قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة إبراهيم الخليل (2)
 ما الذي فعله هذا الإنسان حتى يتربع على أعظم عرش : الخلة الرحمانية؟
صحيح أن محمدا عليه الصلاة والسلام هو أفضل أولي العزم الخمسة وهؤلاء هم أفضل الأنبياء الذين هم أفضل الناس وهذه عقيدة معقودة. ولكنّ الذي جعلني سائلا لنفسي دوما متفكرا هو : ما الذي بوّأ إنسانا ـ هو إبراهيم عليه السلام ـ ليتربع على أعظم عرش أي عرش الخلّة الرحمانية. أي يكون للرحمان سبحانه خليلا؟ مشكلتنا هي أننا نتلو القرآن الكريم بلا تدبر ولا تأمل ولا تفكر ولا سؤال. ومن لا يسأل لا يهدى حتى في مادة الدنيا فكيف يهدى في معنى الحياة؟ هذا السؤال ملأ علي حياتي.
إبراهيم قبل أن يكون نبيا ورسولا وصديقا هو إنسان ككل إنسان يأكل ويشرب ويتألم ويفرح ويمرض ويموت. والذين يظنّون غير ذلك واقعون تحت مطارق الوهم إذ يظنّون أنّ الأنبياء نزعت منهم دسمات الغريزة ويختلط عليهم الأمر بالعصمة. العصمة هي أنّهم لا يبلغون عن ربّهم إلاّ الحق. ولا يعصم أحد عن جبلّته ولو عصم أحد من جبلّته لرفع عنه قلم التكليف وعدّ من البله. 
هذا الإنسان الذي يحب ما نحب ويكره ما نكره فطرة مفطورة لا بدّ أنه أتى ما لم يؤت حتى يرفع إلى هذه الدرجة العظمى. أي درجة الخلّة الرحمانية. هل يمكن أن يزعم زاعم أنه نال هذه الدرجة بلا عمل ؟ أين هو إذن من هذه العلاقة بين العبد وربه ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ؟).حتى إنك لو حلّلت المسألة بلسان العرب وقعت في المحظور إذ أن الخليل هو من صدقت طويته وسلم هواه حتى خالل خليله أي تخلله وتماهى فيه فهو له كالخل أدم يصلح. الخلة هنا معنوية لا مادية أي مجازية لا حقيقية ولكن التعبير عنها بإسم الخلة سيظل يجعل حياتي ليست ككل حياة.
هذا رجل تجاوز رضى خليله ـ أي ربه سبحانه ـ بفراسخ. عدا أن الذي رفعه الرحمان سبحانه إليه ـ إلى سدرة المنتهى ـ فأراه ما لم يزغ به البصر من آياته الكبرى دما ولحما وروحا معا هو الأقرب قطعا إلى الرحمان سبحانه وكذلك يسبغ سبحانه على أوليائه ما يجعل كلاّ منهم قرير العين. السؤال الآخر هو : لم قصّ علينا سبحانه قصة الخليل؟ هذا سؤال يسير والإجابة عند كل واحد منا هي أن نكون على ملته التي أمر محمد عليه الصلاة والسلام نفسه أن يكون عليها. لن يتربع واحد منا على عرش الخلة الرحمانية ولكن حسبنا أن نكون على الصراط نفسه لا على سبيل آخر.
خمس خلال بوّأت إبراهيم 
مقام الخلة الرحمانية العظمى
أجل.هي خلالٌ خمسٌ ضبط عليها إيقاع حياته وسوّى بها نبض هواه فتأهل لنيل الجائزة الكبرى : أن يكون من دون خلق الله جميعا للرحمان سبحانه خليلا (وإتخذ الله إبراهيم خليلا ). خلة إيمان يشيّد بالشكّ أوّلا. وخلة طاعة للرحمان سبحانه كأنما قدّت بطينة ملكية لا بشرية. وخلة عقل لحمته الذكاء وسداه الدهاء. وخلة خلق عظيم كريم عنوانه ( إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب). وخلة دعوة عالمية تجمع الناس إلى مثابة واحدة هي البيت الحرام. خلالٌ خمسٌ ينبسط فيها القلم فيما يلي من حلقات بقدر عدل يلحق به التالي ويفيء إليه الغالي بإذن الولي الوالي سبحانه.
