في الصميم

بقلم
محمد القسنطيني
«الفرد والدولة وبناء النسيج المجتمعي» محاولة في إعادة صياغة آليات تشكل المجتمع المسلم وتحديد مهام م
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم، صاحب أعظم تجربة خالدة ‏عرفتها الإنسانية استلهم منها واستقى ويستلهم منها ويستقي كل البشر الذين عاصروه أو أتوا من بعده، سواء من أحبّوه أو عادوه ‏وكرهوه. نسأل الله تعالى أن يعيننا ويهدينا لفهم هذه التّجربة فهْما معاصرا بآليات وأدوات وإمكانات عصرنا بدون جمود أو تزمّت ‏ولا تشبّث أعمى بما توصّل إلى فهمه من سبقنا أو الادّعاء ونعت دينيّا، أنّه ظاهرة تدين أو شأن ديني وما شابهها من نعوت وصفات ‏لتحييده عن قصد أو غير قصد، عن كونه منظومة مجتمعيّة حضاريّة جامعة لكلّ مجالات الحياة الخاصّة والعامّة وكونه مرجعيّة ‏المجتمع في كلّ ما أشكل عليه في جميع المجالات بدون استثناء.‏
والحال أنّ ديناميكيّة وحركيّة تلك التّجربة الخالدة وقدرتها على الإجابة على كلّ ما أشكل على المجتمع مهما كان الظّرف، يؤكدها قوله ‏تعالى « وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ ‏مُسْتَقِيمٍ» (1) وقوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ ‏حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2).
فهذا الخطاب الموجه لكلّ المؤمنين على مدى التّاريخ في قوله تعالى « وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» وقوله تعالى «أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه» لدلالة بيّنة على ضرورة استيعاب تلك التّجربة التي قادها أسوتنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّها ‏تجربة حيّة مواكبة لكلّ العصور والأقوام وكأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحيا بين أظهر كلّ قوم في كلّ زمان ومكان، وهو ‏المعنى لكلمة « فِيكُمْ»،ولدلالة بيّنة أنّ في هذه التّجربة من العبر والمناهج والآليات والطّرق الصّالحة لكلّ زمان ومكان التي يجب تبنّيها ولكن بأدوات ‏وآليات تتناسب مع كلّ عصر وكلّ ظرف، وهذا هو الجهد الفكري المطلوب أعماله لتجديد قراءة ذلك المنهج وتلك الآليّات ‏والطّرق بحسب تطوّر وخصوصيّات كلّ مجتمع وكلّ عصر.‏.‏
هذه توطئة مهمّة وقناعة أساسيّة عند تناول قضايا المجتمعات المعاصرة واشكالاتها من منظور إسلامي، فهي بذلك تحدّد المنهج ‏والمرجع للفهم ولاستنباط الحلول لتلك القضايا وما أشكل علينا في عصرنا هذا، حيث المطلبيّة والاحتجاجات تجاه الدّولة ‏ومؤسّساتها، في أغلب المجتمعات وخاصّة النّامية منها، في تصاعد مستمر رغم اختلاف وتباين الأسس الفكريّة لمنظوماتها ‏الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فكلّ مكونات المجتمع تطالب وتنتظر تدخّل الدّولة سواء في المسائل الفرديّة من صحّة وشغل أو ‏المسائل المحلّية كرفع الفضلات وترميم الطّرقات أو المسائل العامّة كالأمن والتّنمية والرّفاه الاقتصادي.‏
فالمواطن يطالب بالتشغيل والإعانات والخدمات والدّعم والأمن ورغد العيش، والجماعات المحلّية تطالب بدعم مواردها ‏المالية وإمكاناتها المادّية وبأن تتكفّل الدّولة بكل احتياجاتها لإدارة شأنها أو لنمائها، والمؤسّسة الاقتصاديّة تطالب بدعمها عند ‏تأسيسها وعند انتداب أعوانها وعمّالها وحين يجب تكوينهم، ولمّا تتعرض إلى هزّات مالية أو اجتماعيّة، وعند إعادة تأهيلها، ولمّا ‏تصدّر من منتوجها إلى الخارج وحتى لماّ تريد أن تتوسّع وتكبر، وتطالب في نفس الوقت بحياد الدّولة عن المجال الاقتصادي وألاّ ‏تتدخّل فيه.‏
