدّاخلية مع تفكّك وتآكل النّسيج الاجتماعي وانحدار ثقافي رهيب. هذا الوضع ليس وليد الحدث الثّوري ولا نتيجة له، وإن ساهمت في تردّيه الحكومات المتتالية بعد الثّورة، فقد عمل بن علي وعصابته على تحطيم كلّ أسس المجتمع ليسهل السّيطرة عليه. هذه البنية الاجتماعيّة المتآكلة والتي فشل الحكّام الجدد في إنقاذها وتحسين وضعها أوعلى الأقل وضع استراتيجيّة جديدة لإعادة بنائها، هي إحدى المطبّات الكبرى في طريق الإنتقال الديمقراطي ومؤشّر خطير ينبّئ بفشل المسار الثوري وتحقيق أهدافه، ذلك أنّ الفقر والبطالة والتّهميش، ليست تربة مناسبة لنموّ شجرة الدّيمقراطيّة. فالمواطن الذي لا يجد قوته وقوت عياله، لا يهمّه من يحكمه. فهو مستعدّ لمبايعة من يوفّر له رغيف الخبز والماء والدّواء وقد يثور على من لا يجد له حلاّ لوضعه مهما ارتفعت نسبة وطنيته. وقد شاهد الجميع خلال الانتخابات الأخيرة كيف ارتقى من كانت لديه شبهة فساد إلى أعلى المراتب السّياسيّة وصار يراهن على الرّئاسة عبر اللّعب على أوتار محاربة الفقر وتوفير بعض المؤونة للمواطنين خاصّة في المناطق المحرومة والمهمّشة. 
إنّ عدم انحياز القوى المشاركة في الحكم والمحسوبة على الثّورة إلى الفئات الفقيرة المهمّشة وعدم العمل على تغيير النّمط الاقتصادي اللّيبرالي السّائد لن يزيد الواقع الاجتماعي إلاّ تأزما وتعقيدا وكلّما ازداد تآكل البنية الاجتماعيّة ارتفع منسوب الانتكاسة وفشل الحراك الثوري في تحقيق أهدافه.
 المؤشر الثاني: تحكّم الفساد في مفاصل الدّولة 
 لم يبدأ انتشار الفساد مع الحدث الثّوري وإنّما هو ميراث في جسد الدّولة منذ نشأتها، زاده بن علي وعصاباته حدّة وتفشّيا، إذ يقدّر على سبيل المثال أنّ تونس فقدت أكثر من 1 مليار دولار أمريكي سنويا في الفترة ما بين 2000 و2008 وذلك بسبب الفساد والرّشوة والعمولات التّجاريّة غير الشّرعيّة والأنشطة الإجراميّة(1) ويمكن القول أنّ الحدث الثّوري ساهم بشكل ملحوظ في تعريته، لكنّ الحكومات التي جاءت بها الثّورة أخطأت التّقدير فلم تتعامل بحزم مع الفاسدين ولم تسع إلى قطع رؤوس الفساد، فنبتت للفساد رؤوس أخرى وانتشر في مفاصل الدّولة وفي المجتمع كما ينتشر السّرطان الخبيث في الجسم العليل.
