بحوث

بقلم
م.لسعد سليم
«الكبائر الفرعيّة» تعدّي حدود الله-الصّلاة في حالة سكر أو جنابة- قرب النّساء في المحيض- قرب المشركين
  تطرّقنا في الحلقة السّابقة إلى الكبائر التي ورد النّهي عنها في السّور المدنيّة بصيغة «التّحريم»: أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه، صيد البرّ (للمحرم)، أكل الرّبا وزواج المحارم، ونواصل البحث في هذه الحلقة في الكبائر التي وردت في السّور المدنية بصيغة «و لا تقربوا»: وهي حدود اللّه-الصّلاة في حالة سكر أو جنابة -إتيان النّساء في المحيض-دخول المشركين للمسجد الحرام
فصيغة «و لا تقربوا» ذكرت أوّل مرّة في سورة الأعراف بمكة (السّنة الثّانية من البعثة) وذلك في سياق نهي اللّه جلّ جلاله لآدم و زوجه عن الأكل من الشّجرة: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأعراف: 19)، ثمّ وردت في سورة الإسراء (السّنة الخامسة من البعثة) ومن بعدها في سورة الأنعام (السّنة السابعة من البعثة) محرّمة الكبائر الأساسية: الزّنا والفواحش وأكل مال اليتيم.
- ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا* وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾(الإسراء: 32-34)
- ﴿...وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدهُ ...﴾(الأنعام: 151-152)
فصيغة عدم القرب كانت ترد في السّور المكّية لتحريم كبيرة من الكبائر كما بيّنا في بحوثنا السّابقة (1) والتي هي سبب في شقاء الإنسانيّة وبالتّالي انحطاطها ومن ثمّ تخلّفها، فاستحقت بذلك غضب اللّه عزّ وجلّ وعذابه في الآخرة: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ﴾(طه: 117) و﴿فأما ٱلَّذِينَ شَقُوا فَفِى ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾(هود: 106)
و الأمر من اللّه عزّ وجل بعدم القرب، وإن دلّ على التّحريم كباقي صيغ النّهي السّبع التي وردت في القرآن الكريم (2) إلّا أنّه دلّ أيضا على وجوب الابتعاد عن كلّ ما يقرب من هذه الكبائر حتّى لا يقع فيها. فالأمر بعدم القرب هو إشارة إلى صعوبة تجنّب الوقوع في هذه الكبائر، وصعوبة التّجنّب هذه تنقلب إلى استحالة التّجنب أصلا وذلك لخصائص الإنسان الفطريّة، وبالتّالي الوقوع فيها وهي التي وعد اللّه مقترفها بالعذاب الشّديد نتيجة الفساد التي تحدثه في الأرض.
ولنا عبرة في قصّة أبينا آدم وزوجه مع الشّجرة المحرّمة كما وردت في القرآن الكريم، فهما أوّل من أمرهم اللّه بعدم القرب (الشجرة): ﴿.. وَلَا تَقْرَبَا هَٰذهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأعراف: 19). فمعصية آدم للّه هي أيضا معصيتنا نحن البشر للّه عزّ وجلّ عبر إشباع الغرائز بالطّريقة الخطأ (مخالفتنا للثّابت من محكم القرآن) اتباعا للهوى والشّهوات، وبالتّالي الأكل من الشّجرة المحرّمة تكرارا ومرارا، ومع تفشّي المعصية (إباحتها) على المدى البعيد تكون العاقبة الانحطاط والتّخلّف وخراب العمران، فيحق بذلك علينا عذاب اللّه في الآخرة. 
ولا يدلّ الأمر بعدم القرب على «النّهي عن فعل شيء بعيد عن متناول اليد» كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين في الفكر الإسلامي(3). فباستقراء كلّ الحالات الستّ (مع حالة سيدنا آدم و زوجه) التي ورد النّهي عنها في القرآن الكريم بصيغة عدم القرب(4)، يتبيّن أنّ هذه الكبائر تكون عند البعض في متناول اليد ولا تكون كذلك عند البعض الأخر، إنّما الأمر بعدم القرب هو إشارة إلى صعوبة تجنّب الوقوع في المحرّم كلّما اقترب منه الإنسان أكثر كما ذكرنا سابقا. 
