الأولى

بقلم
فيصل العش
انتصار مرشّح الشّباب... هل هي بداية التّغيير ؟
 (1) 
كثر الحديث هذه الأيام عن «الزلزال الانتخابي» الذي حدث إثر إجراء الدّور الأول من الانتخابات الرّئاسيّة التونسيّة، وتعدّدت التحاليل وتنوّعت الكتابات حول الموضوع. فذهب البعض الى اعتبار ما حدث مفاجأة وذهب آخرون إلى اعتباره نتيجة منطقيّة لفشل المنظومة السياسيّة الحالية حكّاما ومعارضة في إيجاد الحلول للأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسية التي تعصف بالبلاد، وما حدث يعتبر «صفعة» للنّخبة السّياسية التّقليديّة. المؤكّد في قراءة لنتائج الجولة الأولى للانتخابات الرّئاسية التونسية(1)، وجود تغير راديكالي في مسار الأحداث وفي موازين القوى السّياسيّة يستوجب دعوة الباحثين والمتخصّصين في دراسة التّحولات الاجتماعيّة وعلم الاجتماع السّياسي للانكباب على محاولة تفكيك شيفرات ما حدث. 
إلاّ أنّ ما يهمّنا في مقالنا هذا هو النّظر إلى هذا الزّلزال من زاوية مشاركة الشّباب ومدى مساهمته في حدوثه. فهل كان للشّباب حقّا دور فعّال في ذلك؟ وهل تغيّر أسلوب التّعبير عن الغضب والسّخط لدى هذه الفئة المجتمعيّة فانقلب من المقاطعة إلى المشاركة؟   
(2) 
لنُعِد عقارب التاريخ إلى الماضي القريب وننظر في صفحاته إلى علاقة الشّباب بالسّاحة السّياسيّة انطلاقا من تاريخ اندلاع شرارة الثّورة التّونسيّة إلى وقتنا الرّاهن.  
فإلى وقت قريب من ثورة الشّباب على نظام بن علي الاستبدادي، كانت أغلب أطياف العمل السّياسي بمختلف مرجعياتها الفكريّة والإيديولوجيّة تبحث عن مدخل لتحريك السّاحة السّياسيّة وخلق جوّ من الحرّيات ولو بصفة نسبيّة من دون التّفكير في التغيير الجذري عبر إسقاط الدّكتاتور أو مواجهته المباشرة. ونظرا لعدم التحام هذه النّخبة  بالمظلومين والمحرومين من شباب تونس بالمدن الدّاخلية والأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن الكبرى نتيجة الحصار المضروب عليها من البوليس السّياسي، فإنّها لم تستوعب ما حدث بعد 17 ديسمبر ولم يقدر جزء كبير منها على مواكبة الحراك الثّوري الذي برز بعد استشهاد البوعزيزي والصِّدامات العنيفة التي حصلت بسيدي بوزيد وتالة والقصرين ثمّ عمّت البلاد من جنوبها إلى شمالها، ولم تستشعر اللّحظة الثّورية التي بلغت أقصاها ليلة 14 جانفي 2011، والدّليل على ذلك ترحيب العديد من المثقفين والسّياسيين بما جاء في خطاب بن علي الأخير واعتباره نقلة نوعيّة في سياسة النّظام وحلّا للأزمة التي غرقت فيها البلاد.     
لقد نجح شباب الثّورة في إسقاط الطّاغية من دون مساعدة أغلب مكونات الطّبقة السّياسية التي عايشت بن علي والتي لم تكن قادرة على  قراءة المستقبل من خارج دائرته. نجح الشّباب نتيجة توفّر إرادة الوحدة لديه لبلوغ هدف مشترك من دون إبراز مرجعيّاته الفكريّة والسّياسيّة. وقد تجسّدت هذه الوحدة بطريقة واضحة من خلال العلاقات التي ربطها الشّباب في ما بينه عبر شبكات التّواصل الاجتماعي. وهو ما تأكّد في اعتصامي القصبة وفي الوقوف بحزم أمام  محاولات التّكيف والالتفاف التي قامت بها بعض قوى الردّة.
