في العمق

بقلم
وفاء توفيق
القيم الزوجية في القرآن الكريم
 مقدمة
باستقراء آي الوحي في مجال العلاقة الزّوجية، بدا لنا أنّ من أهمّ مقاصد الشّريعة المرتبطة به المحافظة على الميثاق الزّوجي الغليظ من أيّ إفساد أو تفريط. وهكذا أحاط الشّارع سبحانه هذه المؤسّسة بأحكام تتضمّن قيما عدّة تدور حول مقصد جامع وهو تحقيق السّكن بين الزّوجين الذي لا يتحقّق إلاّ بتحقيق حسن المعاشرة والإحسان بينهما، والذي تنتج عنه كما تغذّيه المودّة والرّحمة بينهما. 
إنّ المعاشرة بالمعروف تعدّ القيمة الأمّ والرّكيزة الأساس التي يجب أن تدثّر العلاقة الزّوجية؛ فمنها تتناسل باقي القيم الأخرى التي تعدّ خادمة مغذّية لها -كما سنرى لاحقا-. 
إنّ المعاشرة بالمعروف قيمة خلقيّة وسلوكيّة تضمن استمرار العلاقة الزّوجية وجودا ورسالة. وقد أكّد عليها القرآن بقوّة؛ فالآيات الدّالة على هذا الأساس المحوري في الحياة الزّوجية كثيرة ومتعدّدة بحيث تكرّر ورود هذا المعنى في الآيات المتعلّقة بالنّكاح والطّلاق في اثني عشر موضعا، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآيات التّالية:
- يقــول الله تعالــى: ﴿ وَلَهُــنَّ مِثْــلُ الَّذِي عَلَيْهِــنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾(1).
- يقول الله تعالى: ﴿ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾(2) .
- يقول الله تعالى: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾(3) .
- يقول الله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾(4) .
- يقول الله تعالى: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾(5) . 
إنّ المعاشرة بالمعروف من مستلزمات معاني الميثاق الغليظ الجامع بين الزّوجين والذي هو -في نظر الشّرع- عقد محكم قويّ متين، مؤكّد بيمين وعهد، تأخذه الزّوجة من زوجها.وقد كاد يجمع على هذا المعنى جمّ غفير من المفسّرين؛ فقد أكّد ذلك كلّ من ابن أبي زمنين (6)، ومكّي (7)، وابن عطيّة (8)، وابـن العربـي (9)، وابن الفرس (10)، والقرطبي (11)، وابن جزي (12)، وأبو حيان (13)، والثّعالبي (14)، وأطفيش (15) وغيرهم كثير. 
فما هو إذن فحوى المعاشرة بالمعروف العهد المؤكّد باليمين الذي تأخذه المرأة من الرّجل عند العزم على الزّواج، وعلى الزّوج الالتزام به؟ 
تجدر الإشارة إلى أنّ الله تعالى لم يعط لهذا المعروف تعريفا محدّدا، كما لم يفصل في مقوماته ومقتضياته، بل أوكل ذلك إلى العقول الرّاجحة المسدّدة بالوحي، وللأعراف السّائدة غير المناقضة لروح الشّرع ومن ثمّ الحاجة الأكيدة للتّعرف على أبرز ملامحه باعتباره مجمع باقي القيم الأسريّة. 
لقد أبان ابن عاشور عن معنى العرف مؤكّدا أنّه ما وافق «مقتضى الفطرة»(16) السّليمة، و«ما عرفه النّاس في معاملاتهم من الحقوق التي قرّرها الإسلام أو قرّرتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام... من إحسان معاشرة، وغير ذلك»(17) ، و«ما تعرفه العقول الرّاجحة، المجرّدة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التّعاليم الضالّة، وذلك هو الحسن» (18)، كما أنّه «هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق» (19) . 
بالمقابل، اجتهد باقي المفسّرين في تعداد مظاهر ومجالات المعروف المطلوب من الزّوج لزوجته. قال الهواري:« قوله: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ ﴾ أي: اصحبوهن بالمعروف»(20)، وهو نفس ما نصّ عليه ابن أبي زمنين(21)، وزاد مكّي قائلا: « صاحبوهن بالمعروف في المبيت والكلام...»(22). أما ابن الفرس، فبعد ذكره تعدّد الأقوال في حدّ المعروف الوارد في الآيات القرآنيّة، أضاف قائلا: «والآية ينبغي أن تحمل على العموم ممّا تقتضيه المعاشرة بالمعروف من المهر والنّفقة والعدل في القسم وأن لا يعاتب ولا يعاقب على غير ذنب ونحو ذلك» (23)  من مظاهر المعاشرة بالمعروف. 
وفي نفس السّياق، تجدر الإشارة إلى أنّ المعروف أمر مطلوب بين الزّوجين معا، كلّ من جهته، لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ... ﴾(24) .