وقصّة سيدنا يوسف هي أيضا من الأمثلة التي جاء النّهي عنها بصيغة عدم القرب (الزّنا): ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(الإسراء: 32)، فرغم المحاولات التي قامت بها امرأة العزيز لدعوة يوسف لمعاشرتها إلاّ أنّه أعرض عنها، لإدراكه لشناعة فاحشة الزّنا: ﴿وَرَٰوَدَتْهُ ٱلَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَٰبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّىٓ أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾(يوسف: 23)، ولكن حينما همت به في أجواء الفاحشة تلك، فالأبواب مغلقة وهي متهيئة للجماع، همّ هو بها أيضا لولا أن نجّاه اللّه برؤية برهان سيّده (أيّا كان هذا البرهان): ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَآ أَن رَّءَا بُرْهَٰنَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ﴾(يوسف: 24). إلاّ أنّه مع إصرار امرأة العزيز على معاشرته، وحتّى لا يقع في هذه الفاحشة (فهو بشر كباقي الرّسل) كان لا بدّ من الابتعاد كلّيا عن تلك المرأة حتّى ولو كان ذلك يعني السّجن: ﴿.. قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ﴾(يوسف: 33).
وهنا لا بدّ من الإشارة أنّ مساعدة اللّه سبحانه لسيّدنا يوسف ليست خاصّة به وحده، بل هي إخبار عن مساعدة اللّه عزّ وجل لكلّ مؤمن يتقرّب للّه بالطّاعات وخاصّة الصّلاة التي هي من أهمّ الأدوات التي تساعد على الابتعاد عن الكبائر وخاصة الزّنا: ﴿..وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..﴾(العنكبوت: 45) (5).
فهذا الابتعاد يتطلّب ترك كلّ الأفعال التي تقرّب الإنسان من هذه الكبائر الستّ التي وردت في القرآن الكريم (الزّنا/الفواحش-أكل مال اليتيم-حدود اللّه-الصّلاة في حالة سكر أو جنابة-إيتاء النّساء في المحيض-دخول المشركين للمسجد الحرام) وهذه الأفعال تتغيّر حسب المكان والزّمان، فكان لزاما على الفرد أو المجموعة تنظيمها وتقنينها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. وهذا التنظيم والتقنين يحدّده كل شخص لنفسه بدون تدخّل أيّ طرف آخر إذا كان هو المعني بعدم قرب كبيرة من هذه الكبائر (فلا حاجة لفتوى واجتهاد) ويكون جماعيّا إذا ما تعلّق الأمر بالمجموعة ككلّ (من طرف أخصائيّين لا «فقهاء»)، ولا يكون له صفة القدسيّة، فهو يتغيّر حسب الزّمان والمكان ولكن وجب اتباعه والتّقيد به للمصلحة العامّة، ويجب أن لا يكون على حساب فئة من فئات المجتمع (والتي تكون عادة الأضعف)، فيعمّ الظّلم والفساد كما حصل للمجتمعات الإسلاميّة عن طريق الحكّام مستعينين بالمنظومة الفقهيّة التّقليديّة التي استعبدت المحكوم من طرف الحاكم والمرأة من طرف الرّجل والفقير من طرف الغنيّ، إلخ...
فقد أقحمت هذه المنظومة الفقهيّة، والتي بدأت في الظّهور في القرن الثالث الهجري، هذه الأفعال في الحيّز الدّيني بإعطائها أحكاما إلهيّة من تحريم وتحليل بحجّة أنّها أفعال الرّسول ﷺَ والصحابة من طرف المذاهب السّنّية (آل البيت والأئمة بالنّسبة للشّيعة)، ثمّ تضخّمت المنظومة فصار «الفقهاء» أنفسهم يحلّون ويحرّمون بناء على قواعد وضعوها بأنفسهم (خاصّة القياس) وما ظهور المذهب الظّاهري لابن حزم الأندلسي (القرن 5ه) ومحاربته لهذا الأمر ودعوته إلى الرّجوع إلى النّص الدّيني وحده إلاّ دليل على الوضع المأساوي الذي وصل إليه الفكر الدّيني عند المسلمين والذي هو سائد إلى يومنا هذا في البلدان الإسلاميّة، ويمثّل عائقا من العوائق التي تحول دون الإصلاح وبالتّالي نهضة المسلمين من جديد.
