تطوير الذات
بقلم |
![]() |
محمد أمين هبيري |
قانون التّداول |
قانون التّداول، الذي يُعرف أيضًا باسم «قانون التّناوب» أو «قانون التّغيير»، يعتبر مفتاحًا أساسيًّا في فهم حركة التّاريخ وتطوّر الحضارات. وقد أسهم الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن خلدون بشكل كبير في تقديم تفسيرات لهذا القانون وفهمه. إذ يرى أنّ الحضارات والمجتمعات تتبع دورة طبيعيّة من النّمو والانحدار، وأنّ التّغيير هو الثّابت الوحيد في تلك الدّورة.
فكرة قانون التّداول فكرة فلسفيّة ترتكز على الفهم العميق للحياة والتّاريخ، فبدلاً من رؤية الأحداث على أنّها حوادث عشوائيّة، يرى ابن خلدون وغيره من الفلاسفة والمفكّرين أنّ هناك نمطاً ثابتاً يحكم تلك الأحداث. إنّه نمط التّغيير المستمر والتّبادل بين الفترات الزّمنيّة المزدهرة والفترات الصّعبة.
تعكس أهمّية قانون التّداول في فلسفة التّاريخ مدى تأثيرها العميق في طريقة تفكير الإنسان وتصوّره للمستقبل. فعندما يدرك الإنسان أنّ الشّدائد والتّحدّيات ليست دائمة، بل هي جزء لا يتجزّأ من دورة الحياة والتّاريخ، يتغلّب على اليأس ويتطلّع إلى الأمل. إنّ فهمنا لقانون التّداول يمنحنا الثّقة في أنّ الفترات الصّعبة ستمرّ وستليها فترات من الاستقرار والنّمو.
ومن خلال تطبيق قانون التّداول في فهمنا للتّاريخ، ندرك أنّ التّغيير ليس فقط حدثًا مفاجئًا، بل هو عمليّة طبيعيّة مستمرة. وهذا يحفّزنا على العمل الجاد والاجتهاد في تحسين أحوالنا وتطوير مجتمعاتنا، لأنّنا ندرك أنّ الأمور ليست محكومة بالقدر، بل يمكننا أن نؤثّر في توجّهها.
ألقى ابن خلدون، بفلسفته ومنهجه العلمي، الضّوء على أهمّية قانون التّداول في فهم الحضارات وتحليل التّاريخ، فهو لم يقتصر على وصف الأحداث التّاريخيّة بل حاول فهم القوى الدّافعة وراء تلك الأحداث، وهو ما يتماشى مع مفهوم قانون التّداول وتأثيره على مسارات التّاريخ.
باختصار، يُعتبر قانون التّداول أحد القوانين الأساسيّة في فلسفة التّاريخ، حيث يعلّمنا أنّ الحياة تتغيير وتتطوّر بشكل دائم، وأنّ التّحديات لا تدوم وأنّ الفرص لا تزال متاحة. إنّ فهمنا العميق لهذا القانون يلهمنا للعمل الجاد والمثابرة في سبيل تحقيق التّقدّم والنّمو، على ثقة بأنّ الأمور ستتغيّر إلى الأفضل.
يمكن تقسيم الموضوع إلى جزءين؛ الأول نخصّصه للحديث عن القانون في ذاته، أمّا الثّاني فللحديث عن القانون في موضوعه.
الجزء الأول: قانون التداول في ذاته
يمكن أيضا تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ الأوّل أساس القانون، والثّاني مرتكزاته.
العنصر الأول: أساس القانون
أساس قانون التّداول يتركز على مجموعة من الرّؤى الدّينيّة والفلسفيّة التي تبرز أهمّية التّغيير والتّبادل في حركة الحياة وتطوّرها. من النّاحية الدّينيّة، يجدر بنا النّظر إلى القرآن الكريم، حيث يتمّ تذكيرنا بقانون التّداول من خلال العديد من الآيات القرآنيّة، على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾(آل عمران: 140)، وهذه الآية تشير إلى أنّ اللّه يقلّب أحوال النّاس بطريقة دوريّة ومتبادلة، ممّا يؤكّد الأساس الدّيني لقانون التّداول.
