وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
الإسلام السياسي .. بين أحكام الإسلام وواقع السياسة
 مع انفجار الثّورات في البلدان العربيّة، طفحت جدليّة الإسلام السّياسي بين تحييده عن العمل السّياسي واعتباره ديانة لا يجب على البشر أن يدنّسوه بقذارة السّياسة وبين من يؤمن بوجوب استعمال أفكار وأحكام الإسلام في الدّولة وأنّ الإسلام دين ودولة. وقد أنشأت بعض الأحزاب والجماعات التي جعلت من الإسلام السّياسي إيديولوجيتها وأسسها ممّا أثار غضب البعض الآخر خاصّة أولئك المناهضين لفكرة تطبيق قوانين الإسلام في الدّولة والمتعصبين للفكرة القومية والأفكار الماركسيّة والعلمانيين الرّاغبين بتطبيق فكرة فصل الدّين عن الدّولة. 
في كتاب «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم» الذي ألّفه «الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور» والذي انتقد فيه كتاب «الاسلام وأصول الحكم»(1)،عرّف الشّيخ الطاهر بن عاشور الخلافة بكونها « خلافة شخص الرّسول في إقامة الشّرع وحفظ الدين». كما أنّ من الواجب على الأمّة التي بايعت الإمام والذي أوجب فيه الشّرع العديد من الشّروط ليتولّى الإمامة أن   تتبعه وتنصره. ولا تقام الخلافة إلاّ بالبيعة من أهل الحلّ والعقد أو من العامّة. 
هذه البيعة أصبحت تسمّى بالانتخابات في مصطلح القانون الدّستوري، وقد اتخذت عديد الأشكال كالإنتخابات البرلمانيّة والرّئاسية. كما أكّد الشّيخ «محمد الطاهر بن عاشور» لا تصحّ السّياسة بما هي رعاية شؤون العامّة بالعدل المؤسّس للعمران بدون اتخاذ الشّريعة الإسلاميّة دليلا ومنهاجا في قوانين الدّولة لما لها من خير وصلاح في مختلف مجالات الحياة. ولم يؤكّد الشيخ على أهميتها فقط بل أضاف أنّها من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة وجُعلت السّياسة لتنفيذها.
لو تدبّرنا في نظريّات الفلاسفة وأقوالهم لوجدنا تشابها بينهم وبين أقوال المفكّرين الإسلاميّين في موضوع أساس السّلطة فــ «روسو» مثلا اعتبر أنّ العقد الإجتماعي يقوم على المشاركة والتّعاون بين مختلف الأطراف من حاكم ومحكومين وأنّ أساس مشروعيّة الدّولة تكمن في العقد الاجتماعي من خلال تحقيق المصلحة العامّة. من جهته إعتبر «جون لوك» أنّ العقد المبرم لا يمنح الحاكم صلاحيّة مطلقة بل مقيّدة بما يخول حقوق الشّعب. ويرى «مونتسكيو» أنّ طبيعة السّلطة السّياسية ينبغي أن تتأسّس على القوانين التي يرى «أفلاطون» أنّها «الفيلسوف الأمثل» الذي يعين كلّ حسب وظيفته وموقعه في الدّولة دون انحياز ولا إفساد في دواليبها. 
وقد بيّن الفلاسفة أنّ الدّيمقراطية بما هي تتويج للحرّية في إطار الدّولة تمثّل أحسن المناهج التي وصل إليها الفكر السّياسي الفلسفي إلى اليوم إلاّ أنّ مناصري هذا المنهج يقرّون بأنّها تمثّل خطرا على الأنظمة خاصّة في صورة تدخّل المال ورجال الأعمال في الحياة السّياسية. 