لم يعد باستطاعة شعارات مكافحة الفساد التي ترفعها كلّ الأطراف السّياسيّة والاجتماعيّة في البلاد ولا المحاولات المنمّقة للهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد (2) أن تضع حدّا لانتشار هذه الآفة في جسد هذا البلد. يقول الدكتور نور الدين العلوي «الفساد في تونس يشبه علبة الدّمى الرّوسية، دمية تخفي أخرى داخلها، فإذا نظرت في الفساد الكبير الذي ترعاه الحكومات والنقابات تجد داخله فساد الإدارة وداخلها فساد الموظف الفرد، والجميع يبرر للجميع فيحتار القانون وعلم الاجتماع أين الفساد؟ إنه في كل مكان، ومن الفاسد؟ الجميع فاسدون فمن للبلد وكيف يسير؟» (3)
 المؤشر الثالث:  الهشاشة السّياسيّة وصبيانيّة المتسيّسين
في الواقع لا توجد في تونس أحزاب سياسيّة بالمعنى المعروف للكلمة وإنّما دكاكين يشرف عليها ويتحكّم في مصيرها من كانت «الباتيندا» باسمه (4).أغلب هؤلاء شخصيّات اتّكأت على سجلّها في معارضة بن علي وملأت الدّنيا صياحا وشعارات ثمّ اكتشف النّاس أنّها خاوية بلا رؤية واضحة للواقع،غير عارفة لامكانيات البلاد الحقيقيّة وقدرات هذا الشّعب،عاجزة عن تقديم بدائل وتصوّرات قادرة على زحزحة الواقع المزري الذي تركه الدكتاتور قبل أن يهرب، ساعدهم على التّكاثر والتّكابر والتناحرالسّياسي نظام انتخابي أعدّ على القياس جعلهم يفوزون بنيابة الشّعب بأقلّ من ثلاثة آلاف صوت (5) وكلّما تخاصم أصحاب «الباتيندا» تصدّع الدكّان وأُغلق، لتُفتح عوضا عنه دكاكين أخرى لكلّ منها زعيمها. ومّما زاد في هشاشة السّاحة السياسيّة بروز ظاهرة المستقلّين كبديل عن الأحزاب وهي ظاهرة تعبّر بشكل فاضح عن صبيانيّة ودنكيشوتيّة السّياسيين.
ولا تبرز صبيانيّة السّياسيين في تشتّتهم وغياب بدائلهم فقط بل تبرز بشكل أوضح في تعاملهم فيما بينهم، فالعلاقة لم تقم على التّنافس في خدمة النّاس وثورتهم بل على عداء وتناحر على أسس أديولوجيّة وفي كثير من الأحيان لأسباب ذاتيّة (6) كما تبرز في انتهازيتهم حيث يخيّر أغلب الفائزين منهم الاصطفاف في المعارضة وعدم المجازفة بالحكم خوفا من الفشل الذي يؤدّي حتما إلى الانهيار والتلاشي والبقاء في وضع تصيّد أخطاء الذين يحكمون.
الكيان السياسي الوحيد الذي يمكن أن يرتقي إلى مصفّ الأحزاب هو حركة النّهضة، لكنّ حزبا واحدا لا يصنع الرّبيع ولا يستطيع تغطيّة فشل الطّبقة السّياسيّة بكاملها. يقول الدكتور نورالدّين العلوي : «لا توجد أحزاب كبرى في تونس، توجد حزيبات يمكنها تعطيل كلّ شيء فنظامنا الآن هو نظام الأقلّية المستقوية بضعفها الذي تترجمه ابتزازا وتعطيلا. الجميع يرى هذا الخور ولكنّه خارج النّقاش حالة من التّلاشي السّياسي والعجز المؤذن بخراب التّجربة قبل اكتمالها» (7)
 المؤشر الرابع: غياب الرّؤية الواضحة
 المطلوب ليس وضع البرامج والأهداف والمبادئ فالجميع تقريبا يتبنى نفس المبادئ الإنسانية السّامية والأهداف النّبيلة، وليس المطلوب أيضا إرادة التّغيير بل تجسيد تلك الإرادة والأهداف والمبادئ في فعل على الميدان وتحديد طريقة عمل واقعيّة. إن غياب الرّؤية الواضحة للواقع التّونسي وعدم وجود برامج عمليّة يحدّد فيها شكل التّدخل وكيفية العمل لدى الذين يحكمون والذين لا يحكمون هي مؤشر من مؤشرات الفشل. والظّاهر أنّ هؤلاء السّياسيين سقطوا في فخ الدّوران في فلك الأزمة، فنظرا للخراب الذي ورثوه عن النّظام السّابق وارتفاع وتيرة اللّهجة المطلبيّة لدى المواطنين، وسطحيّة الرؤى لديهم، التجؤوا إلى ثقافة الارتجال وسياسة المناسبات لإيجاد حلول ظرفيّة للمشاكل المتراكمة والمعقّدة.