1.  القرب من حدود الله
أوّل ما أمر اللّه جلّ جلاله به المؤمنين بعدم القرب منه في المدينة، هو الجماع والأكل والشّرب أثناء الصّيام، وهو في نفس الوقت الحدّ الأول من حدود اللّه الستّة التي وردت في القرآن الكريم (وهي كلّها مدنية): منع الجماع والأكل والشّرب أثناء الصِّيَام/منع أخذ ممتلكات الزّوجة بعد الطّلاق/لزوم زوج آخر للتّراجع بعد الطّلاق الثّالث/تحديد الميراث مع الوصيّة/منع إخراج المطلّقة من بيت الزّوجية/كفّارة ظهار الزّوجة(6).
وهذه الحدود الستّة كلّها تتعلّق بالعائلة (الرّحم) وحقوق الزّوجة والمطلقة وأحكام الميراث، وكلّ آياتها كما ذكرنا نزلت في المدينة أي تحتاج الى سلطان لتطبيقها وجعلها أساسا لقوانين وضعيّة(7) تنظّم الزّواج والطّلاق وتكون ملزمة للعامّة. وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بأن لا يقربوا/لا يتعدّوا هذه الحدود، ووصف من يتعدّاها بالظَّالم وتوعّده بالعذاب المُهِينٌ وبالخلود في النّار: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(النِّسَاءِ: 14).
وقد وقع تغييب كلّ هذه الحدود (كما وردت في القرآن الكريم) في موروثنا الفقهي واستبدلت بالعقوبات  وأعطيت في كتب التّراث المذهبيّة مكانة ثانويّة تكاد تكون منعدمة رغم تأكيد القرآن على ذلك وخاصّة الآية 229 من سورة البقرة (والتي وجب أن يطلق عليها أسم آية الحدود) حيث ذكرت كلمة حدود 4 مرّات من جملة 18 في القرآن كلّه (8). وقد نتج عن هذا التّغييب إبعاد أحكام قرآنيّة محكمة في مسائل المواريث وخاصّة الطّلاق التي شملته ثلاثة من الحدود الستة، ووضعت «اجتهادات» مخالفة لما أمر اللّه في كتابه الكريم، فصار الطّلاق يتمّ بقول الرّجل لزوجته «أنتِ طالق» بل حتّى الطّلاق الثّالث والذي يحرم بعده ردّ المرأة  إلاّ بعد أن تتزوّج من رجل آخر، جعلوه ممكنا في مناسبة واحدة «أنتِ طالق بالثّلاثة». وازداد الأمر سوءا مع مرور الزّمن وتضخّم المنظومة «الفقهيّة» وابتعادها عن كتاب اللّه وجعل آراء الفقهاء «أحكاما إلهيّة»، حتّى صار الطّلاق أسهل من بيع بضاعة أو شرائها في السوق، وفقدت المطلّقة جلّ حقوقها فكانت النّتيجة دمار العائلة وبالتالي المجتمع، وهذا كلّه بمباركة الفقهاء/القضاء «الشّرعي»، في نفس الوقت قيّدت المرأة في تنقّلاتها الخارجيّة بدعوى «تحريم الاختلاط» تجنّبا «للفتنة»، الأمر الذي تبعه حرمانها تدريجيّا من حقّها في الميراث.
فكانت ثلاثيّة التّسلّط على المرأة بتقييدها ومن ثمّ حرمانها من حقوق: الطّلاق/الميراث/الحياة العامّة (الثابتة بآيات قرآنيّة محكمة) سببا في جعلها موضع  اضطهاد خاصّة كزوجة أوبنت أو أخت ممّا أدّى إلى عرقلة تقدّم المجتمع وتخلفه(9) بدعوى أنّ «الشّريعة الإسلاميّة» أمرت به والإسلام منها براء.
