شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
د.طلال أسد
 طلال أسد، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة مدينة نيويورك، عالم متخصّص في علم الإنسان وأنثروبولوجيا الدّين والثّقافة وله إسهامات مهمة عديدة في الدراسات المتعلقة بما بعد الاستعمار، والمسيحية والإسلام والدراسات الدينية الأخرى وله جهود في دراسة العلمانية من خلال علم الإنسان.  وُلد سنة 1932 في المدينة المنورة لأب يهودي نمساوي اعتنق الإسلام (الدبلوماسي الشّهير محمّد أسد، وكان اسمه السّابق ليوبولد فايس Léopold Weiss) وأمّ سعوديّة، ونشأ في بيئة تعدديّة في الهند وباكستان حيث طبعت تطوّرات منعرج النّصف الثّاني من القرن العشرين مساره الشخصي. وبالفعل، فقد شقّ طلال أسد طريقه نحو العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في خضمّ عالم يخوض غمار التخلّص من الاستعمار، بعد أن حاول دراسة الهندسة المعماريّة. وقد بدأ دراساته في الإناسة في جامعة أدنبرة، قبل أن يناقش في أكسفورد أطروحة دكتوراه حول قبيلة الكبابيش في السّودان تحت إشراف إدوارد إيفانز بريتشارد (Edward Evans-Pritchard). وقد ركّز في أطروحته على البنى الاستعماريّة ودورها الرّئيسي في الانتظام السّياسي للقبائل المحليّة. وقد بدأ موقفه النّقدي تجاه الإناسة الدّوركايميّة، السائدة حينها في بريطانيا، يتّضح منذ تلك الفترة. 
من أهم أعمال«طلال أسد»، كتابه الصّادر بالإنجليزية عام 1993 بعنوان «جِنيولوجيا الدّين» Genealogies of Religion، وفيه مقارنة هامّة بين المسيحيّة والإسلام من حيث أساليب الضّبط الاجتماعي والسّلوك الفردي. واعتبر فيه أنّ الدّين خضع لإعادة تكييف واسعة في المجتمعات الغربيّة الحديثة التي حوّلته إلى اعتقاد فردي ذاتي ليست له انعكاسات على الحياة الأخلاقيّة الجماعيّة، بما يتناسب مع النّظم العلمانيّة التي أخرجت الدّين من الشّأن العمومي. وهو فهم ينتقده طلال أسد بشدّة، باعتبار أنّ الإسلام هو في الأساس دين جماعي، يخاطب الأفراد ضمن أمم وملل، وتتعلّق بعض أحكامه بالجماعات وليس الأفراد وحدهم.
واصل «طلال أسد» في كتابه «ترجمات علمانيّة» التّأصيل الأنثروبولوجي لمنهجيّة الاستكشاف التي طوّرها في كتابيه «جِنيولوجيا الدين» و«تشكُّلات العلماني»، وتقوم منهجيّة الاستكشاف على تفضيل المعالجة غير المباشرة لتاريخ الأفكار من أجل تجاوز الخطابات السّجالية التي تُغلق باب الاجتهاد وتُحدّد نتائج البحث قبل الشّروع فيه.
درس «طلال أسد» العلمانيّة من منطلق «نقدي تفكيكي للخطابات والممارسات التـي ساهم تطوّرها في تشكيل سرديّات الحداثة، وما بعدها»، وعبر طرح  أسئلة وافتراضات متعلّقة بها، من بينها بحثه في العلاقة بين العلماني والعلمانيّة، ومعنى أنثروبولوجيا العلمانيّة، وإن كان من الممكن فهم «العلمانيّة» قبل فهم «الدّين». فبالنسبة إلى سؤاله حول مفهوم «العلماني»، فقد بحث «طلال أسد» فيه «كإمكانيّة إنسانيّة وتاريخيّة تظهر في السّياسة والدّين والأخلاق وحقوق الإنسان والقوميّة»، ويرى أنّ «العلماني» لا يمكن أن ننظر إليه كنقيض للدّين أو وريث له. 
تتطلّع العلمانيّة إلى تطبيق تصوّرها الخاصّ للوجود، فلا تقنع بإعادة تعريف ممارسات الذّات في سياقاتها الطّبقيّة والدّينيّة وأدوارها الاجتماعيّة، ولا تقنع بتقييد المعتقد الدّيني والممارسة الدّينية في فضاء خاصّ بحيث لا يستطيع الدّين تهديد السّلطة السّياسيّة أو حرّيات المواطنين، بل تبني العلمانيّة نفسها على تصوّر خاص للعالم، وتحاول ترجمة «الديني» بلغة العقل العلماني أو «العقل الحسابي»، وتعيد بذلك رسم خرائط تصوّر الوجود وإدراكه.