تسع سنوات كاملة مرّت من دون أن يتبلور لدى النخب الحاكمة من سياسيين وخبراء منوال تنمويّ جديد يأخذ بعين الاعتبار امكانات البلاد وقدراتها ويرسم للفاعلين الميدانيين رؤية واضحة لكيفيّة التغيير والإصلاح. هذا الغياب مصحوبا بانعدام الإرادة السياسيّة القويّة للتّغيير لا يبشّر إلاّ بالانتكاسة أو في أفضل الحالات إلى التّمديد في عمر الأزمة وتعميقها. 
 المؤشر الخامس :حريّة الرأي والإعلام
 أضحت تونس تصنّف ضمن الدّول العربيّة الرّائدة في مجال حرّية الإعلام، لتحتلّ بذلك المرتبة الأولى عربيّا في مؤشّر حرّية الصّحافة لسنة 2019 وانتقلت من المرتبة 97 إلى المرتبة 72 عالميّا بحسب ما جاء في التّقرير السّنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود» (8) لكن ذلك لا ينفي أنّ «حريّة الإعلام» أصبحت مؤشّرا سلبيّا لنجاح التّجربة الدّيمقراطيّة الناشئة في تونس إذ أضحت يهدّدها الاصطفاف الحزبي الأعمى بسبب عدم قدرة بعض وسائل الإعلام على الحفاظ على قدر معقول من الاستقلاليّة. فالعديد من الصّحفيين والإعلاميين اصطفّوا منذ الأيام الأولى للثّورة إمّا أيديولوجيا أو على قاعدة النّفع المادي خاصّة أنّ أغلب مؤسّسات الإعلام لا سيّما الخاصّة منها تملكها رؤوس أموال أغلبها فاسدة، تسعى إلى توجيه الرّأي العام وتدجين حرّية الإعلام من جديد لفائدة لوبيّات ماليّة سياسيّة. فقد شهدت المنابر الإعلاميّة العديد من التّجاوزات اللاّأخلاقية وغياب الحياديّة والحرفيّة المهنيّة بعد أن احتلها أشباه المحلّلين الحاملين لنفس التّوجه السّياسي المعادي للثّورة. هرب بن علي لكنّه ترك خلفه أبواق دعايّة وسياسة إعلاميّة متواصلة لأصوات سلكت نفس الأسلوب من المغالطة وقلب الحقائق.
لا يمكن إنكار وجود ثقافة إعلاميّة مناضلة وأقلام صحفيّة حرّة تتوق إلى حرّية إعلام ايجابيّة وتقديم صورة الإعلام النّاقد الموضوعي، لكنّها محاصرة بتيّار جارف من إعلاميّين لا يحترمون مهنتهم وقواعدها ومن دخلاء لاهمّ لهم سوى تثبيط العزائم وتشويه كلّ نفس وطنيّ يريد أن يقدّم شيئا لهذا البلد. إنّ عدم تطهير قطاع الإعلام من هؤلاء سيعود بالخيبة والوبال على القطاع وشرفاء المهنة أوّلا وسينزل بمستوى الوعي العام للحضيض ممّا يهدّد بجدّية المسار الثّوري البنّاء ويعجّل بالانتكاسة.