إنّ لفظ «المعروف» الوارد وجوبا في الآيات السّابقة، يستوجب اختيار أحسن المناهج والطّرق في المعاملات الزّوجية، تحقيقا للمماثلة بين المرأة والرّجل بالمعروف في أنواع الحقوق إجمالا وفي ثنايا المعاشرة الزّوجية تفصيلا. وذاك لا يستلزم ضرورة الارتباط بنموذج قارّ أو الاقتصار على عادة معيّنة في التّعامل بين الزّوجين... فالمعروف يستلزم تحرّي الحكمة من أيّ عرف أو عادة أو عمران بشري، تحقيقا للإشباع الفطري -المتعدّد المظاهر- لدى الزّوجين، وتمكينا للأمّة أن يكون «لها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقيّة الأمم، حتّى تكون الأمّة الإسلاميّة مرغوبا في الاندماج فيها أو في التّقرب منها»(25) ، عكس ما هو حاصل في واقع المسلمين اليوم وأمسا بعد انصرام العهد النّبوي وزوال الخلافة الرّاشدة –مع استثناءات في بعض المراحل والعهود–، حيث أمسى تعامل المسلمين مع الزّوجة خصوصا، عاريا من هذه القيمة، موصوما بوصمة مشينة بمظهر الأمّة تجعل غير المسلمين ينفرون منها ويرغبون عنها، بل يؤاخذ عليها المسلمون ويوصفون على إثرها بالخشونة، والعنف، والاعتداء على المرأة وبخسها حقوقها، والحطّ من كرامتها. 
تأسيسا على ما سبق، نخلص إلى أنّ كل عادة تستحسنها الفطرة السّليمة من فنّ المعاملة الحسنة، هي مستحبّة في التّعامل بين الزّوجين من مثل التّزين والتّطيب للطّرف الآخر(26). أيضا، من صور المعاشرة بالمعروف مناداة الزّوج زوجه بأحبّ الأسماء إليه وترخيمها، واختيار أحسن التّعابير وألطفها وأجملها للاستعمال الزّوجي، وتفقد كلّ طرف صاحبه، وحفاوة اللّقاء به، والاجتهاد لأجل إسعاده، وإيثار كلّ طرف صاحبه وتقديمه على نفسه، والمجاملة والتّهادي بينهما، وعدم اللّجوء إلى السبّ أو الشّتم أو الحطّ من كرامة الآخر أو السّخرية والاستهزاء... وحسن الاعتذار بينهما إن حصل ما يغضب أيّ واحد منهما، أو تمّ التّفريط في القيام بحقوق بعضهما... كلّ ذلك أدب مستحبّ بحكم المعروف، وذوق رفيع يحثّ عليه الشّرع. 
المعاشرة بالمعروف إذن قيمة محوريّة في العلاقة الزّوجية، متى تحقّق معناها ومبناها في حياة الزّوجين كان ذاك صمّام أمان لحياة زوجيّة مكلّلة بالأمن والاستقرار، وباعثة لأفرادها على القيام بمهمّة الاستخلاف في الأرض. وقد شرّع الإسلام للزّوجين منظومة متكاملة من القيم تعدّ روافد مغذية وخادمة للقيمة الأمّ: «المعاشرة بالمعروف». ومن ذلك ما يلي:
القيمة الأولى: التّهادي 
رغّب الإسلام في كلّ ما يؤدّي إلى تمتين رابط العلاقة الزّوجية من أقوال وأفعال ومواقف وسلوك؛ ولأهمّية ما سبق، أوجب الإسلام على الخاطب تقديم هدّية لمن يرغب في الاقتران بها، معتبرا ذلك ركنا من أركان الزّواج. إنّ تقديم الرّجل هديّة للمرأة التي يريد الارتباط بها ليس تضييقا وتعسيرا عليه أو إثقالا لكاهله، بل ذاك يعدّ في جوهر الشّرع عنوان محبّة وتقدير، وشعار رغبة صادقة من الرّجل في الارتباط بالمرأة التي يريد؛ وممّا يدلّ على ما سبق، التّعبير الوارد في الآية الكريمة إذ نبّه الله تبارك وتعالى إلى أنّ تقديمه يجب أن يكون نحلة أي أن يعطى بنفس طيبة راضية محبّة راغبة في الودّ والقرب. قال المولى سبحانه: ﴿ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ (27)، أي «هديّة واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم»(28)، وهو معنى بعيد عن اعتباره عوضا ماديّا، «ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع، وامتداد أزمانها، شأن الأعواض كلّها»(29) . 
إن طبيعة رابطة النّكاح العظيمة التي تربط بين الرّجل والمرأة، تجعل منها علاقة «أغلى من أن يكون لها عوض مالي»(30)، حيث لو اعتُبر كذلك لروعي فيه مقدار المنفعة ولوجب تجدّده متى تحققّ أنّ المهر المبذول قد استغرقته المنافع التي اكتسبها الرّجل من زوجته، ولوجب إرجاع المرأة إيّاه أو جزء منه لزوجها في حالة الطّلاق خصوصا القريب العهد بالزّواج. 
بناء على ما سبق، نخلص إلى أنّ شرع المهر قيمة زوجيّة بامتياز حيث هو ينسج خيوط الطمأنينة والارتياح والانشراح والرّضى بين الزّوجين. 