من النّاحية الفلسفيّة، يركّز الفلاسفة على جوهر الوجود، ويؤكّدون على أنّ التّغيير هو جوهر الحياة نفسها. إذ يرون أنّ كلّ شيء في الكون يتغيير ويتطوّر بشكل دائم، وهذا يمثّل الأساس الفلسفي والجوهري لقانون التّداول. فمنذ العصور القديمة، قام الفلاسفة بدراسة التّغيير والتّبادل في الطّبيعة والمجتمع، ووجدوا أنّ هذا التّغيير هو ما يحدّد مسار الحضارات والثّقافات.
إنّ مفهوم قانون التّداول يتجاوز الإطار الدّيني والفلسفي، حيث يمكن رؤيته أيضًا في العديد من العلوم الطبيعيّة مثل علم البيئة والبيولوجيا التّطوريّة. فعلى سبيل المثال، يظهر قانون التّداول بوضوح في مفهوم «التّبادل البيولوجي»، حيث تتبادل الكائنات الحيّة الموارد والطّاقة مع بعضها البعض، وهذا التّبادل هو ما يدفع عمليّة التّطوّر والتّغيير في النّظم البيئيّة.
بشكل عام، يعتبر قانون التّداول أساسيًّا في فهم حركة الحياة وتطوّرها، سواء من منظور ديني، أو فلسفي، أو علمي. فهو يذكّرنا بأنّ الحياة تتبع دورة طبيعيّة من التّغيير والتّبادل، وأنّ فهم هذا القانون يمكن أن يساعدنا في تفسير الظّواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، وبالتّالي تحديد مسارات التّطوّر والتّغيير في المستقبل.
العنصر الثاني: مرتكزات القانون
تمثل المرتكزات أساس فهمنا لحركة الحياة وتطوّرها، وتعكس الطّبيعة الشّاملة والمتغيّرة للكون وكلّ ما فيه. الاهتمام بتلك المرتكزات يسهم في توجيه النّظرة نحو فهم أعمق لمفهوم قانون التّداول.
أحد أهم هذه المرتكزات التّدافع، الذي يشير إلى القوّة الدّافعة التي تدفع كلّ موجود في الكون نحو التّطوّر والارتقاء. هذا التّدافع يمكن أن يكون مصدره النّمو الذّاتي، حيث تسعى الكائنات الحيّة والأنظمة الطبيعيّة إلى تحقيق أقصى إمكاناتها والتّكيّف مع التّغيّرات في بيئتها. كما يمكن أن يكون مصدره الدّيناميّات الاجتماعيّة والثّقافيّة، حيث يحثّ التّنافس والتّبادل الثّقافي على الابتكار والتّطوّر.
التّغيير يمثّل مرتكزاً آخر في قانون التّداول، حيث يؤكّد على أنّه لا شيء يبقى على حاله، وأنّ كلّ شيء في الكون معرّض للتّغيير. هذا الفهم العميق للتّغيير يعكس الطّبيعة الدّيناميكيّة والمتغيّرة للكون والحياة. فالتّغيير هو القاعدة، والاستقرار هو الاستثناء.
من المرتكزات الأساسيّة الأخرى لقانون التّداول هو الاختلاف، حيث يشير إلى أنّه لا يوجد شيء متطابق تمامًا، وأنّ كلّ شيء في الكون فريد من نوعه. هذا الاختلاف يمتدّ من التّنوع البيولوجي إلى التّنوع الثّقافي، وهو ما يضفي على الحياة جماليّة وغنى. إنّ فهم هذا الاختلاف يساعدنا على قبول التّنوّع والاحترام المتبادل بين الثّقافات والمجتمعات.
باختصار، تعكس مرتكزات قانون التّداول الطّبيعة الدّيناميكيّة المتغيّرة للكون والحياة، وتساعد في فهم عمق العلاقات والتّفاعلات بين الأشياء والكائنات. إنّ الاهتمام بتلك المرتكزات يمكن أن يسهم في توجيهنا نحو اتخاذ القرارات الأفضل والاستجابة بفعاليّة للتّحديات والتّغييرات التي تواجهنا في الحياة.
الجزء الثّاني: قانون التّداول في موضوعه
يمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين؛ الأول مستلزمات القانون، والثّاني غياب القانون.
العنصر الأوّل: مستلزمات القانون
تتمثّل في الخطوات الضّرورية التي يجب اتخاذها للتّأقلم مع التّغييرات والاستفادة منها لتحقيق التّطوّر والتّقدّم في الحياة. الاستعداد القبلي يعني أنّنا يجب أن نكون مستعدّين نفسيًّا وعقليًّا للتّغييرات التي قد تحدث في حياتنا. فعندما نكون مستعّدين للتّكيف مع التّغيير ونقبل أنّه جزء لا يتجزّأ من الحياة، فإنّنا نمتلك القدرة على التّأقلم بسلاسة والتّكيّف مع الظّروف الجديدة.