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الكلّ يتهرّب. المواطن يتهرّب من تحسين إنتاجيته ودفع الضّرائب واحترام القوانين المنظّمة ‏للحياة العامّة والحدّ من تبذير وإفساد المال العام، والجماعة المحلّية تتهرّب من تحمّل مسؤولياتها كاملة في إدارة الشّأن المحلّي، ‏والمؤسّسة تتهرّب من دفع الضّرائب وتحسين مردوديّة رأس مالها أو توظيفه واستثماره في المجالات ذات القيمة المضافة العالية ‏أو في المجالات ذات الأولويّة الوطنية والابتعاد عن الرّبح السّريع والاحتكار وكلّ الممارسات التي تضرّ بأداء الدّولة ونماء ‏المجتمع.‏
أمّا الدّولة فتفرض ضرائب وإتاوات لصرفها فيما هو منوط بعهدتها من تسيير وتجهيز ودعم ومساعدات، ويكون معلوم كلّ ضريبة ‏قد قدّر بحسب حجم القطاع المعنيّ بالضّريبة وتوقّعات نمّوه واعتبارات أخرى كأهميته بالنّسبة للمواطن أو للدّولة كالقطاعات ‏الاستراتيجيّة أو القدرة التّنافسيّة للمؤسّسات الاقتصاديّة أو غيرها من الاعتبارات. إلّا أنّه وبحكم سلوك الفرد (المادّي أو المعنوي) ‏المشار إليه أعلاه، مع عدم تطابق نسب النّمو الفعليّة مع التّوقعات، غالبا ما تجد الدّولة نفسها أمام نقص للموارد اللاّزمة للإيفاء ‏بتعهداتها، فتضطرّ إمّا للاقتراض أو الزّيادة في الضّريبة أو الاثنين معا. وفي نفس الوقت، ولدفع عجلة الاقتصاد تلتجئ الدّولة إلى ‏مساعدة قطاعات ومؤسّسات دون أخرى بعديد من الإجراءات والتّحفيزات كالتّخفيضات الضّريبية أو تحمل جزءًا من بعض ‏الأعباء المرتبطة بالتّشغيل أو التّوسع أو التّأهيل أو التّصدير أو غيرها من المساعدات، ممّا يشكّل أولا نوعا من الحيف الضّريبي ‏المقنّن، وثانيا ضغطا إضافيّا على موارد الدّولة وتوازناتها الماليّة وحاجتها لمزيد وتنوّع مداخيلها عبر المزيد من الضّرائب تفرضها ‏على قطاعات دون أخرى بشكل غير متكافئ، ممّا يزيد من تشنّج وتوتّر العلاقة بينها وبين أفرادها (المادّيين أو المعنويين) ويصبح ‏الحذر والتّوجّس وعدم الثّقة هي السّمة البارزة والأهم لهذه العلاقة. كما يفرض هذا السّلوك على الدّولة أن تكون فاعلا اقتصاديّا ‏رغمًا عنها، حتّى وإن كان في خياراتها الحياد وعدم التّدخّل المباشر في الشّأن الاقتصادي، فيتأثّر الاقتصاد بأدائها وتدخلاتها ‏وازدواجية دورها بين فاعل ومراقب.‏
والحقيقة أنّ هذا النّوع من العلاقات بين مكونات المجتمع ليس سمة لفكر اقتصادي معين، بل يشمل تقريبا كل أصناف ‏دول العالم. فأزمة الدّيون السّيادية للدّول الأوروبية وتأثيراتها السّلبية على اقتصادها واقتصاد العالم رغم ادّعائها أنّ اقتصادها ‏ليبيرالي ومتحرّر، أو الشّكوك حول قدرة الاقتصاد الصّيني (الموجّه) الحفاظ على نسبة نمو عالية (السّبعة في المائة فما فوق) إذا ‏لم تستمر الدّولة في ضخّ الأموال فيه بالمزيد من الاستثمار والتّجهيز ولو بمردودية غير مؤكّدة، أو تدخّل البنك المركزي الأمريكي ‏عبر برنامج التّسهيل الكمّي (‏quantitative easing‏) والتّحكم في نسبة الفائدة لإعادة النّمو للاقتصاد الأمريكي بعد أزمة 2008، ‏أو تأثير تراجع حجم استهلاك الصّين من المواد الأوليّة على صادرات الدّول الصّاعدة التي تشكّل جزءا مهمّا من مواردها؛ كلّها تبيّن ‏أنّ الدّولة الحديثة رغم تباين رؤاها الاقتصاديّة ومرجعياتها الفكريّة هي كيان مؤثّر جدّا في الاقتصاد تارة إيجابا وغالبا سلبا وأنّ ‏تغيّر الدّعم أو الضّريبة أساسه هذا الدّور أكثر ممّا هو حاجة الدّولة لتسيير الشّأن العام وهو مردّ هشاشة هاته العلاقة أو هذا العقد ‏بين الدّولة وأفرادها.   ‏
فهل هذا النّهج هو النهج الأقوم لتسيير شؤون المجتمع، أم هو شرّ لابدّ منه ولا مفر منه؟
هل للضّريبة أسس علميّة تقدّر عليها؟ وهل هي لزام وواجب أصلا؟ وهل مركزيّة القرار يعني مباشرة مركزيّة الفعل ومركزيّة الدّفع. ‏وهل الفرد دافع للتّنمية والرّفاه أم مدفوع لهما؟
