الأولى

بقلم
م.فيصل العش
لماذا ندعو فلا يُستجاب لنا؟
 تعمّقت جراحنا وتعفّنت، وأصبحت أوطاننا تنزف بلا ضماد. تتنقّل شعوبها من أزمة إلى أخرى، من فقرٍ مدقع وبطالةٍ خانقة، إلى هوان وخذلان، حتّى باتت كرامة الإنسان العربي سلعةً يُساوَم بها في أسواق المصالح الإقليميّة والدّوليّة. سقطت أغلب الشّعارات، وتآكلت الأحلام، وصار المواطن العربي إمّا لاهثا خلف لقمة عيش مرّة في وطنٍ لا يأويه، أو راكبا البحر هاربًا من جحيمٍ معلوم إلى مصيرٍ مجهول. تشظّى الصّفّ، وضاعت البوصلة، وغاب المشروع الموحّد للجميع، لتحلّ محلّه صراعات طائفيّة ومذهبيّة وإيديولوجيّة تنهش بلا هوادة ما تبقّى من جسد الأمّة العليل. تقف الدّول العربيّة الإسلاميّة اليوم وقد تمزّقت أوصالها، وتنافرت قلوب أبنائها، حتّى غدت ساحةً مفتوحة لأطماع الأعداء، ومائدةً تتداعى عليها الأمم من كلّ حدب وصوب. مشهدٌ تنبّأ به الحبيب المصطفى ﷺ فقال:«يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». قيل: «يا رسول اللّه، أمن قلّةٍ نحن يومئذ؟»، قال: «لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرّعب من قلوب عدوّكم؛ لحبّكم الدّنيا وكراهيتكم الموت»(1).
نعم، نحن كُثُر، لكن كثرتنا بلا وزن، كالرّغوة التي تطفو فوق السّيل، لا تثبّت مجراه ولا تصدّ اندفاعه. نحن حاضرون على الخرائط، غائبون في المعادلات. تُنهب خيراتنا، وتُستباح أرضنا، وتُهدر كرامتنا، وليس بإمكاننا إلاّ التّفرّج أو التّنديد الخجول.
وقد أدرك العدو هذا الوهن فينا، فغذّى فيروس الفرقة بيننا، واستقوى علينا حين علم أنّنا ضعفنا من داخلنا قبل أن نُغلب من خارجنا. فأصبحنا في نظره أدوات لا شركاء، تابعين لا صانعين، لا يُحسب لنا حسابٌ إلاّ بمقدار ما نُطيع ونُنفّذ.
هذا الواقع المرير، يجعلنا نتساءل: لماذا نحن في معاناة متواصلة، صباحا مساء ويوم الأحد؟ لماذا تعيش الشّعوب العربيّة الإسلاميّة معيشة ضنكا؟ ألسنا مسلمين؟ ألم يعد اللّه المسلمين بالنّصر والعزّة؟ لماذا لا يستجيب اللّه لدعاء الملايين من البشر الذين يطلبون النّصر فلا يأتيهم؟ لماذا لا يستجيب اللّه لحجّاج البيت الحرام وهم يقفون في عرفة رافعين أيديهم إلى السّماء طلبا لتغيير حال المسلمين وتدمير إسرائيل؟ 
أين اللّه ممّا يحدث في غزّة؟ لماذا لا يتدخّل لينقذ أهل فلسطين من كيد الصّهيانة المجرمين؟ ما ذنب أؤلئك الأطفال الأبرياء ليُقتلوا وتتحوّل أجسادهم إلى أشلاء في حرب لم يختاروها ولم يكونوا طرفا فيها؟  هذه الأسئلة وغيرها الكثير، تنبع من الوجع لا من الجحود، ليست اعتراضا على حكم اللّه بل محاوله لفهم اللّه وعلاقتنا به في عالم يعجّ بالظّلم والطّغيان والمجازر.
لم يعرّف اللّه نفسه في القرآن كإله يتدخّل كلّما استغثنا ليغيّر واقعنا خارقا للسّنن التي وضعها بنفسه، بل يقدّم نفسه كإله وضع قوانين ثابته تحكم الكون والتّاريخ والمجتمعات، لا يعطّلها لأجل أمنيات عاطفيّة مهما كانت مؤمنة، يقول تعالى:﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾(فاطر: 43) وقال أيضا:﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾(الأحزاب: 62)، أي أنّ هناك نواميس وقوانين كونيّة لا تتعطّل ولا تكسر، تسري على الجميع، المؤمن والكافر، الظّالم والمظلوم، والكبير والصّغير. ولا تعرف هذه السّنن المجاملة ولا تتوقّف عند اللّحظة الدّامية بل تجري كما خطّط لها بقسوتها وعدالتها في آن. الايمان بالتّدخل المستمر يلغي السّببية والحرّية، ومن يعتقد أنّ اللّه يجب أن يتدخّل فورا لينقذ الأبرياء ويغيّر الحال إلى أحسن حال، هو في الحقيقة يطلب أن يُلغى قانون السّببية وأن يتحوّل العالم الى مشهد سحري تتبدّل فيه الأشياء بمجرّد الدّعاء ومن دون الأخذ بالأسباب. 