 المؤشّر السادس :  غياب البعد الثقافي للثورة
 لم تشهد الثقافة في تونس تصحّرا وتهميشا مثل ما شهدته مع بن علي وعصابته، فقد تمّ إقصاء المثقفين بمختلف مشاربهم الفكريّة وتمّ مقابل ذلك التسويق لثقافة الإستحمار بالاستعانة بثلّة من أشباه المثقفين الذين باعوا أنفسهم للسّلطان. وعمدوا إلى التعليم، فأفرغوه من كلّ محتوى ومضمون وحاربوا كلّ أشكال التديّن والالتزام بالهوية العربيّة الإسلامية. وفي ظلّ هذا التصحّر الثقافي والمعرفي، انتشرت ثقافة الفساد والرّشوة والانتهازية وعدم المبالاة وحبّ المال وكره العمل وانتشرت الجريمة والرّذيلة وفساد الأخلاق. 
لم يتغيّر الوضع بعد الإطاحة ببن علي، إذ هرول الجميع إلى السّياسة وتركوا الثّقافة جانبا ولم يبال أحد بالمثقّفين ورجال التّعليم بالرّغم من أنّ جميع النّصوص التّأسيسيّة للعدد الهائل من الأحزاب تضمّنت فقرات خاصّة بالتّعليم والثّقافة. فغدت السّاحة الوطنيّة مرتعا لقوى فكريّة سلفيّة متطرفة بشقّيها الدّيني والعلماني المتغرّب، فاحتلت المشهد الثّقافي والفكري وحوّلته إلى ميدان صراع وعراك بينها. إنّ الاستبداد ثقافة والدّيمقراطية والمواطنة ثقافة، فكيف يمكن أن نمرّ بسلام من ثقافة الاستبداد التي كبّلت العقول والأيدي إلى ثقافة المواطنة التي تحرّر التونسي وتجعله سيد نفسه وتدفعه نحو الإبداع من دون ثورة ثقافيّة. لهذا السّبب يعتبـر غياب المشروع الثقافي مؤشرا خطيرا ينبّئ بالفشل لأنّ كلّ ثورة سياسيّة غير مصحوبة بثورة ثقافيّة هي ثورة عرجاء ومهدّدة بالانتكاسة.
المؤشر السابع :  غياب المجتمع المدني
 قد يستغرب البعض من تعبير «غياب المجتمع المدني» بتعلّة أن المجتمع المدني موجود على السّاحة وأن مؤسّساته تقوم بواجبها على أفضل وجه. غير أنّ الحقيقة عكس ما يتصوّرون، لأنّ ما يسمّى بالمجتمع المدني في تونس لا يحمل المضمون الحقيقي للكلمة. فالمجتمع المدني الحقيقي هو شكل من أشكال التّنظيم الشّعبي الواسع وليس جمعيات، وإن كثر عددها، محدودة الإشعاع لا تمثّل إلاّ نفسها والمنتمين إليها، يعمل كثير منها ضمن أجندات أطراف سياسيّة أوعقائديّة في الدّاخل وفي الخارج ومدينة إلى من يموّلها. 
 لقد كانت الجمعيات والرّابطات قبل الثّورة ملجأ للإنتهازيّين بالنّسبة للجمعيّات التي تدور في فلك النّظام وملجأ للمعارضة بالنّسبة للجمعيّات الحقوقيّة. وبالرّغم من قيام الثّورة، فإنّ أغلب الجمعيّات لم تفكّ ارتباطها مع الأطراف السّياسيّة أو الأجنبيّة وتصدّرت مهام المعارضة خدمة لأجندات حزبيّة وأيديولوجيّة، في حين عمدت أطراف سياسيّة أخرى إلى تفريخ عدد كبير من جمعيّات عقائديّة وإجتماعيّة وثقافيّة وفكريّة تدّعي الإستقلاليّة لكنّها في الحقيقة تعمل ضمن أجندة حزبيّة معيّنة. إنّ المجتمع المدني لا يمكن أن يقوم بدوره إلاّ إذا قام بفكّ الارتباط مع التّيارات السّياسية من جهة والقوى الأجنبيّة من جهة أخرى وتكوّنت مؤسّساته كتعبير عن حاجيات المجتمع الأهلي وليس عن حاجيات الطّبقة السّياسية ومطالب المموّلين الأجانب . 
