مقالات في التنمية

بقلم
رضا التوكابري
ضمان توفير حاجات التونسي من منظور إسلامي (الجزء الأول)
 توطئة
قاد الإسلام الأمّة الإسلاميّة وعصور ازدهارها الحضاري المديدة، وظل مرجعيتها العليا التي استوحت منها كل مناهج حياتها الثقافيّة والتشريعيّة والاقتصاديّة، وتأسّست في ظلّها مجتمعات نمت فيها أسواق «الدّنيا» جنبًا لجنب مع أسواق «الآخرة» تجسيما للمثل الإسلامي الجامع بين المادّي والرّوحي، وحتّى في عصور الانحطاط، ظلّت هذه المجتمعات منتجة لحاجياتها وزيادة حتّى كانت تصدِّر الأقوات للدّول الأوروبيّة وتسدي لها القروض، فقد أقرضت مصر إنجلترا وكذلك فعلت الجزائر مع فرنسا، وكلاهما قبل الاحتلال..(1)
الإسلام هو أهمّ مقوّم في هويّة الأمّة الإسلاميّة ومحرّك لطاقاتها التي توظف في مشاريع التّنمية كما حصل في تجربة ماليزيا وتركيا وإندونيسيا...
الإسلام هو الذي شكل وعي وضمير الأمة ولا يزال. فمن الطبيعي أن يكون رجاله الأقدر على توحيد شعوبها حول مشروع تنموي ذي آفاق واسعة وتجسير الهوة الشاسعة التي شقتها الأفكار التغريبية بين نخبة الحكم والثقافة من جهة، وبين جمهور النّاس من جهة أخرى. وقد غدت النخب تتكلّم بما لا تكاد تفقه المجتمعات منه شيئا.
إن العلمانية الجاثمة على صدر الشّعب أكثر من نصف قرن ولا تزل تحتل المواقع المتقدّمة في مفاصل دوائر القرار هي المسؤولة عن أوضاع التّأزم السّائدة لدرجة العجز عن إنتاج الأقوات الضروريّة والأسلحة الدفاعيّة، وهو ما يمثّل تهديدًا حقيقيًّا لأمن الأمّة. إنّها مسؤوليّة الجماعات العلمانيّة التي حوّلت الدّول إلى أجهزة مرعبة بالقمع والنّهب وإهدار الثّروات والنتيجة الضعف والتّخلف والانهزام وبالتالي العودة للتّبعية وضياع ما تبقّى من الاستقلال الوطني.
وقد ذكر المفكر الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي) أن حضارة الإسلام حضارة علم وعمل وفقه وحكمة « فعظمة الإسلام تتجدّد في كلّ عصر ومصر بشرط الاستمساك بسنن التّاريخ وشروط الحضارة وتقوى الله في الأوطان وحسن التصرف في المال العام .»
 وعملا بالسّنن القرآنيّة تزايدت في القرن الخامس عشر هجري (الموافق للقرن الواحد والعشرين ميلادي) تجارب النّهوض النّاجحة في العالم الإسلامي (المثال الماليزي، المثال التركي ..) وهي معتمدة على القوّة الكامنة في الإسلام. ومن فرط اهتمام الدّارسين بمثل هذه التّجارب سئل أحد الزّعماء عن سرّ نجاح تجربة الإصلاح والتّقدم في بلاده فردّ بكل بساطة:«أنا مسؤول لا أسرق...».
إنّ استقامة رجل الدّولة هي الأساس الذي يبنى عليه البنيان المرصوص الشّامخ الذي يضرب بجذوره في الأعماق « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء » (2). و لنا في رسول الله الأسوة الحسنة والخلفاء الراشدين من بعده  ومنهم الخليفة العادل عمربن عبد العزيز الذي قال « انثروا القمح على الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين» ولقد بقيت هذه المقولة حيّة على الدّوام بعد ان استحكمت عادة راسخة في الشّعب التّركي المسلم فهو وريث عمر بن عبد العزيز فلا عجب أن يخرج من هذا الشّعب من يجدّد الدّورة الحضاريّة التي برز فيها الخليفة الخامس رحمه الله. إذ في أيامه تمّ القضاء المبرم على الفقر في بلاد المسلمين في عهده  بحيث لم يجد من يقبل الزكاة. لقد كان للإسلام الدّور الرئيس في النمو الاقتصادي الكبير في بلاد المسلمين.