2. القرب من الصّلاة في حالة سكر أو جنابة
إقامة الصّلاة هي أساس (وأمارة) الإيمان باللّه ويوم البعث ومحور كلّ الرّسالات. فالدّوام والحفاظ على الصّلاة يقوّي الصّلة بالخالق ويساعد المؤِمن على القيام بما فرض اللّه والابتعاد عمّا نهى عنه، خاصّة الفواحش:﴿ ..إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..﴾(العنكبوت: 45). فهي أداة فعّالة للذّكر والتذكّر، تجعل المؤمن قريبا من خالقه حتّى يساعده ويسانده في الصّبر على المحرّمات والقيام بالفرائض .
فقد توالت الآيات التي تدعو الى إقامتها منذ أوّل بعثة الرّسولﷺَ، متوعّدة تاركها بأشدّ العذاب، ومبشّرة من يقيمها بالثّواب(10)، وقد تواصل الأمر بالصّلاة والمحافظة عليها حتّى آخر المرحلة المكّية، حتّى تكون زادا للمؤمنين وهم مقبلون على الهجرة إلى المدينة. وأمام هذا التّأكيد والتّذكير، صارت أهمّية الصّلاة بالنّسبة للمسلمين أمرا بديهيّا، لا يغفل ولا يتكاسل عنه أحد إلاّ وصار عرضة لتهمة النّفاق: ﴿إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓا إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾(النساء: 142). فأقبل الجميع في المدينة المنوّرة على القيام بهذا الفرض، وخاصّة صلاة العشاء، فكان البعض يقوم للصّلاة وهو في حالة سكر (فاللّيل هو الوقت الطّبيعي لتناول الخمور)، فنزل قوله تعالى في سورة النّساء (السنة الخامسة للهجرة)، ليأمر المؤمن بعدم قرب الصّلاة في حالة سكر، لأنّه في هذه الحالة لا يعلم ما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ....﴾(النساء: 43). وبالتّالي وجب على المسلم الابتعاد عن كلّ ما يقرّبه من هذا الوضع حتّى لا يقع في هذه المعصية، فالمرء لا يتجرّأ على الوقوف أمام قاض أو حتّى رئيسه في العمل وهو في حالة سكر، فما بالك وهو يقف بين يدي اللّه سبحانه. 
وفي نفس الآية يأتي الأمر من اللّه عزّ وجل بعدم قرب الصّلاة والإنسان في حالة جنابة إلاّ بعد أن يتطهّر ويغتسل، أي يزيل بالماء ما علق به نتيجة الغائط أو الجماع كما بيّنت الآية الكريمة، مرخّصا استعمال الرّمل/التراب في حالة عدم توفّر الماء أو في حالة المرض: ﴿....وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾(النساء: 43)، ثم تنزل سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، ليذكّر اللّه عزّ وجلّ مرّة أخرى بوجوب غسل ما علق بالإنسان نتيجة الغائط أو الجماع مع زيادة عنصر جديد وهو غسل الوجه واليدين (إلى المرافق) والمسح بالوجه والأرجل (إلى الكعبين) وذلك عند القيام للصّلاة (كل صلاة): ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ..﴾(المائدة: 6)
3. قرب  النّساء في المحيض
ومن أسس النّظافة (الطّهارة) أيضا أمر اللّه عزّ وجل بعدم قرب النّساء عند المحيض (العادة الشّهريّة) حتّى لا يقع الجماع وبالتّالي الأذى البدني:﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة: 222)، وهذا الأمر بالغسل والطّهارة مع عدم القرب من النّساء عند المحيض، ليس بالشّيء الجديد على البشريّة، شأنه كشأن إقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة وتجنّب كلّ الكبائر الأساسيّة الإثنى عشرة، فهو من أسس الدّين القيّم الذي دعا إليه كل الرّسل. 
والنّظافة من أسس الحضارة وهي شرط أساسي للصّحة البدنيّة وبالتّالي سلامة المجتمع. وعلى هذا الأساس وبالرّغم من ندرة المياه (خاصة في المناطق الصّحراويّة) أمر اللّه بالطّهارة وقرنها بالصّلاة، التي تقام بشكل جماعي عدّة مرّات في اليوم الواحد ممّا يؤكّد دور الطّهارة في تجنب العديد من الأمراض خاصّة المعدية منها. وكما ذكرنا، كانت الرّسل تدعو إلى ذلك قبل التّقدّم العلمي للبشريّة أي قبل إدراكها لأهمية النّظافة كعامل وقائي ضدّ تفشي الأمراض، فصدق قوله سبحانه في رسله أنّهم رحمة للعالمين (أي دعاة للإصلاح وبالتّالي للنّهضة المستديمة). 