لكن الشّباب سرعان ما انسحب من قيادة الثّورة أو أُجبر على الانسحاب وترك السّاحة للنّخبة السّياسيّة بشقّيها المعادي والموالي للنّظام القديم التي تحوّلت بين عشيّة وضحاها إلى ناطقة باسم الثّورة، فتصدّرت مواقع القيادة والمنابر الإعلاميّة مدّعية أنّها أهل للقيام بعمليّة الإنقاذ والتّخطيط لتحقيق الانتقال الدّيمقراطي. 
كانت أغلب القوى السّياسية منهكة ومتشتّتة بفعل قمع بن علي، ولم يكن في برامجها أو مخطّطاتها سوى ما كانت ترفعه من شعارات حرّية التّعبير والاجتماع وعبارات الصّمود والتّحدّي. وعوض أن تلتحم بصنّاع الثّورة الحقيقيّين ممّن عانوا من الاختيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة لنظام السّابع من نوفمبر وتحاول الاستجابة إلى تطلعاتهم وتبني برامجها انطلاقا من مآسيهم وطموحاتهم، عمدت إلى تأسيس الأحزاب والقيام بحملات انتخابيّة قبل أوانها، معتمدة في ذلك على شرعيّتها التّاريخيّة والنّضاليّة وعلى خلق صراعات وهميّة محورها الهويّة والحرّيات الفرديّة. 
لم تكن أغلب الأحزاب التي تأسّست والتي فاق عددها المائة والعشرين ذات تمثيليّة ومؤسّسات  فعليّة بل كانت حوانيت حزبيّة ترأستها رموز قديمة من زمنيّ بن علي وبورقيبة،عاش أغلبها فترة طويلة بالمنفى. وكانت أغلب هذه الحوانيت تدار بطريقة غير ديمقراطيّة وفي بعض الأحيان بشكل عائلي وفئوي. ولم يكن الشّباب، ضمن مخطّطات أغلبها، سوى جيش احتياط يزجّ بهم في المعارك الحزبيّة والفئويّة وحتّى الشّخصيّة أحيانا، مستغلّين عجزه على إنتاج رموز وقيادات لها القدرة على تأطير الحراك الشّبابي وتوجيهه لصالحه وخدمة أهدافه.
ربح الشّباب معركته مع بن علي لكنّه سرعان ما خسر مواقعه المتقدّمة في الثّورة وانتهت إلى شيوخ السّياسة الذين لا يعرفون من السّياسة غير فنّ التّناحر والاحتراب، تدفعهم في ذلك شخصيّاتهم المهزومة والمتأزّمة من جهة و«زعاماتيّة» شكليّة ومآرب شخصيّة افتقدوها لفترة طويلة من جهة أخرى. ورغم ادّعاء هؤلاء الشّيوخ بأنّهم ديمقراطيّون وأنّهم مؤمنون بمبدإ التّداول وإتاحة الفرصة للشّباب ليقود مرحلة البناء، فقد تشبّثوا بالمناصب القياديّة لأحزابهم ممّا يؤكّد ضعف إيمانهم بفكرة التّداول وتبنّي فكرة الزّعيم الملهم والقائد الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ولعلّ نظرة سريعة لأغلب الأحزاب التّونسية تؤكّد هذه الفكرة.  
وقد ساهمت أغلب وسائل الإعلام في حصول القطيعة بين قطاع كبير من الشّباب والأحزاب السّياسية بما قدّمته طيلة ثمان سنوات من برامج حواريّة نمطيّة لا تختلف كثيرا عن حلبات الصّراع والتّطاحن ومن حملات ممنهجة لتشويه الأحزاب والمتحزّبين مقابل تسويق متعمّد لشخصيّات معيّنة ذات مصالح مع تلك المؤسّسات الإعلاميّة وذلك تحت شعار «الاستقلاليّة».
(3)
لم تفلح انتخابات 2014 في ردم الفجوة بين الأحزاب والشّباب حيث بان بالكاشف من خلال نسب مشاركة الشّباب في الانتخابات(2) نفور هؤلاء من السّياسة والسّياسيين وفقدان الأمل في الإصلاح خاصّة مع تأزّم الوضع الإقتصادي والاجتماعي والسّياسي بالإضافة إلى تهميش الشباب وذلك عبر:
◄ تشتيت جهوده وهدر طاقاته بالزّج بطيف منه في أتون المعارك الوهميّة ودفعه إلى الانتماء إلى جماعات تؤمن بالعنف وقمع الرّأي المخالف.