منطلق هذه المحاولة في الإجابة عن بعض هذه الأسئلة والبحث عن أسس مهام مكونات المجتمع من أفراد وجماعات ‏ودولة كجهاز، هو قول الله تعالى « الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا ‏الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»(3)، حيث أنّ هذه الآية أتت بعد أن أذن الله تعالى للمؤمنين ‏قتال المشركين، يقول الله تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ‏بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ ‏اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا ‏بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»(4).‏
وبما أنّ معنى كلمة التّمكين هو التّوثيق كما فسّرها الشّيخ الطاهر بن عاشور، رحمه الله في كتابه التّحرير والتّنوير، «وأصله إقرار ‏الشّيء في مكان، واستعمل في هذه الآية بمعنى التّسليط والتّمليك، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو ‏من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم من مدخّراتها»، فالله عزّ وجلّ بيّن من خلال هذه الآية أنّ المجاهدين في سبيله حين يمكّنهم ‏الله من بسط سيطرتهم على شيء من الأرض أي دولتهم أو إقليمهم أو ما شابه ذلك، صارت مهامّهم هي إقام الصّلاة وايتاء الزّكاة ‏والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمّ إنّ عاقبة ذلك كلّه لله عزّ وجلّ. هذا وكأنّه اختصار لدور مكوّنات المجتمع، أولئك الذين ‏مكّن الله لهم، في هذه المهام الأربع. فكيف يمكن فهم هذه المهام؟ وما هي ديناميكية المجتمع؟ وكيف يتفاعل بين مكوناته في ‏إطار تلك المهامّ؟
بالتّعمق في كلمات هذه الآية تَبيّن أنّها فعلا إجمال وتلخيص للنّموذج التّنظيمي الأمثل لبناء وترسيخ، نسيج مجتمعي سليم، آمن ‏ومتعارف، يشدّ بعضه بعضا كالبنيان المرصوص، تتسابق وتتسارع كلّ مكوّناته لنمائه والرّقي به إلى أعلى الدّرجات والأرقى بين ‏الأمم. فهذه الآية تُعرّف وتُبيّن أنّ للمجتمع المسلم (الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأْرْضِ) منظومتين، منظومة حياة (أَقَامُواْ الصَّلَواةَ ‏وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ) ومنظومة إدارة (وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ) موجّهتين نحو نمائه والرّقي به إلى أعلى الدّرجات والأرقى بين ‏الأمم (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). ‏
ومنظومة حياة المجتمع ومنظومة إدارته منظومتان متكاملتان ومتلازمتان. فالقيام بالمهام المنوطة بعهدة الجماعة المحلّية ‏وهيئة الإرشاد المشرفة على المسجد، هي مقدّمة لنعم الله وفضائله، أي رحمته، «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(5) ولكن غير كافية لوحدها. فإذا أدّت القيادة العامّة المهام المنوطة بعهدتها، وفي مقدّمتها الأمر ‏بالمعروف والنّهي عن المنكر مع الالتزام بتثبيت منظومة حياة المجتمع داخله، فقد تمّ تأمين رحمة الله تعالى، وهي نِعمه ‏وأفضاله «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ‏وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(6)‎. وإذا أضيف إلى ما تقدّم التزام الكلّ، قيادة ‏وجماعات ومؤسّسات وأفراد، بنفس المرجع والمنهج والوجهة وبنفس الدّافع، معتصمين بحبل الله (استراتيجية تأمين المجتمع ‏من الخوف بأشكاله) خلف إدارة الرّقي، وهي التّسمية  لـ «مؤسسة الدّعوة للخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر»، قاطرة ‏المجتمع نحو أعلى درجات الرّقي، فقد ضمن المجتمع ديمومة نِعم وأفضال الله تعالى «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ‏وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ ‏الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‎ *‎يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (7)‎. غايتها كما ‏بيّنها الله تعالى في قوله «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (8)‎. ‏أن تكون أمّة الإسلام أرقى الأمم وتنعم بالأمن والطّمأنينة ورغد العيش مادامت على هذا النّهج القويم.‏