يعتبر «حسن البنا» رائد فكرة الإسلام السّياسي وهو مؤسّس حركة «الإخوان المسلمين» والمجتهد الرّئيس في وضع بنائها التّنظيمي والفكري والتّربوي ثم جاء من بعده «السيد قطب» و«محمد الغزالي» و«يوسف القرضاوي» وغيرهم الكثير من علماء المسلمين. شهد هذا الفكر الإصلاحي تطوّرا كغيره من الأفكار انطلاقا من فكرة مشروع الخلافة الإسلاميّة الذي تبنّاها مؤسّس حزب التحرير «تقي الدين النبهاني» مرورا بتجربة «الإخوان المسلمين» في الأردن واليمن والكويت وتجسّد في لبنان في ثلاث هيئات: الإخوان والسّلفيون والشّيعة وصولا لتجربة حركة النهضة في تونس. 
ففي مشروع دولة الخلافة الذي تبنّاه حزب التّحرير نصّت المادّة الأولى منه على أنّ : «العقيدة الإسلاميّة هي أساس الدّولة، بحيث لا يتأتّى وجود شيء في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كلّ ما يتعلّق بها، إلاّ جعل العقيدة الإسلاميّة أساسا له، وهي في الوقت نفسه أساس الدّستور والقوانين الشّرعية بحيث لا يسمح بوجود شيء ممّا له علاقة بأيّ منهما إلاّ إذا كان منبثقا عن العقيدة الإسلامية». فنلاحظ أنّ النّظام السّياسي الذي سيبنى عليه لا يعترف بالحرّيات في شكلها الحديث كما لا يعترف بالسيادة للشّعب أو حتى بمبدأ الفصل بين السّلط. 
مع تطوّر الأفكار وتقدّم التّجارب ظهر فكر اتسم بالحداثة مع الشّيخ «راشد الغنوشي» والذي أشار بأنّ الماركسيّة ترى بأنّ الدّولة مجرّد أداة لقمع الخصوم وتحقّق أهداف شخصيّة، أمّا الديمقراطية الغربيّة فهي تقوم على الفلسفة المادّية كتحقيق الرّبح واللّذة أمّا الدّيمقراطية في دولة الإسلام فتهدف إلى إتاحة مناخ الحرّية والعدل وغيرها من القيم الجوهريّة داخل الدّولة.
إنّ الباحث في علاقة الإسلام بالسّياسة يدرك أنّ السّياسة قد أطّرت من قبل الإسلام كغيرها من الظواهر التي جعلها تنطوي في إطار الصّراط المستقيم وقد تتجدّد فروع الأحكام بتطوّر الأفكار.
فإنّ كانت «الديمقراطية» كفر كما يدّعي البعض فإنّ استعمال كل منتج تكنولوجي حديث هو كفر على هذا الأساس. لذلك فهذا الفكر غير منطقي على جميع الأصعدة علميّا وفقهيّا وفلسفيّا لأنّ الأنظمة السّياسية تتطوّر وتتغيّر ولا تعود أبدا إلى ما كانت عليه، فالأنظمة الملكيّة في القرون السّابقة قد ذهبت وطويت مع صفحات التّاريخ. كما أنّ على الحكام أن يكونوا فلاسفة لهم منهجا فكريّا وثوريّا يتبنونه كما تبنّى النّبي محمد صلى الله عليه وسلم أفكار الإسلام لينشأ اللّبنة الأولى في تاريخ الدّولة الإسلامية. 
فالسّياسة وجب أن تكون لها فكرة وإيديولوجيّة قويّة تنبني عليها أفكارها ومنهجها في تسيير الدّولة كالماركسيّة والاشتراكيّة وغيرها إلاّ أنّ التّجارب بيّنت للجميع أنّ كلّ هذه المناهج أدّت للفشل الذّريع في حين أنّ الإسلام كمنهج سياسي قد نقل رعاة الغنم إلى قادة للأمم في سنوات لا تساوي في عمر بناء الدّول والحضارات شيء يذكر .. 
الهوامش
(1) مؤّلف الكتاب هو علي عبدالرازق أحد فقهاء الأزهر، وقد مثّل صدمة لدى شيوخ الأزهر آنذاك واعتبروه وصمة عار في تاريخ جامع الأزهر وشيوخه ممّا أدى إلى إقالته من التّدريس فيه.