لو كان اللّه يتدخّل بمجرّد الدّعاء خارقا سننه وقوانينه لأنقذ المسلمين الأوائل حين كانوا يعذّبون في مكّة، توضع الصّخور على صدورهم، وتُقطّع أطرافهم، ويطردون من ديارهم، وهم في ذلك الوقت في أمسّ الحاجة إلى التّدخّل الإلهي، لكنّ اللّه لم يتدخّل بالرّغم أنّهم كانوا مظلومين، ولو أنّ التّدخّل الإلهي يحصل لمجرّد أن تكون المعركة بين المسلمين وأعدائهم لما خسر المسلمون معركة أحد ولما أصيب فيها الرّسول وقُتل فيها سبعون من خيره الصّحابة.
الواقع الذي نعيشه ليس مسرحا للعدل المطلق بل ميدانا للصّراع الإنساني حيث يختبر البشر بأفعالهم وباتباعهم للسّنن لا بمواقفهم الشّعوريّة، واللّه لا يتدخّل ليحسم الصّراعات بل يتركها لتُدار بعقول البشر وأخلاقهم وتوازن قواهم، ﴿ ..وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج: 40)، بل إنّ نصر اللّه -حسب القرآن الكريم - لا يحدث إلاّ بعد الأخذ بالأسباب والصّبر مع البذل والعطاء، والإستعداد الجيّد للمعركة:﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ..﴾(الأنفال: 60)(2)، فاللّه سبحانه قال: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ ﴾(الحج: 40) وقال:﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد: 7) ولم يقل إن تدعوه فقط أو تنتظروا تدخّله ينصركم.
ولو كان اللّه يتدخّل لينقذنا من أعدائنا وينصرنا عليهم ويجعلنا نرتقي بين الأمم بمجرّد الدّعاء لتحوّل المجتمع الى كيان اتكالي ينتظر نصرا من اللّه بدل أن يصنع قوّته بنفسه ولأصبح الجهاد مجرّد دعاء والحرّية مجرّد أمنية والنّصر مجرّد صرخة.
إنّ الاعتماد على الدّعاء ليتدّخل الغيب هو شكل من أشكال التّهرّب من الفعل وانتظار الحلّ من الخارج بينما المطلوب أن نصنع التّغيير من داخلنا، وقد بيّن اللّه لنا في كتابه العزيز أنّ التّغيير لا يُمنح من السّماء مجّانًا، بل هو ثمرة وعي وجهد وإصلاح: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(الرعد: 11)، واللّه لا يُغيّر واقع أمّةٍ لم تغيّر ما بنفسها، فهل غيّرنا ما بأنفسنا من جهلٍ وتفكّكٍ وظلمٍ وفسادٍ وتقصير في نصرة الحقّ؟ كيف يُستجاب دعاء من يظلم نفسه أو يظلم غيره، أو يسكت عن الظّلم ويقبل الذلّ، ثمّ يرفع يديه يطلب النّصر؟ كيف نرجو نصرةً من السّماء ونحن لم ننصر الحقّ في الأرض؟
سرّ عدم الإستجابة لدعاء ملايين المسلمين العرب يعود إلى الخلط بين التّوكّل والتّواكل أوّلا، وانتشار الظّلم وأفول العدل في مجتمعاتهم ثانيا، وتفرّقهم وتشتّتهم ثالثا.
***
1. التّوكّل أن تأخذ بالأسباب وتعمل بجدّ وتبذل كلّ ما بوسعك، ثمّ ترفع يديك إلى السّماء وقد أدّيت ما عليك، متيقنًا أنّ النّتيجة بيد اللّه، فإن جاءت كما ترجُو شكرت، وإن جاءت على غير ما تُحبّ رضيت: ﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة: 216). 
قال رسول اللّه ﷺ:«لو أنّكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكّله، لرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا»(3). فالطّير لا تبقى في عشّها تنتظر، بل تغدو (تخرج في الصّباح) وتروح (تعود في المساء)، تبذل وتسعى، ثمّ يأتيها الرّزق من حيث لا تحتسب. وقد يصيبها مكروه في الطّريق أو تكون غذاء لأحد الحيوانات المفترسة. 
أمّا التّواكل، فهو ادّعاء الاتّكال على اللّه، مع ترك الأسباب، والرّكون إلى العجز، كما في حالنا اليوم. التّواكل، أن تهجر العمل، وتتقاعس، وتنتظر «معجزة» من السّماء دون أن تتحرّك، وتزعم أنّك متوكّل، وما أنت إلاّ متواكلٌ واهن. وقد قال النّبي ﷺ: «احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجز»(4). فمن جلس ينتظر تغيير الواقع بالدّعاء وحده دون سعي، فقد خالف سنن اللّه الكونيّة.