القيمة الثّانية: التنازل عن الحقّ عفوا وفضلا
إذا كان الشّرع الحكيم يمهّد للحياة الزّوجية بسلوك راق واجب يتمثّل في تقديم الرّجل لمن يرغب في الزّواج بها هديّة عربون المحبّة وصدق الرّغبة في الاقتران، مع تكليف الزّوج بتحقيق الرّعاية المادّية لزوجه، فإنّه بالمقابل يندب الزّوج المرأة إلى التّنازل عن بعض من المهر عن طيب نفس وخاطر منها، فضلا وتيسيرا وتقديرا. قال الله تعالى: ﴿ ...فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ﴾(31). لتبادل بذلك الزّوج زوجها نفس معاني المودّة والمحبّة والعطاء... وتبادر إلى التّخفيف عنه وتيسير تكاليف الحياة بينهما... وتلك قيم معنويّة راقية تنبني على سلوك قيمي مادّي، ينأى بالحياة الزّوجية عن المادّيات المكدّرة لصفوها، وعن التّعسير المخمّد لشعلة المودّة بين الزوجين.
القيمة الثالثة: الاستئناس وتجنب المباغتة
لا جدال في اعتبار العفّة قيمة خلقيّة جوهريّة في الدّين، وفضيلة أساسيّة في خلق الرّجل والمرأة ودعامة اجتماعيّة لدينهما، وركنا ركينا ينبني عليها بيت الزّوجية؛ فهي التّي ترخي بظلالها على أمن الزّوجين وسكن بعضهم إلى بعض اطمئنانا مبنيّا على الثّقة. ولعظم قيمة العفّة، وعد الله تعالى العفائف من الرّجال والنّساء بالفلاح وإرث جنّات الفردوس إذ قال تعالى: ﴿...والذين هم لفروجهم حافظون ﴾(32)، كما أثنى سبحانه على الحافظين فروجهم والحافظات في سياق متكامل من المزايا التي يتّصف بها المؤمنون والمؤمنات، «فرشا للثناء على الحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله تعالى والذّاكرات الذين أعدّ لهم سبحانه مغفرة وأجرا عظيما»(33) . 
وقد حرص الإسلام على تحقق العفّة في الحياة الزّوجية كما في الحياة العامّة، وقد احتاط لها وشرع لضمان سلامتها من أي خدش أو خرم أحكاما وتشريعات؛ وهكذا اعتبر الشّرع حرمة البيوت فلم يُجَوز دخولها إلاّ باستئناس واستئذان أصحابها ضمانا لحريتهم وراحتهم واستقرارهم في بيوتهم ومع أسرهم. بل لقد ضمن الإسلام لكلّ فرد في الأسرة حقّ التّمتع بحريته الشّخصية في غرفته الخاصّة في حالة اختلائه بنفسه، كما كفل له إشباع خصوصياته الفطريّة في حال انجماعه مع زوجه، يتمتّع بكلّ ما سبق دون كدر التّوجس أو هاجس التّرقب بفضل تشريع أدب الاستئذان الخاصّ بين أفراد البيت الواحد ضمانا لتحقّق السّكن والسّكينة والأمن في سرب المؤمن. قال المولى عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ (34). 
إن استئناس أهل البيت في سكنهم وعدم إيحاشهم يتعدّى الغرباء ويطول حتّى الأزواج مع زوجاتهم في حالة خاصّة، فهاهي السّنة النّبوية الشريفة تنبه إلى أمر ذي بال قد يغفل عنه عموم المسلمين، وهو النّهي عن دخول الزّوج المسافر سفرا طويلا على زوجته ليلا دون سابق استئناس لها بإعلامها برجوعه من السّفر ووصوله إلى بلدته... عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرّجل أهله ليلا يتخونهم أو يتلمّس عثراتهم»(35). إنّ نهي الرّسول صلى الله عليه وسلم عن ذاك التّصرف يروم الحفاظ على أعراض النّساء من أي خدش أو اتهام، ذلك أنّ تعمد الزّوج الغائب في سفر طويل مباغتة زوجته ليلا، قد يؤول على احتمال تخوين الزّوجة وإرادة التّحقق من ذلك ليلا الذي هو مظنة اقتراف الفواحش، حيث النّاس نيام والزّوج غائب غيابا طويلا... فمنع الأزواج من ذلك صيانة لأعراض نسائهم من أيّ شكّ أو ريب أو استبطان تهمة دون دليل أو بيّنة... ناهيك عمّا يحمله الإعلام بالقدوم من السّفر الطويل من تنبيه إلى حسن الاستعداد لملاقاة الآخر(36).   
القيمة الرابعة: تحرّي العدل وتحريم الظّلم 
إنّ العدل قيمة شرعيّة عامّة مستحضرة في كلّ الأحكام الشّرعية، وفي أحكام الأسرة بشكل ملحوظ، رفعا للظّلم الذي كان يمارسه الرّجل على المرأة في الجاهليّة بكلّ أنواعه. وهكذا نصّت الشّريعة الغرّاء على حصول هذه القيمة في علاقة الرّجال بالنّساء ومماثلة المرأة للرّجل في مهمّات الحقائق: الوحدة في أصل الخلق، والمماثلة في الجزاء المقابل للعمل، ولتكون الآية: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ...»(37) متوّجة لتلك المماثلة؛ فالآية الكريمة تقرّر أنّ للزّوجات «من حقوق الزّوجية على الرّجال مثل ما للرّجال عليهن... (و) لهنّ من حسن الصّحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطّاعة فيما أوجبه عليهنّ لأزواجهن... والآية تعمّ جميع ذلك من حقوق الزّوجية» (38) .
