من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
المرأة التونسية وتجاذبات ما بعد الثورة

تشارك التونسيات بقية نساء العالم  الاحتفال باليوم العالمي للمرأة يوم الجمعة 8 مارس الجاري الذي ينتظم تحت شعار ”الوعدُ وعدٌ:حان الوقت من أجل وضع حدّ للعنف ضــّد المـــرأة“. ويمثّل هذا اليوم فرصة لمناصري قضايا المرأة للدعوة إلى بــــذل المزيـــد من الجهود الوطنية والدولية للحدّ من أشكال التمييز ضد المرأة والضغط من أجل أن تتمتع جميع النساء والفتيات بحقهن الإنساني في أن يعشن حياة خالية من العنف والدفع نحـــــو تحقيــــق مزيـــد من المساواة مع الرجل. وفي مثل هذه المناسبـــات يحتـــد الجــــدال بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة حول الطرق المناسبة لتحقيق هذه الأهداف وتصبح  ”حرية المرأة“ ورقة يحاول كل تيار أن يلعبها لكسب ودّ المرأة التونسية وجعلها في صفّه في مواجهته للتيارات الأخرى.

التيار الحداثي

يرى أن المــرأة التونسيــــة لم تحقـــق من حريتها إلاّ النزر القليل وأن الحقوق التــــي تحصلت عليهـــا ما كانت لتتحقق لــولا نضالات بعض النساء المتحـــررات وشجاعـــة الزعيـــم الحبيــب بورقيبـــة. وأن هذه المكتسبات أصبحت مهددة بعد الثورة واعتلاء الإسلاميين سدّة الحكم وبروز التيارات الفكرية المتشددة الواردة من المشرق. ويرى هذا التيار أن التمسك بالمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) واتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بحقـــوق المـــرأة وخاصة اتفاقيــــة القضاء على جميع أشكال التمييـــز ضد المرأة (1979) والإعلان العالمـــي لمناهضة كل أشكال العنــف ضد المرأة (1993) من جهة والمزيد من التحرر من الأنماط الفكرية والثقافية السائدة المعارضة لمبـــدأ المســـاواة بين الرجل والمرأة من جهة أخرى، هو الطريق الأنسب لحصول المــــرأة على حقوقها ومكانتها ضمن التركيبة المجتمعية ويطالبون بدسترة حقوق النساء ومساواتها التامّة مع الرجل على أرضية المواثيق الدولية.

ويعمل هذا التيار جاهدا من خلال بعض الجمعيات والمنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان وحرية المرأة على التعريف بالمعاهدات الدولية ونشرها والمشاركة المكثفة في الملتقيات المهتمّة بالشأن النسائي والاستفادة في أنشطتها من الإمكانيات المادية واللوجستية التي توفرها المنظمات العالمية كالأمم المتحدة وبعض الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. 

ويناهض هذا التيار الفكر الديني معتبرا إياه فكرا ذكوريّا معاديا لمساواة الرجل مع المرأة ومتهما إيّاه بالعمل على الحطّ من كرامتها والوقـــوف ضد حريتهـــا ورفض كل محاولة لحصولها على حقوقها التي حرمها منها هذا الفكر طيلة القرون الماضية. 

التيار الديني التقليدي

 أمّا التيار الثاني فإنه يرى أن الرفع من مكانة المرأة وإنصافها ورفع الظلم عنها لا يتحقق إلا من خلال العودة إلى الأصول وتنفيذ شرع الله المستمد من الكتاب والسنّة وإجماع العلماء وأن الإسلام أحدث في تاريخ المرأة أعظم ثورة لم تشهد مثلها من قبل ومن بعد‏.‏ فقد سبق الإسلام كل المواثيــــق الدوليـــــة فــــي الإقـــــرار بإنسانية المــــرأة وأن هذه المواثيـــق ما هـــي إلا صناعـــة غربيــة غريبــة عن بيئتنا تتعارض مع معتقداتنا وتشريعاتنــــا الإسلامية أراد أعداء الأمة تصديرها وفرضها علــــى الشعوب العربية الإسلامية قصرا، تنفيذا لمشروع عولمة النموذج الاجتماعي الغربي تمهيدا لفرض نمــــوذجها السياســـــي والاقتصــــادي. وهـــذه النمـــاذج لا تراعي في تشريعاتهـــا القانونيــــة اختـــلاف العقيـــدة أو تباين الثقافـــة بين المجتمعات بل تسعـــى لفـــرض نمـــط حضاري موحد على العالم تلتزم به الدول كلها. 

كما يرى هذا التيار أن ما تحقق من حريات للنساء في العالم الغربي إنما هي شكلية وليست مضمونية فلم تجن منها المرأة غير مزيـــد من الاستعبـــاد والتبضيـــع. ويكفي التلميح إلى حالات الاغتصاب والاعتـــداءات التي تتعرض لها النساء في هذه الدول والتمييز ضدهـــن في مواقع العمـــل وعدم مراعاة ظروفهن بعد الولادة، فإجازة الأمومة فــــي الولايات المتحــــدة الأمريكيــــة مثـــلا لا تزيد على أسبوعين فقط.

 ويرفض هذا التيـــار فكــــرة المســــاواة بين الرجل والمرأة ويرى أن هذه الفكرة هي واحدة من أسباب التقهقر الاجتماعي الذي يعاني منه الغرب. وهي تتنافى مع التشريع الإسلامي خاصة في بعض الإجراءات الخاصة بالزواج والإرث والولاية والشهادة. 

