مشاغبات

بقلم
الحبيب بلقاسم
كَيْفَ يَكُونُ المُصْلِحُ فَاسِدًا ؟؟؟
 غَزَتْ البَرَامِجُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ قَنَوَاتِنَا التَّلْفَزِيَّةَ غَزْوًا عَجَبًا، وأغْرَتْ جُمْهُورًا عَرِيضًا بِالمُتَابَعَةِ والمُشَاهَدَةِ، وتَكُونُ مِنْ بَعْدُ حَدِيثَهُمْ الشَّائِعَ، ومَوْضُوعَهُمْ الصَّاخِبَ، وشُغْلَهُمْ الشَّاغِلَ، كُلٌّ يَحْمِلُ وِجْهَةَ نَظَرٍ، ويَرَى رَأْيًا مُعَيَّنًا، ولَئِنْ أبْدَى فَرِيقٌ إِعْجَابَهُ وتَرْحَابَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ البَرَامِجِ، ورَغْبَتَهُ فِي الزِّيَادَةِ مِنْهَا والإِقْبَالِ عَلَيْهَا والاِسْتِفَادَةِ مِنْهَا، زَاعِمًا أنَّهَا تَحْمِلُ الأدْوِيَةَ والعَقَاقِيرَ والمَرَاهِمَ لِجُمْلَةٍ مِنَ الأدْوَاءِ والأسْقَامِ المُسْتَفْحِلَةِ فِي البَلَدِ، المُسْتَحْوِذَةِ عَلَى النَّاسِ، فِي زَمَنٍ تَفَاقَمَتْ فِيهِ أمْرَاضُ القُلُوبِ وتَعَاظَمَتْ، وتَنَاسَلَتْ فِيهِ أوْبِئَةُ النُّفُوسِ وتَعَاسَرَتْ، فَإِنَّ ثَمَّةَ فَرِيقًا آخَرَ يُبْدِي اِعْتِرَاضًا مِمَّا يُعْرَضُ واَمْتِعَاضًا، واَسْتِنْكَارًا لِمَا يُشَاهَدُ واَسْتِغْرَابًا، وكُلٌّ مُؤَيَّدَةٌ فِكْرَتُهُ بِحُزْمَةٍ مِنْ دَلَائِلَ وحُجَجٍ وبَرَاهِينَ، وجُمْلَةٍ مِنْ نَمَاذِجَ وبَيِّنَاتٍ وأمْثِلَةٍ.
صَحِيحٌ إِنَّ مَا فِي الأمَّةِ عَامَّةً، وفِي البَلَدِ خَاصَّةً، مِنْ نَوَائِبَ أخْلَاقِيَّةٍ، ومَصَائِبَ ثَقَافِيَّةٍ، وكَوَارِثَ قِيَمِيَّةٍ، وطَوَاعِينَ اِجْتِمَاعِيَّةٍ، وسَفَاسِفَ وأحْقَادٍ، ومَفَاسِدَ وأسْقَامٍ، وغَرَائِبَ وعِلَلٍ، وشَدَائِدَ وخَلَلٍ، يَسْتَدْعِي ويَسْتَوْجِبُ النَّفِيرَ العَامَّ، والحَذَرَ التَّامَّ، بَلْ يَفْرِضُ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الإِصْلَاحِ والمُعَالَجَةِ والإِصَابَةِ، أنْ يُسْرِعَ إِلَى ذَلِكَ، ويَجْرُؤَ عَلَيْهِ، ويَسْتَفْرِغَ فِيهِ وُسْعَهُ، ويَسْتَنْفِدَ سَعْيَهُ، ويَبْذُلَ جُهْدَهُ، ويُعْمِلَ عَقْلَهُ، فَإِذَا نَجَحَ وأفْلَحَ، وقَوَّمَ وأصْلَحَ، كَانَ سَعْيُهُ مَشْكُورًا، وعَمَلُهُ مَذْكُورًا، وفِعْلُهُ مَأجُورًا، عَلَى الأعْنَاقِ يُحْمَلُ، وفِي الأعْمَاقِ يَقْطُنُ، فَذَاكَ صَالِحُ العمَلِ، وصَائِبُ النَّظَرِ، وثَاقِبُ الفِكْرِ، ومَنْ يَحْذُ حَذْوَهُ ويَنْحُ نَحْوَهُ ويَهْتَدِ بِهَدْيِهِ ويَتَأَسَّ بِفِعْلِهِ، يَرْقَ الدَّرَجَاتِ العُلَى، ويَلْقَ التَّحَيَّةَ والسَّلَامَ، والهَدِيَّةَ والوِسَامَ.