لقد تضمّنت «الآية العظيمة» (39) أوّل إعلان مقرّر للعدل «بين الزّوجين في الحقوق»(40)،وضبطت حقوقهما «بوجه لم يبق معه مدخل للهضيمة»(41)  بينهما، ومن ثمّ حسن العشرة بينهما. 
 وبموازاة ما سبق من وجوب تحقّق العدل المطلوب في مختلف جوانب وأبعاد الحياة الزّوجية، ينصّ الإسلام على تحريم حصول الظّلم بين الزوجين، حيث يعتبر ذلك قيمة عظمى على الزّوجين تحرّيها في علاقتهما؛ وذلك بالتزام شرع الله وحكمه في مجال هذه العلاقة. فكثيرا ما يؤكد الله تعالى أنّ الأحكام المقرّرة لحقوق الأزواج هي حدود لا يجـوز تجاوزها البتّة، ويذيلها بالتّحذير من مخالفة ما شرعه بصددها، ومن قبيل ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ تلك حدود الله. فلا تعتدوهــا. ومن يتعدّ حدود الله فأولئــك هم الظالـمــون ﴾ (42). إنّ وصف الظّلم ثابت في حقّ كل من تجاوز حكم الله تعالى في العلاقة الزّوجية إلى حكم مخالف. فالله سبحانه حرّم الظّلم على نفسه وجعله محرّما بين عباده، فبالتزام شرعه والقيم المتضمّنة فيه يسود الوئام والسّكينة في عشّ الزّوجية.
القيمة الخامسة: 
تربية النفس على الرؤية الإيجابية
إن المعاشرة بالمعروف قيمة يجب أن تبقى ملازمة للحياة الزّوجية في جميع أحوالها، وفي مختلف تقلباتها، وما فتئ النّص القرآني يؤكّد على ذلك ويذكر به ويحــثّ على وجوب تحقّقــه، حتّى في حالة حصول كراهيّة الزّوج زوجته. قال عز من قائـل: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(43). لنلحظ مدى محوريّة ومركزيّة هذا الأساس القيمي في الحياة الزّوجية، حتّى في حالة اضطرابها، أليس هو عهدا موثقا على الزّوج الوفاء به في كلّ الأحوال؟ ولمّا كان ذلك قد يشقّ على الزّوج المبغض زوجه، سلاه الله تعالى بما قد يعينه على الالتزام بعهد العشرة بالمعروف: فقد يثمر هذا السّلوك ما به يزول النّفور، وتخبو الكراهيّة، من وفير الخير وجزيله، وقد مثل لذلك مكي بن أبي طالب القيسي بقوله: «قال ابن عباس: خيراً كثيراً أي: يعطف عليها، ويرزق منها ولداً ويجعل الله في ولدها خيراً كثيرا» (44) . 
لقد نقل مكّي تأويل ابن عباس رضي الله عنهما القاضي أنّ من مقاصد عشرة الرّجل زوجه بالمعروف، وحرصه على ذلك حتّى في حالة بغضه لها، وجود نسل له منها يباركه الله تعالى ويجعل فيه الخير العميم، وتقر به عينه، وتخف به حدّة البغض لديه. وهو نفس المعنى الذي أشار إليه ابن عطية باعتباره الأمر بحسن العشرة حتّى في حالة الكراهة أدبا على الرّجل الالتزام به وسلوكه حتّى في حالة بغضه زوجه (45) . لنضيف نحن إلى ما سبقونا إليه وننبّه إلى التّربية القرآنيّة المتوازنة للمسلم والتّوجيه النّبوي البليغ الحكيم اللّذين يلامسان وجدان الإنسان وخبايا نفسه؛ بتنبيهه وجوب وأهمّية استحضار جانب الخير إلى ما نراه شرّا، بل نحرص على التّركيز على جانب الخير في الإنسان وبالأخصّ في الزّوج الآخر، ليعظم قدره في أعيننا ويستصغر الجانب السّلبي الذي يحمله ويتّصف به. أليس الرّسول صلى الله عليه وسلم هو الموجّه للأزواج ومرشدهم إلى تنمية ذواتهم وتحدّي الصّعاب التي تواجههم، ومعالجة نظرتهم التّشاؤمية بقوله عليه الصّلاة والسلام: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلق رضي منها آخر» (46) ؛ فالإنسان ليس شرّا كلّه، وكلّ واحد منّا إلاّ وفيه نقائص لا محالة، فما علينا إلاّ نحسن تدبير علاقاتنا الزّوجية بالتّركيز على النّصف المملوء من الكأس، نثمنه، نعظّمه، نسعد به، فيسود العلاقة الزّوجية الوئام، وتعمّها السّكينة والاطمئنان. ولعلّ هذا المنهج هو الذي تعتمده ما يسمّى بالتّنمية الذّاتية للفرد ليكون ناجحا في حياته وعلاقاته.  