‏ أمّا فعّالية هذا الحراك المجتمعي وفعّالية منظومته المجتمعيّة فتؤمّنه مؤسّسة «إدارة الرّصد والإنذار المبكّر « وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ‏لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (9).‏
هذه الرّؤية، هي فريدة من نوعها، لا هي اشتراكيّة ولا ليبراليّة، بل مجتمعيّة. نسيجه المتعارف والمتراص هو الهدف وهو الدّافع ‏والضّامن والحامي والمؤطّر والمراقب لحركة الفرد، مادّي أو معنوي، المدفوع ذاتيّا بوعي جمعي يتسارع ويتسابق لنمائه ورقيّه ‏ونماء ورقي مكوّنات المجتمع الذي يحيا داخله، مستفيدا من أبواب ومجالات الاستطاعة والتّطور والرّقي التي فتحتها ويسّرتها له ‏دولته العادلة، التي قد انحصرت مهامها الأساسيّة في‎ ‎الرّفع وإزالة كلّ ما يحول دون استطاعة أفرادها، ومراقبة حجم جهازها حتّى ‏يكون متناسبا وجهد أفرادها، وفي تنمية المجتمع تنمية متعدّدة الأبعاد ومتوازنة بدون أن تطغى جهة على أخرى، وتوفير كلّ ‏مستلزمات تكريس وتثبيت منظومة حياة المجتمع حتّى تستفيد منها عند الحاجة من خلال آليات الخراج والتّكافل، وفي ‏المساعدة على تأمين مستقبل المؤسّسات الخاصّة من خلال المتابعة والإشراف على تطوّر نشاطاتها، بدون الحاجة إلى بعث ‏مؤسّسات عموميّة، ليصير النّمو الاقتصادي نتيجة حراك هذه المنظومة المجتمعية لا هدفا لذاته.‏
هذا النموذج التّنظيمي للدّولة وللمجتمع يقلُب أسس التّنمية وأسس العلاقة بين الفرد، المادّي أو المعنوي، والدّولة مما يزيل ‏الكثير من المتاعب التي تعيشها الدّولة الحديثة والنّاتج أساسا عن كثرة تدخّلها غير الفعال وذي مردوديّة ضعيفة في الشّأن ‏الاقتصادي والاجتماعي وما نتج عنه من تضخّم شبه مستمر لأجهزتها، وأحد الأسباب الرّئيسية للتّهرب الضّريبي وتأثيراته السّلبية ‏على توازناتها الماليّة وعلى السّلم المجتمعي. فالفرد صار، وفق هذه المنظومة المجتمعية، هو المُشغِّلُ الأوّل لمحرّكات المجتمع ‏المختلفة، المحلّية والمركزيّة. فهو الدّافع والمجتهد لتحسين وضعه المالي ولنموّ موجوداته ونموّ مجتمعه المحلّي ومن ثَمّ ‏المجتمع قبل إسهام الدّولة. حتّى صاحب رأس المال عليه أن يبحث ويجتهد للرّفع من القيمة الحقيقيّة لممتلكاته خوفا من أن ‏تأكلها الصّدقة المفروضة والتّضخّم أن وُجِد. ‏
دوافع تلك الآليات هي دوافع داخليّة وذاتية بحتة حيث الفرد يدفعه خوفه من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار، والجماعة ‏يدفعها المسجد، قلبها النّابض باستراتيجيته الموصلة إلى الأمن والطّمأنينة ورغد العيش، والأمّة متناغمة وموحّدة في الغاية ‏والأهداف، تقودها إدارة الرّقي السّاعية بلا كلل ولا ملل لاستدامة النّماء وتثبيت دوام وزيادة نعم وأفضال الله تعالى. فترى الأمّة ‏منظّمة ومنضبطة كانضباط الطّير في جو السّماء وجهتها وغايتها وأهدافها واحدة تدفعها آليات مثل الرّياح التي تنشئ سحابا ‏فيخرج منه الودق بدون برد، بدون ضرر. هذه قوّة هذا النّهج القويم، دوافعه متعدّدة ولكن كلّها مؤَطرة في اتجاه تحقيق الأهداف ‏الاستراتيجية للأمّة، النّجم القطبي للكلّ. والكلّ تحت الإشراف والمتابعة. فالفرد الزّاكي يؤطّره البيت والمسجد، والجماعة النّامية ‏تُؤطّرها المؤسّسات المركزيّة للمجتمع، والمؤسّسة تؤطّرها هيئة الإشراف على الفضاء الاقتصادي التي تتبعه المؤسّسة، وجهاز ‏التّنفيذ تُؤطّره مؤسّسة الرّصد والإنذار المبكّر، وإدارة الرّقي يؤطّرها مراجع الأمّة: القرآن والسنّة وما تعارفوا عليه والغاية والأهداف ‏الاستراتيجيّة المجمع عليها من الكلّ. ‏
