قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
القضاء على الفقر
(1)
أحدثت الثورة رجّة في بنيان الدّولة ولكنّها لم تحدث رجّة في ماهيتها وما زلنا نعتقد أنّ الدّولة لا تكون إلاّ رعويّة ترعي الجميع ولا بديل عن تدخّلها المباشر في حياة مواطنيها وعيشهم. كأنّ الثّورة إنّما قامت من أجل إعادة انتاجها ولأنّ هذا المسار خاطئ بالجملة والتّفصيل فقد تمادى الضّغط على دولة ضعيفة محدودة الإمكانيات وتتالت الاضرابات والمطالب بشكل منقطع النّظير حتى كادت الدّولة أن تنهار بسبب عجزها عن الاستجابة للمطالب التي تتوالد بعضها من بعض قطاعا بعد قطاع..
(2)
كانت الدّولة لا تعير اهتماما لحاجيّات مواطنيها قدر اهتمامها بحاجتها هي إلى البقاء أو حاجة المتنفذين فيها لإدامة سلطانهم وامتيازاتهم، ولقد سبق لنا القول بأنّ مقدار الحيف كان وما زال كبيرا إلى الحدّ الذي يجعل منه خطرا يهدّد الدّولة في كيانها والمجتمع في نسيجه، ولقد بيّنا مدى خطورة الظّواهر السّيئة التي نشأت في المجتمع وتمدّدت حتى أصبحت متشعّبة لا تتّصل بفئة دون أخرى أو جهة ما دون سائر أرجاء الوطن.
لم نتحدّث من قبل عن أسبقيّة المسألة الاجتماعيّة عن غيرها من المسائل اعتباطا وإنّما إدراكا منّا لأهمّية مواجهة الظواهر الاجتماعيّة مواجهة فعّالة لا تحدّ فقط من آثارها وإنّما تتبرها تتبيرا على اعتبار أنّ الظّاهرة الاجتماعية لا تنشأ من نفسها وإنّما ينشؤها المجتمع شاء أم أبى وأنّ مواجهة الظواهر الاجتماعية يزيد من فاعلية المجتمع ويعيد توزيع الأدوار فيه صعودا بالفئات المهمّشة من درك التّهميش إلى أعلى درجات الفاعليّة.
(3)
إنّ دور الدّولة في ما يتّصل بالتّنمية الاقتصاديّة للمجتمع دور محوريّ، ونحن لا نستطيع في المدى القريب أن نتحدّث عن تقليص هذا الدّور إلى مستواه الأدنى وهو الدّور اللّوجستي وذلك لأنّنا ما نزال في مرحلة تنمويّة دنيا لم يرتق فيها المجتمع إلى درجة أخذ زمام المبادرة ولم تتوفّر لنا بعد كلّ الآليّات التي تسمح للفئات الاجتماعيّة أن تستقلّ عن الدّولة أو حتى أن تترك لها سلطة الإشراف على الإنجاز وتوفير الدّعم  فقط.
لا يقتصر الدّور المحوريّ للدّولة علي الجانب الاقتصادي بل يتّصل بكلّ الجوانب ومنها الجانب الاجتماعي، فللدّولة دور أساسيّ في التّنمية الاجتماعيّة بكلّ ما تقتضيه من سياسيّة و بنى تحتيّة وكوادر بشريّة وتدريب ومهارات ومقاربات علمية وغير ذلك ممّا يتّصل بالجانب الهيكلي والمؤسّساتي، وكذلك فللدّولة أيضا دور محوريّ في الرّصد والمتابعة وفي توزيع التّنمية توزيعا جغرافيّا مدروسا بشكل يتيح للمجتمع أن ينمو في كلّيته دون تفاوت أو حيف.
(4)
لو كان الفقر رجلا لقتلته بحدّ السّيف، قد كاد الفقر أن يكون كفرا، هذان مثلان من أمثلة كثيرة تضرب للفقر تبيانا لمدى خطورته على حياة النّاس. ولا شكّ أنّ نسبة الفقر في أيّ مجتمع تعدّ مؤشرا من المؤشّرات التي تعتمد في قياس مدى تقدّمه .
وصلت النّسبة في تونس إلى معدّلات مخيفة حتى تحدّثت بعض الأوساط عن أنّ الفقراء هم ربع السّكان والعدد ينذر بالتّفاقم بعد انحسار التنمية وتفاقم البطالة وتدهور القدرة الشرائيّة و بلوغ الأسعار مستوى قياسيّا تآكلت بموجبه إمكانيّات النّاس. والفقر ليس ظاهرة تولّدت عن الثّورة أو عن تجربة الحكم التي أعقبتها كما يدّعي أشباه الخبراء، وإنّما الفقر ظاهرة اجتماعيّة نشأت عن منوال تنمويّ مفروض لا يستجيب لتطلّعات النّاس وعن دولة مستبدّة جعلت من تفقير النّاس أحد أدواتها في السّيطرة على المجتمع. 