القيمة السادسة: الترغيب في المبادرة إلى الصلح
وهو قيمة جامعة للعديد من القيم، حيث لا يتحقّق جوهره إلاّ بامتثال أسباب حصوله بالتزام العديد من الخصال الحميدة من مثل الإغضاء عن الهفوات ومقابلة الغلظة والجفاء باللّين ممّا تشحّ به النّفس عادة في مواطن الخصومة والصّراع.
 إن الإباحة المستفادة من جملة: ﴿ فَلاَ جُنَاْحَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ (47) ، لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع، وقد نبّه ابن عاشور احتمال كونها «مستعملة في التّحريض على الصّلح»(48) بين الزّوجين تحقيقا لحسن المعاشرة بينهما. 
كما يستدل ابن عاشور بمؤكّدات لغوية على أنّ ترغيب الآية في الصّلح بين الزّوجين هو موافق للفطرة السّليمة التي تروم إليه وتقبل به؛ ذلك أنّ «الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿ وَٱلصُّلْحُ خَيْر﴾، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصّفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعلِ سَجية» (49) .
القيمة السابعة: التربية على مراجعة الفعل والإقرار بالخطإ مع الحثّ على الإصلاح
اعتبر الشّارع الزّواج ميثاقا غليظا جامعا بين المرأة والرّجل، وما يلبث الإسلام يحرص على متانة هذا الرّباط وبقائه قائما بشرط المعروف وعدم التّفريط فيه ما أمكن إلى ذلك سبيلا. وحتّى إن بدر من أحد الزّوجين ما يهدّد كيان علاقتهما، أو حدثت حالات حرجة تهدّد تماسك رباط الزّوجية بينهما، يتدخّل الشّرع الحكيم للمّ الشّعث وجبر الكسر بفضل تشريعات تتضمّن في طياتها قيما تربويّة للزّوجين،  من شأنها أن تعيد مياه الحياة الزّوجية إلى مجراها الطّبيعي، ومن أمثلة ما سبق تشريع حكم الإيلاء الذي يتضمّن قيمة التّربية على مراجعة الفعل والإقرار بالخطإ والتّرغيب في الإصلاح.
نستنتج هذه القيمة من ترغيب الشّارع سبحانه في فيئة المولي بقولــه تعالــى: ﴿ لِّلَّذِينَ يُولُونَ مِن نِّسَآئِهــِمْ تَرَبُّـصُ أَرْبَعَــةِ أَشْهُــرٍ فَإِنْ فَآءوا فَـإِنَّ اللّهَ غَفُـــورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (50) ؛ فقد تصدر عن أحد الزّوجين أو عن كليهما تصرّفات، إمّا عن غضب أو جهل بعواقب الأمور أو سوء تقدير لها، ومن ثمّ تفضّل الشّارع الحكيم بإعطاء فرصة لتراجع المخطئ عن خطئه وإصلاح ما أفسده، فتلا في الإبقاء على الميثاق قائما غليظا. وهكذا لم يعتبر الشّارع سبحانه الإيلاء فسخا للرّابطة الزّوجية، بل أباح للمولين من زوجاتهم الحنث في يمين الإيلاء مؤكّدا لهم أنّه «مغفور لهم؛ لأنّ الله غفور رحيم»(51).
إنّ ما يؤكّد إمعان الشّارع طلب الإسراع في مراجعة الفعل لإصلاح العلاقة الزّوجية، أنّ «مجيء اللاّم في ﴿ للّذين يؤلون ﴾ لبيان أنّ التربّص جعل توسعة عليهم، فاللاّم للأَجْل... ويعلم منه معنى التّخيير فيه، أي ليس التّربص بواجب، فللمولي أَن يفىء في أقلّ من الأشهر الأربعة»(52) . لتكون الدّلالات المستخلصة من حكم التّربص في هذه الآية تضمّ إشارة واضحة إلى ندب الشّارع الإسراع بالفيئة إبقاء على الزّواج قائما.
إنّ حكم الإيلاء يعدّ فرصة للمولي لمراجعة تصرّفه والإسراع إلى إصلاحه، وهو توسعة شرعيّة للزّوج ومنّة إلهية عليه؛ فالخطأ وارد، وقد يحصل للمولي ندم على عزمه الإيلاء من زوجه، ويأمل التراجع عنه... فلولا رخصة التّربص لمدّة أقصاها أربعة أشهر لأجل مراجعة العزم، لانهار بنيان الزّواج جراء تصرّف طائش. لنعتبر نحن الإيلاء تربية للنّفس على مراجعة التّصرفات وإصلاح الخطإ وجبر الكسر.