الواقع العملي و طرق توفير الحاجات الأساسية في دولة النهج الإسلامي في صدر الإسلام :  شمولية و حركية البعد الإنساني في توفير الحاجات الأساسية 
(أمثلة من العهد النبوي)
اهتمت الدولة  ذات النهج الإسلامي منذ بداية نشأتها في عهد الرسول عليه أفضل و أزكى التسليم بتوفير الحاجات الأساسيّة، وتدرّجت في ذلك حسب توافر الموارد المالية لديها، فقد روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يؤتى بالميت عليه الدّين، فيقول: هل ترك لديه وفاء؟ فإن حدث أنّه ترك لديه وفاء صلّى عليه، وإلا قال صلّوا على صاحبكم، قال فلما فتح عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن توفّى وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» (3). و يتضح من هذا الحديث: أنّ دولة  ذات النهج الإسلامي وصاحبة الإمكانات المالية ترعى المسلم حيّ، وترعاه بعد مماته فتسدّد عنه دينه، ولا غرو في ذلك وهي القدوة للمؤسّسات الماليّة إذ تنفّر وتحاسب من أكل الرّبا  أضعافا مضاعفة وتشجّع على الرّفق بالمعسرين ومساعدة الفقراء والمساكين فلا تحجم المؤسّسات المالية عن الإقراض، طالما أنّ الدولة تضمن الغارمين. 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ولى لنا شيئا فلم تكن له إمرأة  فليتزوج  إمرأة، ومن لم يكن له مسكن فليتّخذ له مسكنا، ومن لم يكن له مركب فليتّخذ مركبا، ومن لم يكن له خادم فليتّخذ خادما. فمن اتّخذ سوى ذلك: كنزا أو إبلا، جاء يوم القيامة غالاّ أو سارقا» (4).
إن نظام توفير الحاجات الأساسيّة الكافية لكبار المسؤولين وعامة الموظّفين يعتبر من جهة أخرى دعامة أساسيّة  لحماية مؤسّسات الملك العمومي  من الفساد والمال العام من الإهدار وحفاظا على حرمة أموال الشعب ووقاية لمسؤوليها من الزيغ . وفي دولة دينها الإسلام أنظمة المعاش وبعض الإمتيازات الأخرى لا تكون  مقتصرة على موظّفي وعمال الدّولة دون غيرهم، بل تمتدّ الضّمانات لتشمل جميع المسلمين وغير المسلمين عملا بما كان في صدر الإسلام.
وهذا يكشف لنا نظرة الدّولة ذات النهج الإسلامي نحو العاملين فيها، وضمان الحاجات الأساسيّة لهم لحمايتهم من الزيغ، ونجد اليوم في العديد من الدّول ذات النهج الإسلامي أنه كثيرا من موظفي وعمّال الدولة لا تتوافر لهم هذه الحاجات الأساسيّة. وكما رأينا من قبل: فإنّ الدّولة ذات النهج الإسلامي لم تقصر مساعدتها على موظفيها، كما هو الشأن في بعض الدّول اليوم، التي جعلت أنظمة المعاش وبعض الإمتيازات الأخرى قاصرة على موظفي وعمال الدّولة دون غيرهم،على عكس ما كان في صدر الإسلام، بل امتدت الضّمانات لتشمل جميع المسلمين وغير المسلمين في الدولة.
(أمثلة من الخلافة الراشدة)
فقد روي عن يزيد بن أبي حبيب وغيره: أنّ أبا بكر كُلّم في أن يفضّل بين النّاس في القسم، فقال :«فضائلهم عند الله فأمّا المعاش فالتّسوية فيه خير» (5). وروي كذلك أنّ أبا بكر ذهب في التّسوية إلى أنّ المسلمين إنّما هم بنو الإسلام، كالإخوة ورثوا آباءهم، فهم شركاء في الميراث، تتساوى فيه سهامهم، وإن كان بعضهم أعلى من بعض في الفضائل ودرجات الدين والخير(6) . و لكن لعمر رأي آخر، فقد اهتم بأمر الجند فنظّم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النّسب النّبوي الشّريف، والسّابقة للإسلام، وبذلك أصبح في مقدّمة أصحاب المعاشات آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم بنو هاشم وكان العبّاس يتسلّمها ويوزّعها عليهم، ثمّ زوجات النّبي -صلى الله عليه وسلم- وتختصّ كل واحدة بمعاش مستقلّ عن آل البيت أمّا بقية المسلمين فقد قُسّموا إلى طبقات حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثم من حاربوا بعد بدر إلى الحديبية، ثم من حاربوا من الحديبية إلى آخر حروب الرّدة ثم من تلاهم من شهد القادسيّة واليرموك وهكذا، كما أنّه جعل مخصّصات لزوجات المحاربين وأطفالهم منذ الولادة ولم يغفل أمر الغلمان واللقطاء، بل خصّص لهم أعطيات سنويّة، أدناها مائة درهم تتزايد عند بلوغهم، كما فرض للموالي من ألفين إلى ألف، وكان عطاء المهاجرين والأنصار أربعة آلاف درهم، لكل واحد سنوياً سوى عبد الله بن عمر بن الخطاب فإنّه فرض له ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم معللاً ذلك بأنّه هاجر به أبوه أي ليس كمن هاجر بنفسه.