كما يتهم هذا التيار ”الحداثيين“ بأنهم يعملون لصالح أجندات استعمارية غربية  بتشجيع الزواج المثلي ومحاربة اللباس الشرعي وهم بذلك يعملون على  تحطيم بنى المجتمع المسلم وخاصّة نواته الرئيسيّة الأســرة ويريـــدون استيـــراد نمـــط اجتماعي لا يتماشى مع عقيدة الشعب. كما يتّهمونهم بأنهم يمارسون التمييز بين النساء ولا يؤمنون حقيقة بحرية المرأة وكرامتها، حيث تجدهم يصرخون وينددون ويتظاهرون بمجرد المسّ من إحدى ”الحداثيات“ في حين لا يحرّكون ساكنا ولا يعبؤون بما يحدث للمرأة المتحجبة أو المنقبة ويستدلّون لتأكيد ذلك بذكر مواقف بعض الجمعيات النسوية الحداثية في تونس إبّان قمع بن علي للنساء الإسلاميّات ومحاربته علنا للباس الشرعي بتزكية من التيار الحداثي. 

وينظر هذا التيار إلى الاحتفال باليوم العالمي للمرأة على أنه تقليد أعمى للغرب المستعمـر واعتراف بأسبقيتــــه فـــي تحريــر المـــرأة وهذا تزوير للحقائــــق التاريخيــــة، حيث أنّ الإســـــلام قد سبـــق الجميـــع في هذا المجال ومنح المرأة، قبل أكثر من 1400 سنة، حقوقهـــا وأكرمهـــــا بنتــــا وزوجـــة وأمّـــا وأنّ عدم التطبيق الحقيقـــي لتشريعاتــــه كــــان ولا يزال سبباً في الوضع المتردي للنساء في العالم الإسلامي.

تيار الخط الثالث

 

الحقيقة أن بين هذين التيارين يوجد تيار ثالث لا يرى تناقضا جوهريا بين المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وما دعا إليه الإسلام وإنما الاختلاف في التأويـــلات وفي بعض النقاط التـــي لا يؤثر عدم قبولها  أو مراجعتها فـــي المــــسّ من حريـــة المـــرأة أو تمكينها من حقوقها وتحقيق كرامتها. ويرى أن ما تحقق في تونس لصالح المرأة إنما هو نتيجة نضــــالات مصلحيـــن ومصلحـــات استطاعوا من خلال المنظومة الفكرية العربية الإسلامية الارتقاء بمكانة المرأة وتحسين موقعها في المجتمع. ويذكر أصحاب هذا الاتجاه على سبيل المثال الصداق القيرواني ثم مجلة الأحوال الشخصية المرتبطة أساسا بالإرث الفقهي المستنير لمدرستي القيــــروان والزيتونـــة النابـــع مـــن المبــــادئ السمحــــة للديــــن الإسلامــــي الحنيـــف. ولهذا فإن أي محاولة جادّة لضمان حقوق المرأة والرفع من شانها يجب أن تكون متجذّرة في الهويّة الشعب العربية الإسلامية. 

ويعارض هذا التيار منطق التصادم والتطرف الذي يميّز التيارين الآخرين، فيرفض من جهة فكرة الصراع بين الجنسين ومن جهة أخرى فكرة تبعية المرأة للرجل اعتمـــــادا علـــى مبـــــدأ قوامتـــه. كما يرفض أن تكون تعريـــة المــــرأة ومحاربـــة الحجاب علامة من علامات الحداثة وتحقيقـــا لمزيـــد من الحرية للنساء من جهة أو حصـــر كرامة المرأة وعفّتها في لباسهـــا للحجـــاب أو النقـــاب من جهة أخرى. ويرى هذا التيــــار أن البحث عن إنصـــاف المـــرأة من الظلم وتمكينها من حقوقها وحريتها لا يمرّ عبر وضع القوانين والموافقة على المعاهدات فحسب وإنما أيضا عبر ترسيخ ثقافة المساواة بين الرجل والمرأة باعتبار أنهما من أصل طبيعي واحد (الانتماء إلى الجنــس البشـــري) وأصـــل قانوني واحد (متساويان أمام القانون ومسؤولان عن أعمالهما بنفس الكيفيّة باعتبارهما مواطنين من نفس الدرجة) ولهما نفس الحقوق الإنسانية والحرمة الجسديّة، ضمن إطـــــار مــــن التعــــاون والتكامـــل وليس التماثل لأن التماثل في الأدوار يؤدي إلى الصدام والتنازع. ويدعو هذا التيار إلى عدم القفز على الواقع برفع بعض الشعارات الرنّانة أو تكرار بعض النصوص من القرآن والسنّة وإلى عدم استغلال موضوع حرية المرأة وحشره في المزايدات والمناورات السياسية لتصفية خصم أو الدعاية لطرف على حساب الآخر بل يجب القيام بقراءة موضوعية لواقع المرأة من خلال تشريكها باختلاف مشاربها الفكرية حتّى تكون الخطوات المتبعة للنهوض بها ذات جدوى والأخذ بعين الاعتبار الفوارق الموجودة بين النساء أنفسهن من حيث التوزيع الجغرافي( الريف والمدينة) والحالة الاجتماعية (متزوجة وعزباء) والعلميّة والوضع المادّي( فقيرة وغنيّة).

كما يتطلب الرفع من مكانة النساء وتمكينهن من حقوقهن، بناء مؤسسات وطنية مستقلّة مختصة في شأنهن وتفعيل دور وزارة المرأة والأسرة ومحاربة الفقر والأميّة الداءين الأكثر فتكا بالنساء خاصة في المناطق الريفية واللجوء إلى التمييز الإيجابي بهدف تقليص الفجوة بين المرأة والرجل.

إن تحرير المرأة وتمكينها من حقوقها ومساواتها بأخيها الرجل طريق طويل مليء بالمصاعب، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة وأول الغيث قطر ثم ينهمر المطر.