قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الذي باركنا حوله
 تجدّدت في الآونة الأخيرة محاولات الصّهاينة في القدس الشّريف تخريب المسجد الأقصى وتدنيسه، وهي محاولات لم تنته أبدا بزعم وجود الهيكل تحت المسجد الشّريف ومحاولات تُجدّد بين حين وآخر لهدم المعلم الإسلامي المقدّس عند عموم المسلمين وإقامة هيكل سليمان المزعوم وكل ذلك ضمن نفس السّياسة التي دأب عليها اليهود وآلتهم الإعلامية والقائمة على ترويج الكذبة الكبرى التي يتغذّى عليها الكيان وهي تلك المتعلّقة بأحقّية اليهود وحدهم في أرض أجدادهم أرض الميعاد وعاصمتها القدس، عاصمة أبديّة، وللأسف لا توجد بوادر توحي بلجم الإسرائلييّن ودفعهم دفعا نحو احترام المسجد الأقصي كمعلم مقدّس ولا احترام إرادة الشّعب الفلسطيني في الحفاظ على مقدساته جميعا وأوّلها القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك .
(2)
إن أسطورة أرض الميعاد وما روّجه ويروّجه اليهود في كلّ مكان من العالم من أكاذيب ليست إلاّ حلقة من حلقات التّزييف الذي يمارسه هؤلاء بحرفيّة عالية وصبر دائبين قبل احتلالهم الغاشم لأرض فلسطين وبعد الاحتلال. والكذب عند اليهود الصّهاينة سياسة ممنهجة ولكنّهم استطاعوا عبر سيطرتهم على الإعلام والمؤسسات الثّقافية والدّعائية في العالم عموما وفي الغرب الأوروبّي خاصّة، أن يجعلوا من كذبهم شبه مسلّمات عند عموم النّاس فضلا عن مثقّفيهم، وليس صعبا على أيّ متابع أن يلاحظ مدى ما يحظى به الصّهاينة من تعاطف وما يحصلون عليه من دعم في كلّ المؤسّسات والمحافل الدّولية، وما تلقاه أكاذيبهم من رواج وترويج إعلامي يحار المرء بشأنه حتّى لكأنّ دول الغرب دول لا تفكّر أو لكأنّها رازحة تحت استعمار إسرائيلي لا تستطيع بموجبه إبداء أيّ ردّ فعل تجاه هذه الأكاذيب ولو بالتّخلي عن ترويجها، فكيف نجح اليهود الصّهاينة في احتلال الأرض وتشريد شعب بكامله وتهجيره وتقتيله من دون أن يخسروا من رصيدهم الأخلاقي عند الغربيّين إلاّ نزرا قليلا لايمكن الإفادة منه؟ وكيف استطاعت آلتهم الإعلاميّة ترويج كلّ هذه الأكاذيب والحفاظ علي متعاطفين مع أكاذيبها لا يألون جهدا في دعمها في كلّ المحافل الدّولية والكثير منهم للأسف الشّديد أكادميّون كبار وأساتذة جامعات وباحثون مرموقون؟
(3)
لا يزور مسؤول مرموق غربّي أو غير غربيّ ، أو أيّ مثقف كان من كبار المثقفين، دولة الكيان الغاصب إلاّ أخذوه إلى حائط المبكى وإلى متحف الهلكوست وأجبروه على ارتداء الطيلس الذي يرتدونه حتى يبدي ما عليه إبداؤه من تعاطف معهم. وهم مازالوا منذ عشرات السّنين يروّجون بلا توقف لمأساة اليهود على يد النّازية ويضخّمون أرقام أعداد الضّحايا ويحيكون من خيالهم وخيال كتّابهم وتابعيهم من المثقّفين والإعلاميين والسنمائييّن قصصا لا تنتهي عن هذه المأساة وكأنها مأساة فريدة في الزّمان، حتىّ أنّك لا تجد في الغرب المتقدّم والمتحرّر من يجرؤ على التّشكيك في شيء ممّا يروونه ويعيدون روايته بلا توقّف. ولعلّ ما جرى لـ «الأب بيار» وللمرحوم «روجي قارودي» أكبر دليل على ما يمكن أن يحصل لأيّ مشكّك في هذه الرّوايات المزعومة. إنّ قدرة الصّهاينة علي نسج خيوط العنكبوت حول مثقّفي العالم واستدراجهم باللّين وبالقوة لتبنّي آرائهم والتّعاطف معهم هو ما جعل الفلسطينيّين بلا سند تقريبا رغم أنّ مأساتهم لا يمكن أن يختلف فيها إثنان وهي مأساة شواهدها موزّعة على أكثر من مكان في العالم تشهد بها مخيمات اللاّجئيين المحرومين من العودة إلى وطنهم وتشهد بها جحافل المهاجرين قسرا في أصقاع الأرض.
(4)
عاش الفلسطينيّون عقودا كثيرة على أمل العودة إلى وطنهم الذي هجّروا منه بعد مذابح وحروب ومؤامرات دبّرت لهم بمساعدة من الغرب الأوروبّي بشقّيه، ولم يفلح العرب رغم الشّعارات التي رفعوها في تحقيق أيّ وعد من الوعود التي قطعوها للفلسطنيين باعتبار القضيّة الفلسطينيّة قضيّتهم الأولى ولا في اعتبار القدس قدس الأقداس وحمايتها من مكائد الاحتلال ومساعدة أهلها في الصّمود. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل إنّ الصهاينة استطاعوا على مدى العقود الماضية تحقيق اختراق سياسيّ وثقافيّ عند المثقّفين العرب ممّا جعلهم يكادون يتبنّون المقولات الصّهيونية المتعلّقة بحلّ الدّولتين، فضلا عن محاولاتهم الدّائبة لتحقيق نصر عسكريّ يقضي نهائيّا على القضيّة العربيّة الأولي .
(5)
لن تتوقّف محاولات الاسرائلييّن في تدمير المسجد الأقصى ولا محاولاتهم في تغيير معالم المدينة، ولن يدّخروا جهدهم في قتل الفلسطنييّن والتنكيل بهم كلّ ما سنحت لهم الفرصة، ولكنّهم لن يدّخروا أيّ جهد في العمل على تغيير البنية الفكريّة للإنسان العربي ورؤيته للقضيّة المركزيّة في محاولات لا تتوقّف لعزل الفلسطيني وجعله وحيدا في مقاومته يتنكّر له حتى أولو القربى من أبناء عمومته، وهذا ما يدعو للقلق حقّا إذ أنّ نجاح الصّهاينة في تلبيس الأمر على أجيال العرب القادمة سيجعل المأساة الفلسطينيّة أكثر مرارة حين يكون على الفلسطيني أن يقاوم بلا سند وهو يخشى من القريب خشيته من مغتصب الأرض، ولعلّ ما تشهده هذه الأيام من إغراق للأنفاق في غزّة نذير بما يمكن أن يحدث في قادم الأيّام، فالمعركة ليست معركة الأقصى فقط وإنّما معركة الأقصى الذي باركنا حوله.
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com