الخلّة الأولى : 
رحلة الإيمان مبدؤها الشك ومنتهاها اليقين
كلمة الشكّ كلمة غير محبوبة في التراث الإسلامي والمعروف الديني. وحتى عندما يعلم الناس أن قائد رحلة الإيمان الأوّل أي محمد عليه الصلاة والسلام هو صاحبها، فإنهم لا يغيرون ما بأنفسهم منها لأنهم في الأغلب يعبدون الله بالأعراف والتقاليد والعادات والموروثات وليس بما تحقق في الوحي العظيم وحسبك بهذه ناكية ناكية. ألم يقل عليه الصلاة والسلام ( نحن أولى بالشكّ من إبراهيم) وهو حديث متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة؟. 
دعنا من هذا، فالخطاب لطلبة العلم المثابرين لا الكسالى والغافلين. أدعوك إلى قراءة ما ورد في سورة الأنعام ـ سورة التوحيد الكبرى بتعبير معاصر عظيم ـ إذ فيها وردت تفاصيل الرحلة الإبراهيمة من الشك إلى الإيمان. الذين يحتفظون بتصور أسطوري خرافي عن النبوة والإيمان والغيب يلقون في روع الناس أن تلك الرحلة رحلة رمزية وليست حقيقية. ليت شعري. وما يلجئ الوحي العظيم أن يدعي على الرجل ما لم يقم به؟ أليس ذلك يحط من قدره ثم يقول لنا أنه إتخذه خليلا؟ لم نهجر الواقعية وندعي أن الإيمان بالله واليوم الآخر شيء فوق العقل ولكن ألزمنا به فالتزمنا؟ لم نرفع الأنبياء فوق قدرهم البشري لنجعل منهم ملائكة يطيعون دون هوى منهم يحبسهم عن الطاعة؟ بمثل ذلك تظل الوسطية ـ وأكثرنا يظن أنها الطريق الأيسر وما هي بذلك إلا بعزم وعمل وعلم وجماعة ـ مهدورة بين فريق يطأ النبوة بقدميه كالذين قالوا عن النبي داوود عليه السلام أنه رأى إمرأة عارية تستحم فهام بها وفريق آخر يقدس النبوة وكلاهما على غير الصراط المستقيم. شيّد الخليل إيمانه بالله على أسس ثلاثة هي : النظر لا التقليد أو الغفلة والسؤال لا اللامبالاة أو الكبر وتوسيع الدائرة الإيمانية لا تضييقها
الإيمان بضاعة تقتنى بالجهد من مصنع الكون ومخبر الحياة
أخبرنا الوحي بداية أن إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ـ والتي فصلها بعد ذلك في الكوكب والقمر والشمس ـ إنما كانت بقصد أن يجعله من ( الموقنين ). أحدث نفسي دوما قائلا : نحن مصدقون بدون شك. ولكن هل نحن مؤمنون؟ أما أن نكون من الموقنين وبخلائط عجيبة من التقاليد والخرافات والأساطير؟ لا. اليقين هو أعلى درجات العلم والمعرفة والإدراك حتى يشبه الماء الذي ييقن في حوضه فهو فيه لا ينضب ولا يغيض. ما وقع لإبراهيم هو نفسه ما سيقع لآخر حفدته من خيط النبوة أي محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا إذ فزع مما يملأ رؤوس قومه من أوهام فهرع إلى غار حراء يتحنث ناظرا متدبرا متأملا عدا أنه لا ينظر من ذلك ـ أي لا يرقب ـ نبوة كما إدعى المستشرقون. 
إبراهيم هو صاحب هذه السنة الحميدة أي النظر في ملكوت السماوات والأرض إذ خرج والليل من حوله بظلمته مجنونا باحثا عن إله يشبع لهفته الروحية. ومن من الناس يستغني عن إله يبثه شوقه وأمله ويشكوه ألمه ويستغيث به؟ أكذبُ الكذابين من يدّعي ذلك. رأى كوكبا فتعلق به فلما أفل ـ أي سقط ـ ركله ثم رأى القمر بازغا فلما أفل تركه ثم رأى الشمس من بعد ليل بهيم عسعست جنته فقال ( هذا أكبر). وكلما كان الإله أكبر كان التعلق أكبر فلما أفلت كما أفلا إنتهت رحلته من الشك إلى اليقين الموقون أنه لا إله إلا الله. لأنه أكبر سبحانه من كل شيء : من الكوكب ومن القمر ومن الشمس. 
