فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
صفقة القرن رَفاهيةٌ بذلٍ أو سَحقٌ بعزٍ
 لم تعد صفقة القرن وهماً أو خيالاً، ولا أماني أو أحلاماً، ولا هي هرطقات عجوزٍ أو حسابات تاجرٍ هرمٍ، كما لم تعد مجرّد أفكارٍ ومجموعة تصوّراتٍ، ولا مبادراتٍ ومساعي حلولٍ، بل غدت خططاً ومشاريع، وخرائط ورسوماتٍ، وحدوداً وحكوماتٍ، ووقائع وحقائــق، وعمّا قريب سيتمّ الإعلان عنها رسميّاً، والكشف عن بنودها فعليّاً، ولن تعود غامضة أو سرّيـــة، بل ستكون علنيّة وصريحــة، وسينشغل العالم بها وستخضع المنطقة كلّها لها، وسيعمل حكّام المنطقـــة عبيداً فيها وخدماً لسيّدها، وسيعبّدون الطّريق أمامها وسيذلّلون العقبات من طريقهــا، ولن يقوَ أحدٌ منهــم على الوقوف ضدّها، بل سيخضعون الرّافضين لهــا وسيعاقبون المناوئين لها، وسيضيّقون على المعارضين لها حتّى يقبلوا بها، أو ينسحبوا من الميدان ويتركوا السّاحة السّياسية لغيرهم ممّن ينسجم معهم ويقبل، ويخضع لهم ويخنع، ويسلّم بتصوّراتهم ويتبع.
انتهى الوقت الممنوح لمختلف الأطراف عدا الفلسطينيّين الرّافضين لها بالمطلق، والمعارضين لها بمختلف توجّهاتهم السّياسية وانتماءاتهم الحزبيّة والتّنظيميّة، للتّعديل عليها، أو لتبديل بعض بنودها، أو لإبداء الرّأي في مختلف جوانبها، ولم يبق إلّا الإعلان عنها رسميّاً، والمباشرة في فرض تنفيذها عمليّاً، وإكراه الأطراف على القبول بها، ويبدو أنّ دول المنطقة كلّها باتت تترقّب خطاب الرّئيس الأمريكي «دونالد ترامب» الذي سيخصّص لها، وفيه سيتمّ الإعلان الرّسمي عنها، وقد كان من المقرّر أن يعلن عنها يوم الثّاني عشر من شهر مارس/آذار الحالي، ولكنّ الإعلان أرجئ ولم يلغَ، وتأخّر ولم ينسَ، وتنتظره بعد الخطاب مرحلتان مهمّتان لهما دورٌ كبيرٌ في خطّته، الأولى القمّة العربيّة التي ستبارك الصّفقة، والثّانية زيارته للكيان الإسرائيلي في ذكرى النّكبة لافتتاح سفارة بلاده في مدينة القدس المحتلّة.
المعروض على الفلسطينيّين اليوم أمران لا ثالث لهما، ولا خيار أمامهم في غيرهما، فإمّا القبول بهذه الصّفقة المبهمة الغامضة الغريبة العجيبة المجحفة الظّالمة، مقابل رغد العيش ورفاهيّة الحياة، واتساع الأرض، وحرّية العمل والتّجارة، وانتعاش الحياة الاجتماعيّة ودوران عجلة الاقتصاد المحلّية، وتوفير الاحتياجات الأساسيّة لهم من كهرباء دائمة ومياه شربٍ نقيّةٍ، وبنى تحتيّة جيّدة، وخدماتٍ مدنيّة على مدى السّاعة، وحرّية سفر وانتقال، وجواز سفرٍ محترمٍ ومقدّر، واعترافٍ دوليّ بكيانهم الجديد ودولتهم العتيدة، وعلاقاتٍ حسنةٍ مع الجوار العربي المحيط ودولة الكيان، ومع الولايات المتّحدة الأمريكية ودول أوروبا مجتمعة، ومعها سلّة أخرى من تقديمات حسن النّوايا الإسرائيليّة، كالإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وإعادة جثت الشّهداء وكشف اللّثام عن المفقودين وتسليم رفاتهم، والسّماح بالعمالة الفلسطينيّة بالعمل في سوق العمل الإسرائيلي في مختلف قطاعات البناء والزّراعة والمعامل والمصانع وغيرها.
