تأملات

بقلم
سعيد السلماني
جدل فلسفي حول أسبقية العقل ‏
 تمهيد:‏
يعتبر سؤال نشأة الفلسفة كتفكير عقلاني من الأسئلة المقلقة فعلا، فقد ‏كتب فولتير ‏Voltaire‏ في مقال عن العادات «‏Essai sur les Mœurs‏»: «‏‏أريد أن أعرف ما هي المراحل التي مرّ بها النّاس من حالة الوحشيّة إلى ‏حالة التحضّر».‏ ‏ وهو هنا يبحث عن إجابة شافية للسّؤال العميق الذي ‏ينطرح بقوّة في أعماقه؛ متى لاح أوّل فجر للعقل؟
إنّ هذا الهاجس أرّق العديد من المنشغلين بالفكر الفلسفي وغيرهم من ‏الباحثين والمختصّين في مجالات علميّة مختلفة. متى وأين بدأ التّفكير ‏العقلاني؟ هل بدأ بالفعل كما صرّح بذلك العديد من الباحثين في القرن السادس قبل ‏الميلاد مع اليونان؟ أم أنّه بدأ قبل ذلك عند أمم شرقيّة؟
العقل يحاور نفسه:‏
إن الإجابة الشّافية عن هكذا تساؤل يصعب القبض عليها، ومن ثمّ فقد ‏أخذ النّقاش مسارين مختلفين:‏
المسار الأول: يذهب إلى القول بأنّ بداية التّفلسف البشري أصله ‏تراث أمم الشّرق، (مصر، الهند، الفرس، الصين). ومن أبرز القائلين بهذا ‏الموقف نذكر: ‏
‏ ديوجين اللايرسي «‎  «Diogéne de laerceصاحب كتاب (حياة ‏الفلاسفـة)، وجورج سارتــون George sarton» ‎‏» (تاريخ العلم)، وشارل ‏فارنرCh. Werner» ‎‏» (الفلسفة اليونانية والفكر في الشرق القديـــم)، وغوستاف ‏لوبـــونG. Lebon» ‎‏» (الحضارات الأولـــى)، وإميل برييــه «‏E. Bréhier‏» (تاريخ ‏الفلسفة)، وبول ماسون أورسيل (الفلسفة في الشرق)، وج. فيليـــوزاJ. ‎Filiozat» ‎‏» في كتابه (فلاسفة الهند)، وزنكر «‏ Zenker‏» (تاريخ الفلسفة ‏الصينية)، وتوملين «‏‎ «Tomlin‏(كبار فلاسفة الشرق)...والقائمة تطول. ‏
وقد حاجج هذا الفريق من العقلاء على طرحه بجملة من الحجج نشير ‏إلى بعض منها‎:‎
‏1.‏ الفلسفة ظاهرة إنسانيّة عرفتها كلّ المجتمعات البشريّة، فالإنسان ‏منذ أن وجد في هذا الكون وهو يفكّر في قضاياه الوجوديّة والميتافيزيقيّة.‏
‏2.‏ أمم المشرق كغيرها من الأمم اهتمت بقضايا تعتبر من صميم ‏النّظر الفلسفي وممارسة التّأمل الفكري من قبيل (المسائل الميتافيزيقيّة كالموت، والنفس، والخلود، والأخلاق‎...‎الخ)‏
‏3.‏ حضارة الشّرق حضارة عريقة وعرفت تقدّماً وازدهاراً واسعاً ‏في شتّى الميادين.‏
‏4.‏ ثناء وتقدير مؤرّخي وفلاسفة اليونان أنفسهم: طاليس وفيثاغورس ‏وأفلاطون وهيرودوت.  فقد جاء على لسان أفلاطون في «محاورة طماوس»:‏‏«أيّها الإغريق إنّما أنتم أطفال». ‏
‏5.‏ استنادا إلى قاعدة: لا شيء ينتج من العدم وبأنّ لكلّ شيء بداية.‏
المسار الثاني: يؤكّد على أنّ الفلسفة / التّفكير العقلاني ابتكار ‏يوناني. ومن أهمّ من قال بهذا الموقف قديماً الفيلسوف اليوناني «أرسطو»، ‏وكثير من الفلاسفة والمفكرين في العصر الحديث والمعاصر أبرزهم:  هيجل «‏Hegel»، نيتشه‎ «Nietzsche» ‎، راسل «‎ «Russell، رينانRenan» ‎»، ‏كوزان «V.Cousin»، سنتهيلر «Saint-Hilaire»، بارنسBarnes» ‎»، وغيرهم، بل ‏حتّى بعض من أبناء الشرق كـ «عبد الرحمان بدوي».‏
‏ ومن أبرز الحجج التي يقدّمها هذا الموقف ما يلي:‏
‏1.‏ الفلسفة جهد نظري أو بحث نظري خالص.