تلك هي علة التوحيد وذلك هو مقصد الإيمان. رحلة إبراهيمة بدأت بالشك وإنتهت باليقين وليس بالإيمان فحسب وما أراد الله سبحانه منها عدا أن يجعلنا نشيّد إيماننا على أسس النظر والتفكر والتدبر والتأمل وليس على أسس التقليد أو الغفلة عمّا في الكون وفي الحياة من شخوص وأمارات وعلامات ونجوم وأحداث. ذلك هو معنى القول أن الإيمان ـ نطفة اليقين الأولى ـ إنما هو بضاعة تقتنى ككل بضاعة. وأن هذه البضاعة ليس لها من سوق عدا سوق الكون والتاريخ والنفس البشرية. وأن عملة ذلك السوق إنما هي عملة العقل والنظر والتفكر والتدبر والتأمل وليست هي العملة المزيفة أي الغفلة واللامبالاة أو التقليد والإمعية
السؤال هو طريق العلماء والباحثين
إبراهيم هذا نموذج التوحيد ودون أي ريب. رجل عجيب يثير في نفسي ـ ربما دون رجال النبوة كلهم إلا قليلا ـ خواطر أجد لذتها في فؤادي. رجل لم يقصر في بناء يقينه على عقله فحسب، بل ظل يتقحم الأسئلة الصعبة العسيرة التي نعدّها نحن اليوم أسئلة ردة وهرطقة وزندقة وتلك هي أمارة من أمارات إنتمائنا الأسطوري الخرافي. 
سأل إبراهيم ربه قائلا ( رب أرني كيف تحيي الموتى). من منا يجرؤ على مثل هذا السؤال؟ حتى من يجرؤ عليه فإنه لا يجرؤ على التحدث به لأنه يخشى من الأمة التي تطبق الشريعة برجال الدين حدّ الردة أو تعزير الهرطقة وكفارة الزندقة. 
السؤال الخطير هو : هل فرح الله سبحانه بهذا السؤال أم لا؟ طبعا فرح به سبحانه. ولولا فرحه به لنهره أو عاتبه كما عاتب أنبياء من قبله ومن بعده. دليل فرحه بأسئلة ( الردة والهرطقة والزندقة وفساد العقيدة ) هي أنه إستجاب له سبحانه. إذ أمره بأن يكون هو نفسه مساهما في العملية. إذ كما كان هو قائد رحلة الشك حتى ظفر باليقين ولم يكن ذلك في رؤيا منامية أو في لوح مسطور كان يجب أن يكون هو نفسه بلحمه ودمه عنصرا في عملية إحياء الموتى وذلك إذ أخذ الطير فصرّها ووضعها على رؤوس الجبال ثم دعاها بإسم الله فجاءت إليه تسعى حية. سمّى الله هذا ( طمأنينة القلب). وعلّمنا في موضع آخر أن الذكر يخلع على القلب طمأنينته وبالجمع ـ لا بعقل التجزئة الذي دهس تديننا مما ورثنا من خرافات وأساطير إمتلأ بها تراثنا ـ ندرك بالضرورة ـ أي بين مواضع البيان في الكتاب العزيز ـ أن الذكر هو إنتاج الأسئلة الخطيرة والكبيرة والتي بها ينشرح الصدر ويمتلأ طمأنينة. 