◄ عدم الاهتمام بمشاغله والتّعالي عن تشريكه في البحث عن حلول لمشاكله ( ارتفاع نسبة البطالة وعدم الشّفافية في اعتماد مقاييس للتّشغيل) ممّا خلق غياب التّوازن النّفسي والاجتماعي لدى طيف كبير من الشّباب العاطل عن العمل الأمر الذي دفعه إلى ركوب قوارب الموت في اتجاه المجهول والهروب من واقعه المتعفّن. 
وتواصل عزوف الشّباب عن المشاركة في التصويت في الانتخابات البلديّة لسنة 2018 واعتقد كثيرون أنّ هذا الشّباب الذي فقد الأمل وخاب ظنّه في السّياسة والسياسيين، سيغيب عن الاستحقاق الرّئاسي، الذّي عاشت تونس على وقعه، في 15 سبتمبر2019 وسيتواصل عزوفه كتعبير لمعاقبة طبقة ساسيّة كاملة تجاهلت مطالبهم، لكنّ النّتائج التي أفرزتها الانتخابات أظهرت عكس ذلك ولو بشكل نسبيّ حيث بان بالكاشف اندفاع نسبة لابأس بها من الشّباب للقيام بواجب التّصويت خاصّة أنّ الأرقام تبرز الدّور الكبير الذي لعبه الشّباب وخاصّة الطّلاب في صعود نجم أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد وفوزه بالمرتبة الأولى وطنيّا (3).
فمالذي حدث بالضّبط؟ كيف نفسّر هذا التّغيير في موقف هذه الطّائفة من الشّباب التي كانت بالأمس مقاطعة لكلّ المحافل الانتخابيّة؟ هل هو نتيجة شخصيّة المترشحين من أمثال قيس سعيد والصّافي سعيد ونبيل القروي أم نتيجة تغيّر في استراتيجيّة هؤلاء الشّباب؟
(4)
يجب التذكير أوّلا أنّ مقاطعة نسبة كبيرة من الشّباب للانتخابات ليست ظاهرة تونسيّة فحسب بل هي ظاهرة عالميّة، فهناك عزوف كبير في مختلف دول العالم لدى الشّباب الذي لم تعد تستهويه السّياسة ولم تعد لديه الرّغبة في التّعبير عن مواقفه والمشاركة في الشّأن العام. ويجب التّذكير أيضا أنّ نسبة الشّباب المشارك في الانتخابات مازالت بعيدة عن المأمول مقارنة بما حدث في أول انتخابات حرّة في أكتوبر 2011. لذا فإنّ التنسيب مطلوب في الحديث عن علاقة الشّباب بالاستحقاقات الانتخابيّة. وفي المقابل يجب التّذكير كذلك أنّ مجموع الأصوات الشّبابية التي تحصّلت عليها الشّخصيات السّياسيّة بمختلف انتماءاتها لم يتجاوز ثلث ما تحصّل عليه الأستاذ قيس سعيّد لوحده وأنّ مجموع الأصوات من الفئة العمرية بين 18 و 25 سنة التي تحصّل عليها الثنائي المستقل قيس سعيّد والصّافي سعيد تكاد تبلغ 50 % .
يجرّنا هذا التّذكير الأخير إلى التّأكيد على أنّ النّسبة الكبيرة من الشّباب الذي أدلى بصوته في الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة لفائدة المترشحين المستقلّين من خارج منظومة الحكم كقيس سعيّد والصّافي سعيد قد عبّر عن استفاقة شبابيّة بعد أن تأكّد أنّ المقاطعة لا تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة لفائدة الشّباب خاصّة والبلاد عامّة وإنّما تؤدّي إلى تكريس واقع سياسي كارثيّ من شأنه أن يزيد في تأزّم الأمور وربّما فقدان الحاضر والمستقبل.
طلبة الأستاذ قيس سعيّد والمجموعات الشّبابيّة التي ينتمون إليها، أصبح لديهم وعي بأنّ المُقاطعة لا تؤدي إلى نتائج، وهو نفس الاستنتاج الذي وصل إليه الأستاذ نفسه بعد أن كان محرّضا على مقاطعة المحافل الانتخابيّة السابقة (4)، فكان الالتقاء بين الطلبة وأستاذهم الذي خبروه في الجامعة وأعجبوا بصدقه وأخلاقه وتمسّكه بالمبادئ، وأصبح لديهم جميعا قناعة بضرورة تغيير شكل الاحتجاج على المنظومة السّائدة فكان القرار بالمشاركة والدّخول في معركة «صندوق الاقتراع» وكان النّصر حليفهم. 