أمّا الخيار البديل للقبول والموافقة، والسّير في طريق تصفية القضيّة الفلسطينيّة وإنهائها، ووضع حلٍّ نهائي وأبدي لها، بما يرضي «الشّعب اليهودي» كلّه، وبما يحقّق الأمن المطلق والدّائم للإسرائيليين داخل حدود كيانهم الجديد، فإنّه السّحق الكامل والحصار الدّائم والتّجويع المطلق، والشّطب الكلّي من على الخارطة السّياسية والقطاعات العسكريّة، وعلى القوى السّياسية أن تعمل فكرها وتحرّر عقلها وتجري حساباتها، وتقرّر بين أن تكون أو لا تكون، وبين أن تشارك أو تشطب، وبين أن يكون لها دور أو تهمش وتتبع، وفي خطط الصّفقة الموازية تأليب الشّعب ضدّ قواه، وتشجيع حركات التّمرد والخروج، والثّورة والانتفاضة ضدّ القوى والتّنظيمات، وضدّ السّلطة والمنظّمة.
ربما لا تعلم الشّعوب العربيّة أنّ حكوماتها وقادتها أصبح أغلبهم جزءًا من هذه الصّفقة وطرفاً فيها، وركناً أساسياً في فرضها وتطبيقها، بل إنّ بعضهم يمارس الضّغط والإكراه، ويلوّح بالحصار والعقوبات، والتّجريد والإقصاء والحرمان، في حال لم يوافق الفلسطينيّـــون على الصّفقة ويقبلوا بها، ولتعلــم الشّعــوب العربيّـــة أنّ حكومات بلادهم قبلت بهذه الصّفقة المذلّة المخزية بلا مقابــل، ووافقت عليها بلا ثمن، بل إنّ بعضها سيدفع مالاً وأخرى ستتنازل عن أرضٍ، وغيرها ستتكفّل بمشاريــع، وجميعها ستقبل بالتّوطين وستمنح الجنسيّة للفلسطينييّن المقيمين على أرضها، وستشطب عنهم صفــة اللّجــوء التي حملوها معهم لسنين طويلة، أي أنّ هذه الحكومات ستعمل في هذه الصّفقة بالسّخرة والإكراه، أجيــرةً ومستخدمةً، وإلاّ فستكوى ظهورهم بالسّياط الأمريكيّة، وسيقصون من مناصبهم، وسيحرمون من سلطاتهم، وسيسقطون كما سقط غيرهم وهرب أو قتل.
لعلّنا اليوم وللمرّة الأولى أمام قيادتين ترفضان ما نرفض، وتعترضان على ما نعترض، وهما السّلطة الفلسطينيّة وحكومة المملكـــة الأردنيّة الهاشميّـــة، التي تستشعر الخطر مثلنـــا، وتبدي خوفها أكثر منّـــا، وتعلن معارضتها للصّفقة وعدم قبولها بها، وهو نفس الموقف الذي سمعنــاه من رئيس السّلطة الفلسطينيّة «محمود عباس»، الذي أعلن بوضوحٍ رفضه للصفقة وعدم موافقته عليهــا، ووعد بعدم تمريرها مهما كانت الأسباب.
لذا نحن مدعوون جميعاً للتّوافق والمصالحة والحوار، واللّقاء والتّفاهم والثّبات، وعلينا أن نقوّي مواقفنا، وأن نوحّد جهودنا، وأن ننحي مشاكلنا جانباً، وأن نتحالف مع الموقف الأردني ما بقي معارضاً لهذه الصّفقة ورافضاً لها، وعلينا أن نحرّض الشّعوب العربيّة لتقف معنا وتؤازرنا في موقفنا، وأن تمنع حكوماتها من الضّغط على الفلسطينيّين وتشديد الحصار عليهم، أو فرض عقوباتٍ جديدةٍ عليهم.
لا شكّ أنّ الفلسطينيين بين أمرين أحلاهما مرّ، وبين خيارين أفضلهما شرّ، ولكنّ المخلص للوطن والصّادق مع الشّعب والنّفس، والمتطلع إلى المستقبل والغد، والذي ينشد الماضي العريق وصفحات المجد التّليد، فإنّه لا يقبل بالمساومة، ولا يخضع للخيارات، ولا يقبل بالتّسويات.
فالفلسطينيّون أصحاب قرار وعندهم عزمٌ وإرادة، وبدونهم لا يكون حلٌ ولا تمضي صفقة، ولا يقوى رئيس أكبر دولةٍ ولا زعيم أبغض كيانٍ أن يملي على الفلسطينيّين حلاًّ لا يقبلونه، أو يفرض عليهم تسويةً تشطب وجودهم، وتصفي قضيّتهم، وتشتّت المشتّت من شعبهم، وتنزع عنهم جنسيّتهم وتستبدلها بغيرها، أو تنفي عنهم ملكيّة الأرض والأقصى والمقدّسات، فالفلسطيني هو الأساس وهو صاحب الحقّ الشّرعي المطلق، فلا تمرّ صفقةٌ بغير إرادته، ولا يفرض حلٌ بغير موافقته، وهيهات أن يكون بينهم خائنٌ فيفرط، أو عميلٌ فيبيع، أو مهادن فيضعف، أو متآمر فيقبل.