وقبل هذا المشهد نفسه في سورة البقرة روى لنا عن رجل من بني إسرائيل كان لا يؤمن باليوم الآخر فأراه الله باللحم والدم والصوت والصورة بعد مائة عام كاملة كيف أنه هو نفسه مات فأحيي من جديد وكيف كان الأمر نفسه مع حماره وطعامه وشرابه. لا يضنّ الوحي علينا بالإقناع عقلا بالصوت والصورة وليس بالرواية البليدة الجامدة الميتة. إذا كان الأنبياء في وزن الخليل إبراهيم يحتاجون لطمأنينة قلوبهم بمثل هذا ـ أي إحياء بالصوت والصورة واللحم والدم وليس رواية ـ فكيف بنا نحن؟ ألسنا منهم أحوج؟ أجل والله. كيف لنا إذن به؟ لم يهمل الوحي هذا بل بث لنا في الكون نفسه وفي العلوم التي يثمرها الفلك اليوم والطب والكيمياء والفيزياء ما يجعلنا نرى بأعيننا صباح مساء وليل نهار مثل هذه المشاهد. ولكننا لا نمتشق السلّم المعدّ لذلك وهو سلّم العلم إذ حصر العلم بالله سبحانه على العلماء فقال ( إنما يخشى الله من عباده العلماء). العلماء بم؟ العلماء بالكون ثم العلماء بقانون الإختلاف كما ورد في سورة فاطر
لا يقوم إيمانك حتى تتحرر من الشرك السياسي بمثل تحررك من الشرك الوثني
سل نفسك بالله عليك هذا السؤال : ما كان يعيب إبراهيم ـ وهو الخليل ـ إذ قصر دعوته على تحرير الناس من الخضوع للأضرحة والإعتقاد في الأموات وغير ذلك مما يتمحض له أكثر الدعاة والعلماء اليوم؟ هل قصر إبراهيم ذلك على دعوتــه؟ أبــدا والله. إذ أخبرنا الوحي عنه أنه ذهب بنفسه إلى حاكم العراق الطاغــي ( النمرود) وظل يحاجه في التوحيد الإلهي. هل كان يجهل إبراهيم أنه معرض للموت؟ هل هو إنسان لا يخشى الموت؟ مثل هذه الأساطير هي التي حجبت عنا لذة الإيمان إذ ظننا أن النبوة فوق البشرية وأن الأنبياء لا يحبون الحياة كما نحب ولا يكرهون ما نكره. ليت شعري. لو أنهم كذلك ما كانوا قدوات. إذ مناط الأسوة هو أن تكون مثلهم ولكن ترتفع عنهم بجلدك وصبرك وقوتك النفسية أما لو فارقتهم جبلّة فأي فضل لك عليهم. دعنا من هذا رغم أهميته القصوى. 
إنما أراد الله أن يعلّمنا من قصة إبراهيم الخليل وكيف أنه بنى إيمانه حتى يصل درجة اليقين أن الشرك لا يتجزأ كالحرية وككل شيء. ألسنا نعيب على الذين يكيلون بمكاييل مزدوجة في الحرية فهي حلال لهم حرام علينا؟ لم لا ننفذ الميزان نفسه في التوحيد الإلهي؟ أليس أعلم العلماء فينا اليوم من يقاوم الشرك إذا تعلق بالأضرحة والموتى ويقضون حياتهم كلها وعقودا طويلة مضنية يخوفون الناس من عذاب القبر وهو حق دون ريب؟ فلم لا نسمع من هؤلاء كلمة واحدة عن عذاب الحياة وقبر الإنسان وهو يمشي في الأرض يتلظى بأسعار الأسواق وبعصا الظلمة؟ أليس لأن الموتى الذين أصبحوا أضرحة لا يملكون لأنفسهم شيئا سواء كانوا عبدة أو معبودين، أما الأحياء الذين يستوون على عروش الدولة والحكم فإن دونهم الموت الزؤام؟ ألم يعمّرنا نحن اليوم سبحانه حتى يكشف لنا دجل هؤلاء الذين قبّلنا منهم الرؤوس والأيدي وأسبغنا عليهم كل ألقاب الفخامة والعلامة والرياسة والمجد. فلما رفع الطغاة في وجوه شعوبهم العصا وساقوهم بحرسهم إلى بيت الطّاعة خائبين داخرين، أفتى لنا هؤلاء الدّجلة الكذبة أنّ طاعتهم هي طاعة لله ولرسوله وأنّ الخارج عنهم خارج عن الجنة آيب إلى النّار؟ ما سلك إبراهيم وهو الخليل هذا الدرب المنافق بل ظل يقاوم الشرك التقليدي أضرحة وقبورا بمثل ما ظل يقاوم الشرك السياسي في تصديه لإدعاء النمرود أنه يحيي ويميت. هل ساق الله إلينا هذا لنتداوله قصصا على الولائم تتلى والأشداق تحتسي الشاي؟ لا والله
تلك هي خلاصة الخلّة الأولى التي بوّأت إبراهيم ليتربع على عرش الخلة الرحمانية العظمى أي بناء إيمانه على النظر لا على التقليد وعلى السؤال لا على الإمعية والإتكالية واللامبالاة وعلى توسيع دائرة الإيمان حتى يشمل الإيمان السياسي العام وليس الإيمان العجائزي التقليدي، حسبه أنه يقول للناس أن الضريح لا ينفع ولا يضر وضريح الملك القائم يطحن الناس.