 المؤشّر الثامن : التدخّل الأجنبي
من بين أكبر المؤشّرات السّلبيّة ارتفاع نسبة التدخّل الأجنبي في الشّأن الوطني من طرف قوى عالميّة تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجيّة على حساب الشّعوب وهو أمر مرهون ببقاء هذه الشّعوب تحت سيطرتها وهي بالتّالي تعمل باستمرار على التدخّل في الشّأن الدّاخلي لهذه الشّعوب سرّا وعلانيّة. ولقد ازدادت وتيرة التّدخل الأجنبي في الشّؤون التّونسية مع قيام بعض الأحزاب السّياسية بالاصطفاف وراء الأجنبيّ وبناء شبكاتها الخاصّة مع السّفارات الأجنبية. وباتت لقاءات عدد من السّفراء في مقرّات بعض الأحزاب أمرا شائعا. وليس خافيا على أحد الدوّر الذي يلعبه السّفير الفرنسي بمساعدة بعض القوى الدّاخليّة من إعلاميين وسياسيّين ورجال أعمال فاسدين في التّأثير على خيارات من بيده السّلطة ومن يعارضها خاصّة في المجال الاقتصادي.  
الخاتمة
المؤشرات السّلبيّة أكثر بكثير من المؤشّرات الإيجابيّة لكنّ الأمل يبقى مشروعا مادام في هذا الوطن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولن يكون الحدث الثّوري الذي عشناه في نهاية 2010 وبداية 2011 إلاّ محطّة من محطّات الكدح نحو التّحرّر والكرامة، فهو ليس الأوّل ولن يكون الأخير فإذا فشل هذا الجيل في توجيه المسار نحو الهدف المنشود، فسيأتي جيل آخر يصحّح المسار لأنّ تونس عبر تاريخها الطّويل «ولاّدة».
 الهوامش
(1)  Global Financial Integrity Report  بتاريخ 18 جانفي 2011.
http://www.gfintegrity.org/content/view/362 /70
(2)  الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هي هيئة تم إحداثها في 24 نوفمبر 2011 وذلك خلفا للجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي أنشئت مباشرة بعد الثورة التونسية في 2011. 
(3) د. نورالدين العلوي أستاذ علم الإجتماع السياسي بالجامعة التونسية- مواطن الفساد في تونس -مقال بموقع نون بوست  نشر بتاريخ 06/07/2019  - (https://www.noonpost.com/content/28430)
(4) لمزيد فهم موقفنا من الأحزاب في تونس يمكن الرجوع إلى مقالنا بالعدد 76 من مجلّة الإصلاح بتاريخ 20 فيفري 2015 تحت عنوان « في مأزق العائلة الديمقراطيّة وفشل أحزابها»
(5) نقصد هنا نظام «التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا» الذي اختارته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي لاجراء الانتخابات في تونس وتمثيل الشعب وهو ما سمح مثلا للنائب فيصل التبّيني عن حزب الفلاحين بجندوبة أن يحصل على مقعد بمجلس الشعب بـ2687 صوتا ونسرين العماري عن مشروع تونس بـ 1758 صوتا  فقط.
(6) أبرز مثال على ذلك الجبهة الشعبية، التي لم يكن لها برنامج طيلة السنوات التسع إلا الحديث عن جرائم حركة النهضة وتنظيمها السّري وفشلها في الحكم.  
(7) د.نورالدّين العلوي - الهشاشة الديمقراطية في تونس - مقال بموقع نون بوست - نشر بتاريخ 10/03/2017  - (https://www.noonpost.com/content/17013)
(8) التقرير السنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود» لسنة 2019 ، يتعلّق بالتصنيف العالمي لحرّية الصّحافة والذي يهمّ واقع الصّحافة في 180 بلدا.