لا يخلوا مجتمع ما من الفقراء ووجود نسبة منهم في كلّ مجتمع يعتبر ضروريّا لعدّة اعتبارات لعلّ أبرزها عجز البعض عن توفير مورد للرّزق وحاجة المجتمع للعمّال الهامشيّين الذين لا يحصلون من عملهم على عائد مجز رغم أهمّية ما ينجزونه من أعمال ومنها انحسار بعض المهن وضعف مردودها كالأعمال الحرفيّة التّقليدية. ولكن ضرورة وجودهم لا تعني أن ندع هؤلاء لقدرهم وإنّما علينا أن ننظر إليهم باعتبارهم مواطنين يقع على الجميع واجب رعايتهم وإلحاقهم ببقيّة فئات المجتمع.
(5)
إنّ مقاومة الفقر في أيّ مجتمع لا تتمّ برصد بعض المليارات من ميزانيّة الدّولة وصرفها على المعوزين في شكل منح كما دأب النّظام السّابق على فعله وما سارت على نهجه حكومات ما بعد الثّورة رغم سعيها إلى مضاعفة الاعتمادات المرصودة من جهة وتوزيع المساعدات بطرق ليس فيها هدر لكرامة المنتفعين بها من جهة أخرى.
كيف نقاوم الفقر؟ وماذا تعني مقاومة الفقر من دلالات؟ وما مدى جدوى الطّرق التقليديّة في الحدّ من الفقر؟ وهل يكفي رصد القليل من المال لمحاصرة آفة ما إذا كانت أسباب نموها وتفاقمها في تزايد مطرد؟  لماذا نجحت مجتمعات أخرى في القضاء على هذه الظاهرة وإدماج الفقراء ضمن نسيج المجتمع؟ وهل نحن أمام ظاهرة اجتماعيّة مستعصية عن الحلول بسبب امتدادها وتشعّبها أم نحن إزاء حلول هشّة تزيد من تعميق الظّواهر بدل إيجاد الحلول النّاجعة لها؟
(6)
ترتبط عديد الظواهر الاجتماعيّة المخيفة بظاهرة الفقر،غيرأنّ بعض المختصّين يذهب إلى رفض تحميل الفقر وزر الآفات الاجتماعيّة باعتبار أنّ الفقر سابق لهذه الظّواهر وباعتبار أنّ مجتمع الآباء والأجداد كان فقيرا ولكنّه كان في منآى عن كلّ الانحرافات.
ولئن كنّا ممّن يعتقد أنّ الفقر لا يتحمّل وزر الظواهر الاجتماعيّة السّيئة إلاّ أنّنا نعتقد أنّه يشكّل عامل دفع ومساعدة في نشأة الظواهر المهدّدة للمجتمع والدولة وأن البيئة الفقيرة بيئة حاضنة في الحدّ الأدني، ومن الغباء المبالغة في تنزيهها عن كلّ انحراف.
إنّ الظّواهر الاجتماعيّة ظواهر متداخلة ومعقّدة ولعلّ الفقر يكون أشملها وأكثرها تعقيدا وأشدّها خطرا، وإذا كنّا نريد إعادة الاعتبار للإنسان وإتاحة الفرصة له في المشاركة وفي تحديد المصير في كنف الديموقراطية، فانّنا لن نستطيع أن نفعل ذلك في مجتمع يشكّل الفقراء فيه نسبة مرتفعة من السّكان قد تبلغ الثّلث أو النّصف إن تواصل الأمر على ما هو عليه من تفقير ممنهج للسّكان ومن حيف تنمويّ مقيت.
إنّ مقاومة الفقر يجب أن تكون شاملة، وعلى الدولة والنّخب إعادة النّظر في أولويّات المجتمع حتى يحضي موضوع الفقر بأولويّة في البحث والمقاربة والتّصور والحلّ. وعلى المجتمع أن يخرج من قوقعة الاتّكال على الدّولة ومن بوتقة العنصريّة إزاء فئة ليست بالقليلة من سكّانه وأن يدفع كلّ أفراده باتّجاه المساهمة الفعّالة في القضاء على الفقر كلّ من موقعه و بحسب ما يستطيعه من جهد.
 المسألة الاجتماعيّة أولا وفي القلب منها القضاء على الفقر.