تكمن الخطورة هنا -حسب «طلال أسد»- في إغفال فكرة عدم قابليّة ترجمة «الديني»، حيث يختزل العقل العلماني «الإيمان» إلى مقولة معرفيّة، ويحاول العقل الحسابي ترجمة التّجربة الشّعوريّة الدّينية المركّبة بلغة الحساب والأرقام، ويترتّب على ذلك بالضّرورة تشييء فكرة «الدين»، و«الشريعة»،  و«الشّعائر».
ويستكشف «طلال أسد» مشروع الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس» الذي يدافع عن الانفتاح المعرفي من خلال الانتقال من العلمانيّة إلى «ما بعد العلمانيّة»، بمعنى إمكانيّة التّرجمة من اللّغة الدّينيّة (الخاصَّة والغامضة) إلى اللّغة العلمانيّة (العالميّة والواضحة)، ويرى «طلال أسد» في هذا المشروع هدفاً نبيلاً يتمثّل في تقوية السّياسة اللّيبرالية بالدّفاع عن تعدُّدية علمانيّة دينيّة، لكنّه لا يعترف إلاّ بالدّين اللّيبرالي وفق التّصوّر العلماني: «فليست التّرجمة مجرَّد طريقة لتحقيق المساواة بين المواطنين الدّينيين وغير الدّينيين، بل إنّها أيضاً الوسيلة التي يستطيع من خلالها العلماني أن يزعم بأنّه الوريث الحقيقي للوظيفة الصّحيحة للدّين في الدّولة الحديثة».
تقود منهجيّة الاستكشاف «طلال أسد» إلى أعمال أبي حامد الغزالي، وبخاصّة كتاب «إحياء علوم الدين»، فيتناول فكرة النّية والإرادة في الشّريعة الإسلاميّة، ويكشف عن قصور التّرجمات الإنكليزيّة لهذه الفكرة، بل وعدم قابليّة ترجمتها في إطار التّفسيرات العلمانيّة للفعل، كما يتطرّق إلى اختلاف الشّريعة الإسلاميّة عن القانون العلماني.
وفي موقفه من «حركات الإحياء الإسلامي» يؤكّد «طلال أسد» أنّ الحركات الإسلاميّة بنوعيها العنيف واللّيبرالي أو المعتدل التي ظهرت في القرن التّاسع عشر. تشكّل صِيَغاً للتّلاؤم مع واقعة أنّ الدولة لديها طموحاتٌ لإعادة تكوين القضايا وإدارة النّاس معاً، فيما يتعلّق بحياتهم وموتهم على حدٍّ سواء. وهذه الأمور كانت في الأصل من اهتمامات جهات أُخرى، ومن ضمن تلك الجهات ما يمكن تسميته بالدّيني. أمّا الآن فهناك هيئةٌ سياسيةٌ واحدةٌ: الدّولة الوطنيّة الحديثة، التي تريد أن تتولّى هذه الأمور كلَّها. والحركات الدّينية الرّاديكاليّة والأُخرى ذات التّوجهات اللّيبرالية تعبّران عن نوعين من «التّلاؤم» مع الدّولة الحديثة. ورهانهما بشكلٍ أساسي على الدّولة، باعتبارها المركز السّلطوي الذي يقرّر في أمورٍ كثيرة وبطرائق كانت في السّابق غير مقنَّنة أو مُدارة، غير أن لكلّ منهما أسلوبه وطريقته. وفي كلتا الحالتين يعتبر «طلال أسد» أنّهما حركات عصريّة وحديثةٌ، فلديهما كلّ أنواع التّقنيات ووسائل الاتصال، والصِيَغ العلميّة للمعرفة. وهما يستخدمانها (الوسائل الإلكترونيّة للتّواصل، والمناهج العلميّة للمعرفة، وكلّ الأدوات والوسائط التي يمكن اكتساب المعرفة من طريقها ونشرها). ولذلك يكون  صحيحاً القول-حسب «طلال أسد»- أنّ هناك أبعاداً لهذه الحركات تتشكّل بطرائق عصريّة. بالإضافة إلى أنّها تستند إلى مواريث إصلاحيّة وأُخرى لإعادة التّفسير سَرَتْ عبر التّاريخ القديم- تاريخ الاختلاف، والجدال والاشتباك الجسدي. وهذه مسائل يُعاد إظهارُها وعرضُها بأساليب جديدة.