إِنَّ أمَّةً هَذِهِ حَالُهَا، كَانَ حَتْمًا مَقْضِيًّا عَلَى صُلَحَائِهَا، ولَمْ يَخْلُ جِيلٌ مِنْهُمْ، أنْ يَعْجَلُوا بِالتَّألِيفِ والإِصْلَاحِ، وأنْ يُهْرَعُوا إِلَى مَوَاطِنِ التَّوْفِيقِ والوِفَاقِ، رَغْبَةً فِي تَقْوِيَةِ اللُّحْمَةِ بَيْنَ الإِخْوَانِ، وتَشْدِيدِ حِبَالِهِمْ، وتَجْدِيدِ عُهُودِهِمْ، وذَلِكَ مُسَاعِدٌ عَلَى بِنَاءِ الأوْطَانِ، وإِقَامَةِ العُمْرَانِ، ونَيْلِ المُرَادِ، وبُلُوغِ المَرَامِ، ألَا فَلْنَعِ الدَّرْسَ، ولْنَتَّقِ اللَّهَ، هَذَا ولَا يَخْفَى عَلَى عَاقلٍ عَادِلٍ، ومُسْلِمٍ مُنْصِفٍ، أنَّ ضَعْفَنَا فِي عَقِيدَتِنَا، فِي وَازِعِنَا الدِّينِيِّ، فِي سُلُوكِنَا الأخْلَاقِيِّ، هُوَ الَّذِي شَتَّتَ شَمْلَنَا، وفَرَّقَ جَمْعَنَا، وعَقَّدَ عَلَاقَاتِنَا، وعَطَّلَ نُمُوَّهَا، وأنْشَأَ فِينَا هَذِهِ العُقَدَ والأحْقَادَ، وزَرَعَ فِينَا بُذُورَ الفِتْنَةِ والغُرْبَةِ، حَتَّى نَشِطَتْ فِينَا الأوْبِئَةُ والطَّوَاعِينُ، آكِلَةً مَشَاعِرَنَا ومُبِيدَةً أشْيَاءَنَا الجَمِيلَةَ.
أنْ تَرَى مُنَشِّطًا عَرَبِيًّا، مُتَوَلِّيًا هَذِهِ المُهِمَّةَ، مُتَصَدِّيًا لِهَذِهِ المُلِمَّةِ، مُتَسَلِّحًا بِمَا يَمْلِكُ مِنْ خِبْرَةٍ وحِكْمَةٍ، وقُدْرَةٍ وحُنْكَةٍ، أنْ تَرَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَاذِلًا كُلَّ جُهْدِهِ، مِنْ أجْلِ رَتْقِ فَتْقٍ، ولَأْمِ صَدْعٍ، فِي جِدَارٍ يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ، وجَمْعٍ يَكَادُ يَنْفَضُّ، وظَلَّ أكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وهْوَ يَدْعُو إِلَى التَّألِيفِ بَيْنَ المُتَبَاغِضَيْنِ المُتَدَابِرَيْنِ، والتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا، حَتَّى حَقَّقَ رَغْبَتَهُ، وبَلَغَ غَايَتَهُ، ونَالَ بُغْيَتَهُ، فَعَادَ الوِئَامُ، وشُدَّتْ الحِبَالُ، لِتَكُونَ صَفْحَةٌ جَدِيدَةٌ يَرْسُمَانِهَا مَعًا، أنْ تَرَاهُ فَاعِلًا ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَاهُ لَحْظَتَهَا وقَدْ جَرَتْ مِنْهُ دَمْعَتَانِ، جَذَلًا وتَأثُّرًا ورِقَّةً، فَلَا تَمْلِكُ إِلَّا أنْ تُكْبِرَ فِيهِ تَصَرُّفَهُ البَدِيعَ، وتَألُّقَهُ البَدِيعَ، وتَحُضَّهُ عَلَى مَزِيدٍ مِنْ فِعْلِ الخَيْرِ، وحُسْنِ السَّيْرِ، عَسَى غَافِلٌ يَنْزَجِرُ، بِأمْرِ الصُّلْحِ والحُبِّ يَأتَمِرُ، فَالقَلْبُ يَنْفَطِرُ والنَّفْسُ تَنْكَدِرُ، لَمَّا يَعْلَمُ المَرْءَ أنَّ الحَبْلَ بَيْنَ الوَلَدِ ووَالِدِهِ مُنْقَطِعٌ مُنْبَتٌّ، وأنَّ السِّرَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُنْتَشرٌ مُنْبَثٌّ، وأنَّ الخِصَامَ بَيْنَ الأخَوَيْنِ مُسْتَعِرٌ مُحْتَدٌّ، وأنَّ الشَّرَّ بَيْنَ الأصْحَابِ مُسْتَطِيرٌ مُشْتَدٌّ، والوَاقِعُ يُخْبِرُنَا بِأنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ فِي اِزْدِيَادٍ مُطَّرِدٍ، وبِأنَّ هَذِهِ المَظَاهِرَ فِي اِنْتِشَارٍ كَبِيرٍ، تُشَوِّهُ قِيَمًا غُذِّينَا بِهَا ورُبِّينَا عَلَيْهَا، وتُعَطِّلُ نَمَاءً كُلٌّ يَنْشُدُهُ مِنْ أجْلِ عِزَّةِ وَطَنٍ، إِنَّ الحِقْدَ لَا يَصْنَعُ المَجْدَ.