***
2. هناك مقولة مشهورة جدًّا يُنسب مضمونها إلى ابن تيميّة رحمه اللّه، حيث قال: «إنّ اللّه يُقيم الدّولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الدّولة الظّالمة وإن كانت مسلمة»، أي أنّ الدّولة العادلة، حتّى إن كانت غير مسلمة، قد تنجح وتُبارك في دنياها بسبب عدلها وحرصها على الحقوق والنّظام، والدّولة الظّالمة، حتّى إن رفعت راية الإسلام، فإنّها لا تنجو من سنن اللّه الكونيّة إذا ظلمت وأفسدت. لأنّ العدل أساس قيام الأمم، والظّلم سبب سقوطها مهما كانت ديانتها.وهذه سنّة من سنن اللّه في الكون. وقد أشار ابن خلدون أيضًا في المقدمة إلى هذه الفكرة، فقال: «الظّلم مؤذن بخراب العمران». ألم يقل اللّه عزّ وجلّ:﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(هود: 117)، فبيّن أنّ الإصلاح، وليس مجرّد الإيمان، هو شرط البقاء والاستقرار والنّصر؟ ألم يقل النّبي ﷺ:«إنّ النّاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم اللّه بعقابٍ منه»(5).فلننظر إلى مستوى العدل في دولنا العربيّة الإسلاميّة، وسنعرف حقّا سبب عدم استجابة اللّه لدعائنا مهما تضرّعنا إليه.
***
3. لم تُبنَ حضارة في التّاريخ إلاّ على أرضيّةٍ صلبة من التّماسك والوحدة، ولم تنهض أمّة قطّ وسط شقاق داخلي وصراعٍ مستمر بين أبنائها. إنّ وحدة الصّف ليست مجرّد شعار، بل هي قانون من قوانين اللّه في العمران، وسرّ من أسرار النّصر والتّقدّم. لقد علّمتنا دروس التّاريخ أنّ أعظم الحضارات سقطت حين تفكّك الدّاخل، لا حين هاجمها العدوّ. فكم من دولة عظيمة لم تسقط بحدّ السّيف، بل انهارت من داخلها حين تقاتل الإخوة، وتنازع الشّركاء، وغلبت الأهواءُ المصلحةَ العامّةَ. وفي القرآن الكريم جاء التّحذير الإلهي صريحًا:﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾(الأنفال: 46)، أي أنّ التّنازع يؤدّي إلى الفشل وذهاب القوّة والهيبة.
إن وحدة الصّف لا تعني إلغاء الاختلاف، بل تعني إدارة هذا الاختلاف بروح المسؤوليّة لا بروح الصّراع، وتقديم المصلحة العامّة على الأهواء والولاءات الضّيقة.فالحضارة تُبنى حين تتكاتف العقول وتتآلف القلوب وتتوحّد الطّاقات، وحين يُقدَّم البناء على الهدم، والتّفاهم على التّشظّي. أمّا وقد تقاذفت أمواج التّفرقة الشّعوب العربية الاسلاميّة وأنظمتها، واستنزفت طاقاتها صراعات عبثيّة، فإنّ نهوضها وتقدّمها وانتصارها على أعدائها يصبح أمرا مستحيلا حتّى وإن امتلأت المساجد بالمصلّين ولهجت حناجرهم بالدّعاء.
***
صحيح أنّ اللّه سبحانه قال:﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر: 60) وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..﴾(البقرة: 186)، لكنه في نفس الآية قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، وقال:﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد: 7)، فلا نصر بلا نصرة، ولا إجابة بلا عمل، ولا تغيير من السّماء لأمّةٍ رضيت بالهوان في الأرض.
إنّ دعاء الملايين من المسلمين العرب لا يُستجاب لا لأنّ اللّه غافل – حاشاه – بل لأنّ الدّعاء بلا عمل رجاءٌ ميّت، والدّعاء مع القلوب المتحجّرة، والضّمائر النّائمة، والعقول المغلقة، لا يرقى إلى ما وعد اللّه باستجابته. ليست المشكلة في الدّعاء، بل في حال الدّاعي. فلو صدق العمل، وخلصت النيّة، وُرفِع الظّلم، وانكسر الفساد، وتربّت الأجيال على الوعي والكرامة، لأصبح للدّعاء صوتٌ في السّماء، ولأمطرت الرّحمة وتبدّدت الغمّة. إنّ اللّه رؤوف رحيم بعباده المؤمنين، ولكنّه حكيم لا يُعطي النّصر لقومٍ لا يستحقّونه. فالسّماء لا تمطر كرامةً على من باعوا كرامتهم، ولا تمطر عزًّا على من رضوا بالذّلّ.
الهوامش
(1) رواه أبو داود 
(2) ولنا في معركتي بدر (اختيار موقع الجيش والسّيطرة على آبار الماء وردمها وتنظيم الصّفوف) والأحزاب (حفر الخندق والعمل على تفكيك مشروع التّعاون بين المشركين واليهود) أدلّة عن ما نقول.
(3) رواه الترمذي
(4) رواه مسلم
(5) رواه أبو داود والترمذي.