قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
عام جديد
 عام يأتي وآخر يمضي، يحتفل الناس بقدوم الجديد ويودعون القديم آملين أن يأتيهم بكل خير. وهم لا يختلفون فى غموض الأحاسيس تجاه المستقبل في بلاد لا تستقر على حال من المحيط إلي الخليج. سنة تعقب أخرى ونحن لا ندري هل نتفاءل أم نتشاءم والأمر كلّه لا يهدي إلى قرار.
(1)
في تونس يقترن دخول السّنة الجديدة مع ذكرى الثورة المباركة، ورغم مضي سنوات خمس على هذا الحدث المزلزل، ما زال الاختلاف حول ما حدث يولّد الأسئلة ويزيد من الفرقة والغموض. يتّفق الجميع على نعت ما حدث بالثّورة أو الانتفاضة  التي غيّرت مجرى التّاريخ في بلد كان يسير نحو حكم العائلة ومصير مجهول، كما يكاد الجميع يتّفق على أنّ هذه الثّورة قد جاءتنا بالحرّية  وأتاحت لنا الفرصة كاملة في المشاركة في الشّأن العام وأنّها قد مكّنتنا جميعا كلّ حسب رغبته من الانتظام في الجمعيات والأحزاب والتّكتلات بما جعل وجه البلاد يبدو أكثر بهاء من ذي قبل وينفض عنه عبوس القهر والإذلال.
إن حلول الذكرى لهو فرصة للاحتفال وإقامة الأفراح فهي عيد بحق، ولا يدرك معنى كون هذا العيد عيد بحق إلاّ من شاهد أو استمع لشهادات النّاجين من جحيم القهر وهم يتحدّثون للنّاس عن معاناتهم وما أصابهم من إذلال وقهر أو ذاك الذي اكتوى بنار الظّلم والجبروت أو تجرّع كأس الحرمان من الحرّية فى أقبية السّجون. إنّ الفرح فى مثل هذه المناسبات ضروريّ والاحتفال بها تخليد للذكرى وإذكاء لجذوتها فى النفوس، غير أنّ الفرح والفخر لا يجب أن ينسيانا ضرورة الاعتبار والتقييم الموضوعي لما أعقب هذه الثّورة حتى لا نحيد عن الهدف المنشود في الانتقال بالبلد من زمن القهر وما يعنيه إلى زمن الحرية وما تتيحه من سبل لاستنهاض النفوس وبناء الأمجاد.
(2)
هل يبدو الرّاهن أكثر غموضا من الماضي؟ وهل يبدو المستقبل أكثر استشكالا من الحاضر؟ ولماذا تتعدّد زوايا النّظر في بلد صغير مثل بلادنا لا يعاني ما تعانيه البلاد الأخرى من اختلافات في الملل والألسنة والديانات؟. وإلى أيّ مدى نحن محكومون بالآخر قبل غيره في خلافاتنا واختلافاتنا وما هي سبل الخلاص ؟
ثمّة من يرى أنّنا بصدد النّجاح بعد أن استطعنا الحفاظ على البلد موحدا، وتمكّنا من بناء مؤسّسات ووضعنا الدّولة وبقاءها فوق كل اعتبار. ومن يريد أن يرى نصف الكأس الملآن لا يعدم شواهد على نجاحات مهمّة في مناخ من العداء والفشل لعلّ أهمها أنّنا أنشأنا دستورا وأجرينا انتخابات وحافظنا على حقّ النّاس في الكلام .
ولكن الذي يريد أن يرى نصف الكأس الفارغ يستطيع أن يقدّم من الشّواهد ما لا يعدّ. كان الشّباب عماد الثّورة حتّى تسمّت به غير أنّ هذا الشّباب قد فقد الكثير من الحماسة ونأى بنفسه عن الثّورة ومخرجاتها، ولا أدلّ على ذلك من عزوفه شبه الكامل عن المشاركة في الانتخابات أو الانخراط في الأحزاب أو المساهمة في الإنتاج الثقافي والإبداعي. بل ثمّة من يرى أن الشّباب هو الخاسر الأكبر حيث لم يتحقّق له ما كان يتمناه من شغل وكرامة، ولم يعد  يثق حقّا في كون الثّورة ستنصفه بعد أن انحرف مسارها وتلاعبت بها أمواج الاختلاف.