هَذَا الَّذِي أنْجَزَهُ هَذَا، يُعَدُّ صُنْعًا عَظِيمًا، وإنْجَازًا جَلِيلًا، يَسْتَحِقُّ مِنَّا التَّحِيَّةَ والإِكْبَارَ، والهَدِيَّةَ والإِكْرَامَ، لَكِنَّ المَرْءَ النَّاظِرَ إِلَيْهِ، المُعْجَبَ بِهِ، عِنْدَمَا يَجِدُهُ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ، يُعَانِقُ فِيهِ الرَّدَاءَةَ، ويَتَلَفَّظُ بِمُفْرَدَاتِ البَذَاءَةِ، مُفْسِدًا أذْوَاقَ النَّاسِ، وأخْلَاقَهُمْ، وآدَابَهُمْ، وألْبَابَهُمْ، بِمَا يُقَدِّمُ لَهُمْ عَبْرَ الشَّاشَاتِ، مِنْ بَرَامِجَ فِي غَايَةِ الإِسْفَافِ، عَوْرَاتٌ عَارِيَةٌ، وكُؤُوسٌ جَارِيَةٌ، وكَلِمَاتٌ نَابِيَةٌ لَا بَانِيَةٌ، وعِنْدَمَا يَجِدُهُ فِي بَرْنَامَجهِ الاِجْتِمَاعِيِّ ذَاكَ، يُرْسِلُ إِشَارَاتٍ قَبِيحَةً، ويُصْدِرُ مَقَالَاتٍ مُنْكَرَةً، غَيْرَ مُوَقِّرٍ اِمْرَأةً عَفِيفَةً وَرَاءَهُ وأمَامَهُ، حَتَّي يَحْسِبَ ذَاكَ الرَّائِي المُشَاهِدُ أنَّهُ دَاخِلَ مَقْهًى لَا قُبَالَةَ تَلْفَزَةٍ، وفِي أحْيَانٍ كَثِيرَةٍ يَأتِي بِفَتَاةٍ وفَتًى كَانَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ ألْفَةٍ خِلَافٌ، فَاَسْتَطَاعَ أنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، والصُّلْحُ خَيْرٌ، وتَرَاهُ مِنْ بَعْدِ أنْ بَلَغَ مُرَادَهُ، داعِيًا الفَتَاةَ أنْ تَدْنُوَ مِنْ صَاحِبِهَا وخَطِيبِهَا، ثُمَّ يَدْعُوهُمَا للْعِنَاقِ والقُبُلَاتِ، وكَأنَّ دِينَ الدَّوْلَةِ يَهُودِيَّةٌ لَا إِسْلَامٌ، وأعْظَمُ مُصِيبَةٍ أنْ تَرَى الجُمْهُورَ مِنَ الفِتْيَانِ والفَتَيَاتِ صَائِحِينَ مُصَفِّقِينَ.
لَا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُصْلِحُ فَاسِدًا ولَا مُفْسِدًا، والفَاهِمُ يَفْهَمُ.
----
- عاشق الضاد
habib.belgecem.fattouma@gmail.com