وقد رأى الخليفة عمر - رضي الله عنه- أنّ لكلّ مسلم حقاً في بيت المال، منذ أن يولد حتّى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: «والله الذي لا إله إلا هو ما من أحد إلاّ له في هذا المال حقّ أُعطيَه أو مُنِعَه، وما أحد بأحقّ به من أحد إلاّ عبد مملوك، وما أنا فيه إلاّ كأحدكم، ولكنّا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله فالرّجل وبلاؤه في الإسلام، والرّجل وقدمه في الإسلام، والرّجل وغناؤه في الإسلام، والرّجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الرّاعي بجبل صنعاء حظّه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُخمَّرَ وجهه».
وعندما تولى عمر بن الخطاب الخلافة خطب في الناس قائلا: «إنّما أنا ومالكم كوليّ اليتيم»، حتى قال: «ولكم علي أيّها النّاس خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم ألاّ أجتبي شيئا من خراجكم، و لا أفاء الله عليكم إلاّ من وجهه، و لكم عليّ إذا وقع في يديّ ألاّ يخرج منّي إلا في حقّه، و لكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم» (7)
كما أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اتّخذ في عهده داراً خاصّة أطلق عليها (دار الدّقيق)، وذلك أنّه جعل فيها الدّقيق والسّويق والتّمر والزّبيب وما يُحتاج إليه، يُعين به المنقطع به، والضّيف ومن ينـزل بعمر، ووضع عمر في طريق السّبل ما بين مكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به، ويحمل من ماء إلى ماء.
الخلاصة:
بعد هذا الاستعراض لنماذج إسلامية رائدة في الاعتناء بحاجات المواطن وقدرة المنظومة الإسلامية على النجاح في توفير ذلك، يلي الجزء الثاني الذي يؤصل مسؤولية الدولة في توفير الحاجات الأساسية للمواطن ويستعرض طرق عصرية لتنزيل ذلك مع مثال عملي لاحتساب الدخل الأدنى لتوفير الحاجات الأساسية بما يربط بالأصالة ويواكب الحداثة .
الهوامش:
(1) كانت تعلّة احتلال فرنسا للجزائر هي مطالبة داي الجزائر السّفير الفرنسي بشدّة إرجاع الدّيون إلى درجة أن أشار عليه أو ضربه بالمروحة التي بيده فاتّخذت تلك الحادثة ذريعة لدخول الجيوش الفرنسية. يعني ذلك أنّ الجزائر لم تكن تشكو فاقة ماليّة تنشّط بها اقتصادها. وكذلك تونس لم تكن تشكو عجزا ماليّا قبل اختراقها من الغرب وعملائه وتوريطها في ديون بناء قصر المحمدية وفرض الحماية واستعمارها بعد ذلك.  
(2) سورة ابراهيم  الآية 24
(3) أبو عبيد، القاسم ابن سلام: كتاب الأموال. تحقيق محمد خليل هراس. مكتبة الكليات، الأزهر و دار الفكر 1395 هـ (1975 م). ص. 271
(4) أبو عبيد، القاسم ابن سلام: كتاب الأموال.  ص. 238
(5) أبو عبيد، القاسم ابن سلام: كتاب الأموال.  ص. 335
(6) أبو عبيد، القاسم ابن سلام: كتاب الأموال.  ص. 337
(7) أبو يوسف، القاضي يعقوب بن إبراهيم: كتاب الخراج، القاهرة: المطبعة السلفية، الطبعة السادسة، 1395 هـ (1975 م). ص. 127
-----
- خبير 
ri2kbri@gmail.com