شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
أبو الريحان البيروني
 هو أحد العلماء الموسوعيين في الحضارة الإسلامية الذين أبدعوا في ميادين مختلفة من فروع العلم والمعرفة وأثّروا في تاريخها وتطورها. كان رحّالةً وفيلسوفًا وفلكيًا وجغرافيًا وجيولوجيًا ورياضياتيًا وصيدليًا ومؤرخًا ومترجمًا لثقافات الهند. إنّه «بطليموس» العرب أبي الريحان محمد بن احمد البيروني.
 ولد في بلدة «بيرون» إحدي بلدات إقليم خوارزم في عام 362 هجري (973م). ونشأ مثل أغلب أطفال المسلمين في عصره، فتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودرس شيء من الفقه والحديث، لكنّه تمّيز عن غيره من الأطفال بميله منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغفه بتعلم اللغات، فأتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية.
درس «البيروني» الرياضيات على يد العالم منصور بن عراق، وعاصر ابن سينا، وابن مسكويه والفلكي أبي سهل عيسى النصراني. لكنّ الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم اجبرته على الرحيل إلى الهند حيث مكث أربعين سنة، جاب خلالها البلاد باحثا منقبا، وعكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافية الهند وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة، ودوّن ذلك كله في كتابه الكبير «تاريخ الهند».
كتب «البيروني» عددًا كبيرًا من المؤلفات في مختلف العلوم، ونقل في كتبه آراء علماء الشرق والغرب القدماء، وناقشها وأضاف إليها، فوضع المؤلفات في مناقشة المسائل العلمية المختلفة. ففي مجال الفلك قام بتعيين الجهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومعرفة فصول السنة، وفسر ظاهرتي الكسوف والخسوف ورصد حركة أوج الشمس، وهو أبعد المواقع السنوية بين الشمس والأرض، وقام بقياس طول السنة على وجه دقيق، ولم يكن يخالجه أدنى شك في كروية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها فقال بأنّ «الأجسام تسقط على الأرض بسبب قوى الجذب المتمركزة فيها»، وقال إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام. وقد دخل في كثير من المناقشات حول دوران الأرض وخاصة مع ابن سينا، كما اعترض على توقّعات أرسطو حول علم الفلك فهاجمه في إعتقاده بأنّ الأجرام السماوية ثابتة. كما تخترع «البيروني» بعض الأدوات المستخدمة في علم الفلك وترك لنا رسالة قيّمة عن الإسطرلاب.
وأبدع «البيروني» أيضاً في مجال الفيزياء فتحدّث عن سرعة الضوء التي لا تقارنها سرعة، وأنها تفوق سرعة الصوت بكثير، وقام بالعديد من التجارب الفيزيائية وشارك في علمي «الديناميكا» و«الإستاتيكا»، فتحدث عن كثافة المعادن وتأثير الحرارة فيها مثل الذهب والفضة والماء والنحاس والحديد والزئبق والبرنز. وقام بدراسات نظرية وتطبيقية عن ضغط السوائل، وعلى توازن هذه السوائل وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المدّ والجزر.
وكانت للبيروني إضافات كبيرة في علوم الرياضيات مثل وصفه لصورة واضحة في تثليث الزوايا في حساب المثلثات والدائرة، وبحث بحثًا مستفيضًا في خطوط الطول والعرض، وله إسهامات في علوم الأرض حيث وضع نظرية لحساب محيط الأرض وقد سُمّي «أبو الجوديسيا» وهي فرع من الرياضيات. 
رغم اهتمامه بالعلوم التطبيقية، إلا أن «البيروني» أسهم في الأدب أيضًا؛ فكتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار. وبرع في التاريخ، فكان كل من قرأ مؤلفاته في التاريخ يشهد له بالبراعة لما له من دقة في الوصف وسعة في الثقافة وانفتاح على الأمم التي زارها. كما كان صاحب مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند وغيرها. واشتهر أيضا بكتاباته عن الصيدلة وعن ماهيات الأدوية وأسمائها التي جمعها في كتابه «الصيدلة في الطب».
لا يؤرخ مؤرخ لأبي الريحان إلا ويقر له بالعظمة في العلم، بل ويصل بعض مؤرخي العلوم من الغربيين من بينهم «جورج سارتن»، المؤرخ العلمي الشهير، صاحب كتاب تاريخ العلم إلى أنّه من أعظم العلماء في كل العصور والأزمان.
ولمكانته العلميّة وبحوثه الرّائدة أنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة بإسمه وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلّد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مرّ العصور واختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا، أطلقت أسماؤهم على بعض معالم سطح القمرلما له من اسهامات في علم الفلك والفضاء.
ظل البيروني حتى آخر حياته شغوفًا بالعلم مقبلا عليه، متفانيًا في طلبه حتّى غادر الحياة في رجب سنة 440 هجري( 1048 ميلادي) عن عمر يناهز 75 عاما ، ودفن في بمدينة غزنة (كابول) بأفغانستان.