قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
من أين جاءنا هؤلاء
 (1)
قيل  سنوات  طويلة  قرأت في مجلة المجلة  مقالا للكاتب الألمعي الطّيب صالح  عنوانه من أين جاءنا هؤلاء وكان حديث الكاتب يدور عن الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة من مثل الجماعة الإسلاميّة في مصر والجزائر أو من مثل جماعات مثلها في باكستان وأفغانستان، ولم تكن تلك الجماعات بالعنف الذي نراه الآن إذا استثنينا الجماعة الجزائريّة مع ما تواتر من حديث عن اختراقها مخابرتيّا وتشكيك في وجودها أصلا. وقد رأي الطيب صالح أنّ هذه الجماعات غريبة عن ديننا وعن ثقافتنا وعن موروثنا الحضاري ومهما أتت به من محاولات للتأصيل فهي جماعات لا أصل لها ولا مبرر لوجودها، ولو أنّها وجدت من قبل لما وصل لنا الجزء الأكبر من تراثنا بما حواه من انفتاح بدءا بالشعر الجاهلي وصولا إلي كتاب الأغاني وأطروحات علم الكلام.
يتساءل الطيب صالح بحرقة عن السّر في وجود هؤلاء ومن أين جاؤوا ولم يبلغه في حينه نبأ الذين يقتلون بغير تحفظ وهم يصيحون قبل وبعد وأثناء القتل الله أكبر. وإذا كان أديبنا الكبير رأى في وصول جزء من التّراث إلينا معجزة فكيف كان سيرى علاقة هؤلاء بالحضارة الانسانيّة عامّة فضلا عن علاقتهم بالايداع.
(2)
مازال مدّعي الحداثة يصرّون على التّأكيد بأنّ هذه الجماعات إنّما تمثّل الفكر الذي تنتمي إليه وأنّها بنت شرعيّة لسياق التّطورالطّبيعي للإسلام السّياسي وما يبدأ إخوانيّا  سوف ينتهي داعشيّا والاختلاف في التّوقيت ومدى التّمكن ليس إلا، ومن ثمّ فإنّ الخطر واحد. وغاية هذا التّنظير تصوير الصّراع السّياسي على أنّه صراع بين الخير والشّر وبين النحن وهم وبين القيم الكونيّة الحضاريّة وتلك الظّلاميّة المقيتة، وإلصاق كلّ ماهو خير بفئة المتحضّرين وكل ما هو شرّ بفئة الظّلاميين لينتهي الأمر كما هو الحال الآن  في تونس إلى حديث عن نموذجين حضاريين مختلفين ومتضادّين وبالطبع متصارعين لا يلتقيان وإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(3)
لايرى أهل اليسار وأهل اليمين من المدافعين عن النّموذج الحضاري الحداثي أيّ دور للدّين وما يرتبط به من قيم ولا يجدون فيه إلا ّعامل تعطيل، فهو أفيون الشّعوب تارة ورمز للرّجعية والتخلّف الحضاري تارة أخرى ولا مفرّ عندهم من اللّحاق بالرّكب الحضاري من خلال تبنّي قيم الحداثة في كونيتها دون أيّ تحفّظ ولا مناص حينئذ من تحجيم دور الدّين وإلغاء أيّ دور للهويّة العربيّة الإسلاميّة. وهم يتّفقون بالمجمل والتفصيل على نفي الحقّ الطّبيعي في الشعور بالانتماء الحضاري، كما لا يرغبون في إبداء أي تفهم تجاه حقّ الآخر في امتلاك مرجعيّة يكون الدّين عمادها ويكون لأصحابها الحقّ في المشاركة في الشّأن العام أو في تأسيس مشروعهم الحضاري الذي يرونه الأنسب لهم وللوطن الذي يشكلون غالبية سكانه.
لا يعدم هؤلاء القلّة حجّة في محاولة نفي كلّ حقوق المختلفين معهم، فهم عملاء للاستعمار ومصطادون في الماء العكر وهم إرهابيّون كلّهم أو جلهم ومن لم يكن منهم إرهابيّا فهو مشروع إرهابيّ متخفّ. لا يعترفون بأحقّية الفكر في التّطور من خلال تفاعله مع الواقع ولا يعترفون لهؤلاء بأيّ دور ضمن ثقافة الاختلاف ولذلك ظلّت العلاقة  معهم محكومة بمنطق ساديّ أساسه  إمّا نحن وإمّا هم.  
(4)
الذين يعتصمون الآن من أجل قطع الطريق على مشاركة أي طرف إسلامي في السّلطة القادمة هم أنفسهم الذين اعتصموا زمن الرّز بالفاكية وهم أنفسهم من يجاهرون بكرههم للإسلاميين حتى لو كان حكمهم سيحوّل الوطن إلى جنة. والذين يرتعدون الآن خوفا من قدوم «داعش» كما يدعون، يعرفون من هي هذه «الدّاعش» ومن وراءها كما كانوا يعرفون من هي الجماعة الإسلاميّة في الجزائر ومن كان وراءها وهم أنفسهم من كانوا يرتعدون ليلة فرار بن علي ويصيحون نحن نعرف ماذا بعد بن علي. وعلى أيّ حال نحن ندين كل فعل عنفي ونعتبره فعلا بعيدا عن كل القيم ولا يؤسّس إلاّ للخراب. ولكن لا بأس من تذكيرهم بأنّ الغرب الاستعماري لم يأتنا بغاية التّحديث وإنما جاءنا مستعمرا ومراقد شهدائنا تشهد إلى الآن على فعله فينا ونذكّرهم بأنّ ضحايا الغرب الحداثي بالملايين في كل مكان ويزدادون مع مطلع كل شمس، أمّا ضحايا الاتّحاد السوفييتي ومن كان على شاكلته فلا مجال لأن نعدّهم وهم من كلّ الشعوب بدءا بالشّعب الروسي وصولا إلى الشّعوب الإسلامية المجاورة له.
إنّنا نرغب فقط أن نسأل ماذا فعل الغرب في فلسطين وفي العراق؟ وماذا فعل السّوفييت بربيع براغ وماذا فعلت أمريكا بشعب فييتنام؟ وماذا يفعل الآن حاكم كوريا الشمالية بشعبه؟ وأي نموذج حضاري بوسعنا أن نستلهم؟ وهل من حقّنا أن نخاف أن يفعل بنا لاحقا ما فعل بنا في الماضي بأدوات وشخوص مختلفة؟.                                
(5)
تساءل الطيب صالح من أين جاءنا هؤلاء المتطرّفون من الإسلاميّين يقينا منه بغربتهم عنا وعن سياقنا الدّيني والحضاري وهو لاشكّ مدرك غربة من يدّعون الحداثة بالقدر نفسه، ومن ثمّ فمن حقّنا نحن أيضا أن نسأل من أين جاءنا هؤلاء وهؤلاء أيضا ونحن ندرك مقدار تشبّعهم بثقافة الإقصاء والنّفي ومدى ما يمكن أن يفعلوه بنا متى ما تمكّنوا من أسباب التّمكن منا وهم يستبطنون ثقافة التّمكين لا ثقافة التّداول ويعلنون أنفسهم رسل حضارة أرسلوا إلى شعوب لم تستطع أن تلحق بركبهم لأنّها شعوب قاصرة لا تدرك ولا تعرف من وكيف تختار؟
------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com