إن الموضوعيّة في التّقييم سوف تقودنا إلى الاستنتاج بأنّ النّجاح هو الغالب على الفشل وأنّنا ما زلنا في المرحلة الأولى من مراحل الثّورة وأنّ ما أنجزناه إلى الآن  كثير ويمكن البناء عليه، ولكن هذا لا يعني غياب النّقائص بل إنّ الشّيطان يكمن في هذه النقائص . 
لم تستطع الثّورة أن تنجز شيئا يذكر على المستوى الثّقافى وظلّت رهينة المؤسّسات القديمة وأطرها. والأهم أنّها لم تستطع أن تنشئ خطابا جديدا يجبّ ما قبله وينشئ أواصر التقاء مع المجتمع التّائق إلى الحرية وإلى ثقافة جديدة تعبر عنه لا ثقافة تقصيه أو تتآمر عليه.
لم تفشل الثّورة ثقافيّا فقط بل فشلت إعلاميّا أيضا حيث لم تستطع أن تنجز شيئا ذا بال يطفئ عطش المتعطّشين إلى ميلاد إعلام جديد لا يناكف الثّورة أو يزيد المجتمع تمزيقا وتقزيما.
(3)
يمضي العام وقد أدمى قلوبنا بمشاهد الدّمار الهائل في سوريا، مدن بكاملها دمّرت وغادرها سكناها وأخرى عجّت باللاجئين إليها ولم تستطع لهم شيئا فوضعتهم في العراء يسحقهم الحرّ صيفا ويميتهم الصّقيع شتاء. حرب عبثيّة يقتل فيها جزّار شعبه بكلّ أنواع الأسلحة دون الخشية من العقاب، ويدير فيها ظهره لكلّ دعوات التعقّل والانسانية. جزّار يقتل بلا اكتراث وعالم يشاهد بلا اكتراث أيضا وكأن الأمر لا يعنيه، بل إنّ هذا العالم قد تواطأ بالسّكوت وبالمشاركة ولم يستطع حتى أن يعترف بحقّ الفارين من الجحيم في اللّجوء حيث الأمان. 
وتتواطؤ النّخبة الحاقدة مع الجزّار وتبرر له أفعاله كلّ حسب نواياه، وكأنها عديمة الإحساس مع أنّ ما حدث للسّوريين يعدّ جريمة العصر التي لا مثيل لها في التاريخ ومثل هذه النّخبة للأسف يسعى لحكم البلد ولا يألو جهدا في سبيل ذلك.
الآن تكاد الحرب تضع أوزارها، وغدا سوف تتكشّف حقائق التّاريخ عن مآس لا حصر لها وفظاعات سوف تسم هذه الأمّة بالعار الأبدي وسوف ينكشف الوجه الحقيقي لنظام الممانعة كما يدّعي أولياؤه لنكتشف مدى تغلغل العدوّ الصهيوني وكل الشياطين في مفاصل هذا النّظام و تفاصيله. كما سنكتشف عمق التّردي الذي صار إليه حال هذه البلاد التى يدّعي فيها كلّ فصيل  أو حزب أو جماعة أحقّيته فى امتلاك الحقيقة دون غيره ثم يستحلّ بهذا الادّعاء دماء النّاس وأعراضهم. قد تضع الحرب نهاية للقتال ولكنّها لن تضع نهاية للثأرات والأحزان وربما كان القادم أسوء في مجتمع متشظّ مليئ بالآلام والأحزان وشواهد المأساة. ولا يتوقّف التردّي عند حال النّاس في مثل ذلك الجحيم بل يزداد النّاس قهرا حين يتحوّل القاتل إلى صانع سلام.
(4)
 نودّع العام متشائمين أو متفائلين لا يهمّ، المهمّ أن نودّعه ونحن ندرك المعنى في جراحنا وآلامنا . ونقبل على سنتنا الجديدة آملين أن لا تكون كمثيلاتها فنحن الآن أحوج ما نكون لمغالبة الزمن وغلبته .ليس لنا في أنفسنا وأوطاننا من خيار سوى التقدم بها والرفع من شأنها، أوطاننا أمانة في أعناقنا ورثناها عن آبائنا وسنورثها أبناءنا ولا خيار لنا غيرها .
قد لا يتغير الكثير في السنة الجديدة ولكننا فى حاجة إلى الأمل والسلام واستنهاض الهمم من جديد.