القيمة الثامنة: تحريم القول المنكر وتشريع إمكانية إصلاح الخطأ
قد يتلفّظ أحد الزّوجين تهوّرا بقول بغيض منكر مقوّض لدعائم بنيان الزّوجية؛ وذلك من مثل ما قد يتلفّظ به الزّوج من ظهار ليؤكّد تحريم زوجه عليه كحرمة أمّه. قال الله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾(53) . فبالموازاة مع تحريم الشّرع هذا القول الشّنيع وإبطال عادة الجاهليّة، حكم على كلّ من يتلفّظ بهذا القول المنكر بالكّفارة، منحا أولا للمظاهر فرصة الرّجوع إلى زوجه وعدم التّفريط فيها، وثانيا تأديبا له عمّا اقترفه، وثالثا تربية له على التّلفظ بما يصحّ. وهذا ما أكّده ابن عاشور عندما نصّ على «أن كفارة الظّهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلّة ما قصده من التّحريم، وتأديبا له على هذا القصد الفاسد والقول الشّنيع»(54) . 
القيمة التاسعة: 
الإرشاد إلى الوعظ بالكلمة الطيبة المؤثرة
قد تحدث مشاكل بين الزّوجين، وإذا لم يهتم ولم يحسن الزّوجان حلّها قد تتطوّر إلى حالة نشوز ونفور من الزّوج المرأة.. هنا يتدخّل الشّرع بسلسلة من الحلول العلاجيّة؛ أول حلقة فيها عظة يقبل بها الزّوج الرّجل على زوجه. وقد مثل ابن العربي لبعض ما يمكن أن تتضمّنه موعظة الزّوج من «التّذكير بالله في الترغيب لما عنده من ثواب، والتخويف لما لديه من عقاب، إلى ما يتبع ذلك ممّا يعرفها به من حسن الأدب في إجمال العشرة، والوفاء بذمام الصّحبة، والقيام بحقوق الطّاعة للزّوج، والاعتراف بالدّرجة التي له عليها» (55) . 
إن مادّة الموعظة تذكير بأسس العلاقة الزّوجية وبالقيم المؤطّرة لها، وتدور بين التّرغيب والتّرهيب، وتشمل كلّ ما من شأنه أن يرقّق القلوب ويلطف أجواء التّشنج ويذكر بالعواقب ويحذر منها...فالوعظ يرجى منه أن يمسّ كيان المرأة النّاشز برمّته: القلب والعقل والوجدان... إنّ كل ما يمكنه التّأثير على المرأة والتّخفيف من حدّة تمرّدها وعصيانها لزوجها يعتبر مطلوبا في هذه المرحلة. وكلّ زوج أدرى بمفاتيح قلب زوجه وكيفية تطييب خاطرها وطرق تخفيف حدّة غضبها ووسيلة إصلاح ما فسد... وعليه تحرّي الحكمة البالغة لحسن استعمال ذلك، مع ضرورة الانتباه إلى أهمية اختيار الوقت المناسب الذي يلمس فيه حسن إصغاء زوجه واستعدادها للتجاوب مع خطابه ومحاولات صلحه...
الموعظة بلسم للرّوح وشفاء للقلوب حيث هي مجمع العديد من القيم؛ هي لمسة حنو ورفق تنزل بردا وسلاما على النّفس الثاّئرة المتمرّدة فتنطفئ نار جذوتها وجمرة غيظها فيخمد غليانها، وتَسُل دفائن حقدها، لتتراجع عن غيّها وعصيانها، فتصبح لينة هينة، صافحة معتذرة، طائعة ممتثلة.
إنّ الوعظ جلسة حوار وتصافي وتواصل وتصارح بين الزّوجين، ضابط الجلسة ما تعرفنا عليه من معاني الوعظ والموعظة، والمرجع والحَكَم فيها كلام الله والسنة الصّحيحة لرسوله عليه الصلاة والسلام... غاية الجلسة تطييب القلوب وتهدئة النّفوس وملامسة الوجدان ولمّ الشمل... بما يجتهد فيه الزّوج من طيب الكلام وأرق العبارات وبليغ التّذكير.
على زوج النّاشز وهو يجتهد في تمثّل كلّ القيم التي من شأنها رفع نشوز زوجه، بالتزام  التوجيهات النبوية الشّريفة التي فصلت وبينت أوجه وجوب المعاشرة بالمعروف، من لين القول ولطف الجانب وجميل العشرة ودماثة الخلق...وتشريع إمكانية التراجع عنه.
القيمة العاشرة: تحريم الإضرار
إن رفع الضرر عن النّاس عموما وعن المرأة في العلاقة الزّوجية مقصد قيميّ جاءت الشّريعة لتحقيقه عبر العديد من أحكامها لتكون العلاقات الأسريّة قائمة على العدل والإنصاف، ومؤسّسة على الحرّية والاحترام، ومبنية على التّعاون والتّكامل. وتأسيسا على مقومات المعروف الوارد في الآية السّالفة الذّكر:﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾، يمنع شرعا حصول الضّرر أو الإضرار بأحد الزّوجين، حيث للنّساء «حقوق على الرّجال ﴿ مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾ من غير ضرر ولا ضرار. ولا تفريط ولا إفراط»(56). وباستحضار نفس المقصد، قال أطفيش: «ولهنّ عليهم مثل الذى لهم عليهن بالمعروف شرعا، يعاشروهن ويعاشرنهم بحسن العشرة وترك الضّرار» (57) .