بقي أن نشير إلى أنّ النتيجة التي تحصّل عليها الأستاذ قيس سعيّد وارتقائه إلى الدّور الثاني لا يمكن أن تكون وليد زمن الحملة الانتخابيّة أونتيجة ظرفيّة لتحمّس الشّباب في آخر لحظة وانخراطه في معاقبة المنظومة السّياسيّة لما بعد الثّورة .. بل هو في نظرنا نتيجة عمل ميداني محكم قام به الأستاذ سعيّد بعيدا عن ضوضاء السّياسة والإعلام، مستفيدا من وسائل الاتصال الافتراضي والتّواصل الاجتماعي التي يتقنها الشّباب بالإضافة إلى اللّقاءات المباشرة كلّما سنحت الفرصة بذلك. 
لقد نجح الأستاذ قيس سعيّد بهيئته وتصرّفه في البروز بصورة مختلفة عن صورة السّياسي النّمطي وبالتالي استطاع أن يربط علاقة حميميّة مع فئة كبيرة من الشّباب خاصّة المتعلّم منه ويؤسّس شبكة علاقات واسعة مع تلك الشّريحة مستثمرا خيبتها ونقمتها على الطّبقة السّياسيّة برمّتها، رافعا شعار التّغيير فكان حليفه النصر. 
(5)
بعيدا عن تقييم شخصيّة الأستاذ سعيّد وما ستؤول إليه الأمور إن كان له نصيب في قصر قرطاج، فإنّ ما تحقّق من عودة للفئة الشّبابيّة إلى ركح السّياسة ولو بشكل محتشم يعتبر أمرا إيجابيّا لصالح الانتقال الدّيمقراطي في البلاد وهو بمثابة بداية الغيث وكما يقال «أول الغيث قطر ثمّ ينهمر».. فنجاح تونس في تحدّي واقعها المضطرب رهين اعتقادنا في وعي شبابها بعدم البقاء خارج دائرة العمل السّياسي والاكتفاء بالمتابعة وبضرورة مشاركته الفعليّة الميدانية في تحقيق تغيير جوهري في طبيعة العمل السياسي ونوعية الطبقة السّياسية وذلك عبر الحسم النهائي مع ثقافة ورموز السّياسة القديمة المأزومة سواء كانت أفرادا أو جماعات (أحزابا وجمعيات) ودعم محاولات إنتاج ثقافة سياسيّة جديدة تقوم على العمل الميداني والتّعايش والالتقاء وتوسيع دائرة المشترك وهذا لا يتحقّق تحت قيادات تعشق الصّراع والتّناحر تحكمها إيديولوجيات نمت وترعرعت  في زمن الاستبداد فتطبّعت بطبائعه وتميّزت برفض الآخر ومحاربته. إنّها حركة تصحيحيّة لمسار الثّورة وثورة داخل الثّورة يجب أن يقودها الشّباب، بعيدا عن أساليب العنف والتخريب، وفاء للشّهداء والجرحى وضمانا لحرّية الشّعب وكرامته. 
فهل هذه هي البداية؟ وهل باستطاعة قيس سعيد مساعدة هؤلاء الشّباب على تحقيق رغبتهم الشّديدة في التّغيير أم سيكتشف الجميع أن الفوارق شاسعة بين الحلم والواقع؟  
الهوامش
(1) يصدر هذا المقال قبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسيّة وكذلك قبل صدور نتائج الانتخابات التشريعيّة 
(2) سبق للأستاذ قيس سعيّد أن دعا إلى مقاطعة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، والانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة نهاية سنة 2014  ثمّ البلديّة لسنة 2018. 
(3)  لم تتجاوز نسبة الشباب، بين 18 و25 سنة، الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، عتبة 25 %.
(4)  صوت أكثر من 37 % من الشباب، بين 18 و25 سنة، لصالح المرشح المستقل، قيس سعيد، فيما صوت 11 % للمرشح المستقل، الصافي سعيد، و8.7 % لمرشح حزب «قلب تونــس»، نبيل القــروي، و6.1 % لمرشّح حركة النهضة الشيخ عبد الفتاح مورو.