من جانبه، يتطلّب اغتنام الفرصة منّا أن نكون على استعداد لاستغلال الفرص التي تأتي مع التّغييرات. عندما نكون مفتوحين لاستكشاف الفرص الجديدة وتحقيق أهدافنا من خلالها، فإنّنا نضمن استفادتنا الكاملة من قوّة التّغيير. على سبيل المثال، في سوق العمل، قد تتاح لنا فرص جديدة لتطوير مهاراتنا أو للتّقدم في مسارنا المهني. من خلال الاستعداد للاحتمالات الجديدة، يمكننا الاستفادة القصوى من هذه الفرص وتحقيق نجاحنا الشّخصي والمهني.
وفيما يتعلّق بالعمل البعدي، فإنّه يشير إلى الحاجة إلى الاستمرار في العمل الجاد والسّعي لتحقيق أهدافنا، حتّى بعد حدوث التّغييرات. فالتّغيير قد يتطلّب منا ضبط استراتيجيّاتنا وتعديل خططنا، لكنّه يجب ألاّ أن يوقفنا عن مواصلة العمل نحو تحقيق أحلامنا. على سبيل المثال، في حالة تغيير الوظيفة، قد نحتاج إلى تكييف مهاراتنا والبحث عن فرص جديدة للنّمو المهني. ومن خلال العمل الجاد والاستمرار في السّعي نحو أهدافنا، يمكننا تحقيق النّجاح حتّى في ظلّ التّغييرات الدّائمة.
باختصار، يعتبر الاستعداد القبلي، واغتنام الفرصة، والعمل البعدي أساسيّات للتّأقلم مع قانون التّداول والاستفادة منه لتحسين حياتنا وتحقيق أهدافنا. من خلال اتباع هذه الخطوات، نمكّن أنفسنا من التّكيف بشكل فعال مع التّغييرات والتّحوّلات التي قد تحدث في حياتنا، ونضمن استفادتنا الكاملة من قوّة التّغيير في تحقيق النجاح والرّضا الشّخصي.
العنصر الثّاني: غياب القانون
في غياب قانون التّداول، يمكن أن تسود الفوضى والتّخبّط، ممّا يؤدّي إلى نتائج سلبيّة في الأنظمة الاجتماعيّة والمؤسّساتيّة. فعندما ينفرد شخص ما بمكان الصّدارة دون وجود آليّات لتناوب السّلطة أو توزيع الفرص، فإنّه قد يسهل عليه التّسلّط والطّغيان على الآخرين.
على الصّعيد الأسري، على سبيل المثال، قد تؤدّي سيطرة أحد الأفراد بشكل كامل على صنع القرارات دون مشاركة الآخرين إلى تفكّك الأسرة وضعف العلاقات الأسريّة. قد يشعر الأفراد الآخرون بالإهمال والتّهميش، ممّا يؤدّي إلى زيادة الاحتقان والتّوتر داخل الأسرة. وبدون وجود توازن وتناوب في صنع القرارات، قد تفقد الأسرة اتزانها وتتّجه نحو الفوضى والانحدار.
أمّا في الشّركات، ففي غياب قواعد تنظيميّة تتّبع مبدأ التّناوب وتوزيع السّلطة، قد يستغل الرّؤساء التّنفيذيّون أو المديرون العامّون موقعهم لتحقيق مصالحهم الشّخصيّة على حساب المصلحة العامّة للشّركة وموظفيها. قد يتجاهلون آراء الموظّفين الآخرين ويقومون باتخاذ القرارات بشكل انفرادي، ممّا يؤدّي إلى فقدان الثّقة والرّوح الجماعيّة داخل الشّركة فيتدهور الأداء العام.
بشكل عام، يظهر أنّ غياب قانون التّداول يفتح الباب أمام الاستبداد والتّسلّط، ويقلّل من الشّفافيّة والعدالة في عمليّة صنع القرار. لذلك، تبرز أهمّية وجود آليّات لتوزيع السّلطة وتناوبها في المؤسّسات الاجتماعيّة والمنظّمات لضمان استمراريّة الدّيمقراطيّة والعدالة في الحكم.
|