لقد جاءت الشّريعة الغرّاء لرفع جميع أنواع الضّرر الذي قد يمارسه الزّوج على زوجه، ومن أنواع وأشكال ذلك:
*الضّرر النّفسي: ومن صوره إمساك الزّوج زوجه اعتداء وظلما لا رغبة وحبّا، أو هجرها دون مسوغ شرعي لذلك، وهو ما نصّت على تحريمه الآية الكريمة: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه ُ﴾ (58) ؛ حيث النّهي والمنع من إمساك الرّجل زوجه بقصد الإضرار بها نفسيّا، أو ابتزازها مادّيا بإكراهها على الفداء والخلع. إنّ ما سبق وغراره وضاعة سلوك حرمه الإسلام تهذيبا للزّوج وتنزيها لــه عنـه. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَّاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (59). كلّ تلك المعاني السّامية والقيم الفاضلة تضمّنها القول الكريم لله تعالى؛ حيث نهى عن العضل إلاّ في حالة فعل الزّوج المرأة ما لا يقبل شرعا ولا يُتحمّل عرفا، والله لا يحمل نفسا إلّا وسعها، وإلاّ فالحثّ الإلهي على اجتهاد وتكرّم الزّوج بحسن عشرة زوجه عدلا وإحسانا؛ فحسن «المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه، وزائد بمعاني إحسان الصّحبة»(60). وغرسا لمزيد من القيم الفاضلة في نفسية الزّوج المبغض زوجه، يلفت المولى عز وجل انتباهه إلى ما قد يكون عليه من سوء تقدير لزوجه وزواجه؛ فقد يكون ما هو كاره له محطّ بركة ومنبع خير وفير. 
*الضرر المعنوي والمادي: بتخلّي الرّجل الزّوج عن مستلزمات القوامة؛ فالقوامة وظيفة ومهمّة الرّجل تجاه المرأة؛ فالرّجل قوام على المرأة يستلزم منه أن يكون قائما بتكاليفه رعاية وحماية لها وحفظا لحقّها عليه. قال الله تعالى:﴿ الرّجال قوّامون على النّساء...﴾(61) ؛ فهذه الآية «أصل تشريعي كلّي تتفرع عنه الأحكام التي في الآيات بعده»(62). ولعل قيام الرّجل بمستلزمات القوامة هو جامع للعديد من قيم الرّعاية والعناية والاهتمام بشؤونها والقيام بمختلف مصالحها وبذله قصارى جهده في حمايتها... بالمقابل، يعد تخلّي الرّجل الزّوج عن وظيفة القوامة إضرارا بالمرأة وتضييعا لحقوقها. 
*الضرر البدني: ومن ذلك تحذير الأزواج من الاعتداء على أزواجهم هجرا أو ضربا. إنّ من الضّرر الذي قد تكتوي بلظاه الزّوج المرأة، أن يتصيّد الرّجل فرصة خطإ عابر لزوجه، أو أن يفتعل هو ما يؤدّي إلى نشوزها لينهال عليها سبّا وشتما وضربا... فكلّ ذاك يعتبره الشّرع بغيا يحرّمه الحقّ تعالى.
كان ما سبق أمّهات القيم التي استقرأناها من آي القرآن الحكيم، أنّها تعتبر بمثابة روافد تصبّ في نهر المعاشرة بالمعروف تسقي وتغذّي العلاقة الزّوجية فتثمر لقطبيها التّنعم بالتّساكن والأنس والاستقرار، الذي يفيض عليهما مودّة ورحمة تمكن سفينة زواجهما من مواصلة المسير بل مغالبة كل أمواج مشاكل الحياة العاتية المتلاطمة.  