أمّا القيادة الرّشيدة فهي الضّمانة وصمّام الأمان لحسن سير هاته المنظومة كلّها ونجاحها.  فولي أمر الأمّة، أعلى هرم السّلطة. وهو ‏المسؤول الأول على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وعلى تركيز وتثبيت منظومة حياة المجتمع، هو الذي لا ينفرد بالرّأي بل ‏هو المرشد وفق المرجعيّات التي هو مُلزم بالرّجوع إليها، أعلاها القرآن والسنّة، والنّاطق باسم المؤسّسات التي يُشرف عليها مباشرة، ‏ذلك العادل وذو رجاحة عقل وسداد رأي، والمطّلع على أحوال الجهات، كل الجهات حتى النائية منها، والعارف بكلّ مستلزمات ‏الإدارة الحسنة والفاعلة والمطّلع على العلوم والتّقنيات المتوفّرة والممكن الوصول إليها.‏
هذه المنظومة لا تحدّ من حرّية أحد بل تزيد من فاعليتها وتؤطّرها. فهي تترك كيفية التّنفيذ والإنجاز للفرد نفسه، مادّي أو ‏معنوي، وتيسّر وتتيح له المرونة والرّشاقة والانتقال بأريحية من موقع إلى آخر حتّى يمكن له الاستجابة بسرعة واستعجال، ‏واستفراغ ما يملك من قوّة لإنجاز عمله ومهمّته ولتصويب جهده باستمرار نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة للأمّة وهو ثابت ‏على خياراتها، دائم الاجتهاد ومبادر إلى كلّ ما يزيد من رقي الأمّة بدون أي خوف إلاّ من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار. كذلك، ‏هي لا تتسلّط على أحد، بل تضغط الضّغط الإيجابي على الفرد ولكن لا تكرهه على تبنّيها بقوّة. ‏
ليتبّين أنّ هذه المنظومة المجتمعيّة، التي تمّ استنباطها من القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هي فعلا مدخل ‏لحلّ العديد من القضايا الحسّاسة التي تؤرّق أغلب المجتمعات الحديثة كتدهور علاقات القربى، قربى الأرحام وقربى المكان، ‏والبيئة ومحاربة الجريمة المنظّمة، والتّجارة الموازية والتّهرب الضّريبي والبحث عن الجنّات الماليّة، وانحسار المواد الطّبيعية ‏والتّأثيرات السّلبية للعولمة المتوحّشة. فمن تداعياتها الإيجابيّة هي إعادة النّظر في منوال تطوّر المجتمع الإنساني بدون المسّ من ‏خصوصيّات مكوّناته وتنوّع ثقافاته ودياناته وعاداته، وفي نفس الوقت من دون المسّ ممّا تحقّق من انفتاح وتواصل بين تلك ‏المكوّنات كنتيجة للتطوّر الهائل للتكنولوجيات وحجم تبادل السلع. ‏
مع الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هكذا مشروع يتم تحقيقه على مراحل انطلاقا من واقع المجتمع والظرف الذي هو عليه ‏والأولويات والإمكانات المتاحة للقائمين عليه.‏
كما تمّ من هذه المنظومة المجتمعية المتميّزة استنباط نموذج متميّز لتنظيم المؤسّسات الرّبحيّة أو غير الرّبحيّة وتحديد مميّزاتها ‏وعلاقات المؤسّسة الرّبحيّة بجهاز الدّولة وتعريف المستثمر وتحديد خصائصه.هذه بعض ملامح النّموذج المجتمعي الذي تمّ استنباطه من القرآن والسنّة والله ولي التوفيق والله من وراء القصد.‏
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 101 
(2) سورة الحجرات - الأيتان 7 و8  
(3) سورة الحج - الآية 41
(4) سورة الحج -  من الآية 39 إلى41
(5)  سورة النور - الآية 56
(6)  سورة التوبة - الآية 71
(7)  سورة آل عمران - من الآية 104 إلى 107
(8)  سورة آل عمران - الآية 110
(9)  سورة التوبة - الآية 122