‏2.‏ الفلسفة تجاوز للخرافة والأسطورة أي القطع نهائيّا مع الخرافة ‏والأسطورة أو أيّ شكل من أشكال التّفكير غير العقلاني.
‏3.‏ الفلسفة ابتكار يوناني وهذا ما تدلّ عليه لفظة الفلسفة نفسها، ‏فاللّفظة ذات أصل إغريقي ثمّ نقلت بعد ذلك الى كلّ اللّغات وتمّ تداولها بنفس ‏الاشتقاق مثلما هو في اللّغة العربيّة.‏
خــلاصة:‏
من بين الأسئلة التي تراودنا ونحن في حضرة حوار العقلاء / ‏الحكماء، ألا يمكن القول بأنّ الجدل حول أسبقيّة العقل جدل عقيم؟  ألا يكون ‏سؤال متى وأين ظهر التّفكير العقلاني؟ سؤال ملغم  بكلّ أنواع التأويلات ‏الايديولوجيّة المشبع بالنّزعة العرقيّة، الإثنيّة والمذهبيّة والمفعم بالتّعصب ‏والشّوفينية  لطرح ثقافي معين؟ ‏
إذن، فهل من سبيل إلى جواب موضوعي عن سؤال «متى لاح أوّل ‏فجر للعقل»؟
إنّنا نرى بأنّ كلاّ الموقفين فيهما من الغلوّ ما يكفي، الأوّل يبني موقفه ‏على أحكام مطلقة، تنحو نحو التّفاخر والاعتزاز بالنّفس. بينما الثّاني غير ‏موضوعي في تصوّره وينطلق من أحكام إيديولوجيّة تنحو نحو الهيمنة ‏والإذلال الثّقافي والمعرفي فيما بات يصطلح عليه عند النّقاد  بـ «التمركز ‏حول الذّات». ‏
وممّا لا شكّ فيه أنّ الاحتكاك الحضاري والتّلاقح الثّقافي أمر لازم  يقِرّ ‏به الغرب قبل الشّرق، ومن ثمّ فلا داعي للادّعاء بيونانيّة أو شرقيّة العقل، ‏فـ«لا الشرقُ شرقٌ تماماً ولا الغربُ غربٌ تماماً.. ففي السَفَر الحُرِّ بين ‏الثّقافات قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ مقاعد كافيةً للجميع...» إذ لا ‏هويّة خالصة للمعرفة والثّقافة.‏
‏ وقصّة الفلسفة لا تخرج عن هذا النّطاق، فهي قصّة الإنسان التوّاق إلى ‏الحرّية وإلى المعرفة والتّأمل في الكون، وعليه فإنّ مشكلات الحياة هي نبع ‏الفلسفة ومحكّ اختبارها.‏
المراجع المعتمدة:‏
‏-‏ جديدي محمد، الفلسفة الاغريقية، منشورات الاختلاف، ط 1 ، 2009.‏
‏-‏ ديوان محمود درويش، الأعمال الكاملة. ‏