الهوامش
(1) البقرة/228
(2) البقرة/229
(3) البقرة/231
(4)  النساء/19
(5)  الطلاق/2
(6)  تفسير القرآن العزيز لمحمد بن أبي زمنين: تحقيق: أبو عبد الله حسين بن عكاشة ومحمد بن مصطفى الكنز، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، ط1: 1423هـ/ 2002م:1/356
(7)  الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه لمكي بن أبي طالب القيسي القيرواني: مجموعة رسائل جامعية، قامت بمراجعتها وتدقيقها وتهيئتها للطباعة مجموعة بحوث الكتاب والسنة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة الشارقة، بإشراف أ.د الشاهد البوشيخي، ط1:1429هـ 2008م:1/764
(8)  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لأحمد بن محمد بن عجيبة، تحقيق أحمد عبد الله قرشي رسلان والدكتور حسن عباس زكي- القاهرة، طبعة: 1419هـ: 1/484
(9) أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن العربي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط3: 1424هـ/2003م: 1/473
(10)  التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور: 2/116
(11)  الجامع لأحكام القرآن لمحمد القرطبي، تحقيق: هشام سمير البخاري،دار عالم الكتب -الرياض- المملكة العربية السعودية، طبعة: 1423هـ/ 2003م: 5/103
(12)  التسهيل لعلوم التنزيل لمحمد بن جزي الكلبي الغرناطي، ضبطه وصححه وخرج آياته محمد سالم الهاشم،دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، ط1: 1415هـ/ 1995م: 1/181
(13) البحر المحيط لأبي حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي، دراسة وتحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود -الشيخ علي محمد معوض، شارك في تحقيقه: الدكتور زكريا عبد المجيد النوقي -الدكتور أحمد النجولي، دار الكتب العلمية، ط1: 1413هـ/1993م: 3/216
(14)  الجواهر الحسان في تفسير القرآن لعبد الرحمن بن مخلوف الثعالبي، تحقيق: الدكتور عمار الطالبي، المؤسسة الوطنية للكتاب -الجزائر، ط2: 1406هـ: 1/428
(15)  تيسير التفسير لمحمد بن يوسف اطفيش، تحقيق وإخراج: الشيخ إبراهيم بن محمد طلاي، المطبعة الشرقية، ط1: 1425هـ/ 2004م: 3/178 
(16)  التحرير والتنوير: 2/399 
(17)  التحرير والتنوير: 2/407
(18)  التحرير والتنوير: 2/400
(19)  التحرير والتنوير: 28/308
(20)  تفسير كتاب الله العزيز: 1/361 
(21)  تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين:1/764
(22)  الهداية إلى بلوغ النهاية: 2/166
(23)  أحكام القرآن لابن الفرس: 2/112
(24)  البقرة/226
(25)  مقاصد الشريعة الإسلامية لمحمد الطاهر بن عاشور، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس للنشر والتوزيع –الأردن، ط2: 1421هـ/2001م ، ص: 307.
(26)  ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 3/123
(27) النساء/الآية4
(28)  التحرير والتنوير: 4/22
(29)  التحرير والتنوير: 4/22
(30)  التحرير والتنوير: 4/22
(31) النساء/ الآية4
(32)  المؤمنون، من الآية4
(33)  تنوير المؤمنات لعبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق-الدار البيضاء، ط1: 1996 : 2/76
(34)  النور،56-57
(35)  رواه مسلم: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ضبط وتوثيق: صدقي محمد جميل العطار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت- لبنان، طبعة: 1421هـ/2000م، كتاب الإمارة، باب: كراهة الطروق، وهو الدخول ليلا، لمن ورد من سفر، الحديث رقم:184، ج13/ ص:61. كما روى البخاري نحوه بلفظ قريب، ينظر: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، حديث رقم: 172-173، ج7/ص: 77 
(36)  للإمامين الصنعاني والقاضي عياض تعليق مهم على حديث سيدنا جابر، أرى من المفيد إدراجه لأهميته. يقول الصنعاني بعد شرح الحديث والاستفاضة في الوقوف على علة الإرشاد النبوي: «وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْأَهْلِ، وَالْحَثُّ عَلَى مَا يَجْلِبُ التَّوَدُّدَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَهْلِ، وَبِغَيْرِهِمْ أَوْلَى» سبل السلام شرح بلوغ المرام (للحافظ ابن حجر العسقلاني) لعبد الرزاق الصنعاني، دار الحديث، بدون تاريخ، وبدون طبعة: 2/205-206.
ويستنبط القاضي عياض من هذا الإرشاد النبوي العديد من المقاصد حيث يقول: «وفيه حضه على مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، والتأني وترك العجلة، واستجلاب كل ما يوجب الألفة، ودوام الصحبة، وألا يستغفل أهله ويطرقهم، لئلا يجد منهم رائحة وشعثا يكرهه، ويكون سبب زهده وبغضه فيهن، وإمهالهم هنا حتى يدخلوا ليلا يسبق خبرهم إلى أزواجهم فيستعدوا له» شرح صحيح مسلم للقاضي عياض المسمى «إكمال المعلم بفوائد مسلم» لأبي الفضل عياض بن عياض اليحصبي، تحقيق يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1: 1419هـ/1998م، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر: 4/677 
(37)  البقرة/ من الآية 228
(38)  الجامع لأحكام القرآن: 3/123-124
(39)  التحرير والتنوير: 2/398
(40)  التحرير والتنوير: 2/398
(41)  التحرير والتنوير: 2/398
(42)  البقرة/227
(43)  النساء/19
(44)  الهداية إلى بلوغ النهاية: 2/166 
(45)  المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لعبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، لبنان- بيروت، ط1: 413هـ/1993م: 2/28
(46)  الحديث أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
(47)  النساء/127
(48)  التحرير والتنوير: 4/267
(49)  التحرير والتنوير: 4/268
(50)  البقرة/224
(51)  التحرير والتنوير: 2/366
(52)  التحرير والتنوير: 2/366
(53)  المجادلة،2
(54)  التحرير والتنوير: 28/17
(55)  أحكام القرآن لابن العربي: 1/532
(56)  البحر المديد: 1/257
(57)  تيسير التفسير: 2/61
(58)  البقرة:231
(59)  النساء/19
(60)  التحرير والتنوير : 4/71.
(61)  النساء/34
(62)  التحرير والتنوير:2/402