وإزالة ما علق بالإنسان بعد الغائط أو الجماع (مع غسل الوجه واليدين والمسح على الرّأس والرّجلين) مع عدم القرب من النّساء عند المحيض، هو الحدّ الأدنى للطّهارة (النّظافة) الذي يجب على الإنسان القيام به، وكلّ زيادة على ذلك بأن يغسل الإنسان مثلا كل بدنه أو يغسل وجهه أو رجليه لغير صلاة إلخ، فذلك متروك للإنسان نفسه يحدّده  حسب الحاجة،ويجب في ذلك مراعاة متطلّبات هذه الأحكام وعادات وتقاليد كلّ منطقة (المصلحة العامّة) مع عدم دخولها تحت الإطار الدّيني حتّى تكون محدّدة بالزّمان والمكان أي قابلة للتّغيير والتّعديل وتتبناها المجموعة حسب الحاجة. وعدم دخولها تحت الإطار الدّيني لا يعني الضّرب بها عرض الحائط بدعوى أنّ اللّه لم يأمر بها، الأمر الذي كان العديد من المسلمين يتّخذونه حجّة لرفض العديد من الأمور التي توجبها الفطرة السّليمة، ممّا أدى إلى ردّة فعل «الفقهاء» بوضع أحكام «دينيّة» تغوص في تفاصيل دقيقة تتعلّق بالنّظافة والطّهارة حتّى صارت كتب الطّهارة في«الفقه» الإسلامي تشغل حيزا كبيرا منه. 
4. قرب المشركين من المسجد الحرام
آخر ما أمر اللّه بعدم القرب منه يتعلّق بعلاقة المشركين بالمسجد الحرّام، وذلك في آخر ما نزل من القرآن في سورة التّوبة:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ...﴾(التوبة: 28). وفي هذا أمر واضح بمنع المشركين، أي من يحمل فكر تعدّد الآلهة، من القرب من المسجد الحرام، وعلى هذا الأساس وجب منعهم من دخول الجزيرة العربيّة على أقل تقدير، فليس هناك مجال للتقارب بين التّوحيد باللّه والشّرك به عزّ وجل، وهو ما يعني أيضا منع التّرويج لأفكار الشّرك أيّا كانت الوسيلة (صحافة/إذاعة الخ...)(11).
وكما ذكرنا في أول بحثنا في الكبائر(12)، فإنّ الشّرك باللّه عزّ وجل هو أكبر ظلم لما يترتّب عنه من فساد في الأرض. فهو آخر أداة تلجأ إليه الفئة النّافذة للسّيطرة على المجتمع واستعباده وذلك من خلال محاربتها للتّوحيد. وعلى هذا الأساس كان اللّه يبعث الرّسل في كلّ مرّة لمواجهة هذا الشّرك، إلاّ أنّه وفي كلّ مرّة يقع تحريف مضمون رسالة التّوحيد كمرحلة أوّليّة، ليبلغ الأمر ذروته في إلغاء التّوحيد وإعلان الشّرك دينا أوحدا.
وقد أخبرنا اللّه عزّ وجلّ عن هذا التّدافع المتسلسل بين الشّرك والتّوحيد، وإرساله الرّسل في كلّ مرّة لإبلاغ رسالة التّوحيد وما تطلّبه من إصلاح في الأرض ومحاربة للفساد. فكان قوم عاد خلفاء من بعد قوم نوح، ثمّ ثمود خلفاء من بعد عاد، الخ...وصولا إلى فرعون وملئه الذين رفعوا راية الشّرك عندما وصلت مصر إلى أوج قوّتها، فاستعبدت الموحّدين في تلك الفترة (بنو إسرائيل) الذين كان آباؤهم الأوّلون (ومنهم سيدنا يوسف) سببا أساسيّا في نهضة مصر وإنقاذها من الهلاك(13)
فكان لزاما على المسلمين وضوح هذه الرّؤية، أي أنّ أساس الدّين هو تطبيق أحكامه (الثّابتة قطعا من محكم القرآن) في الدّاخل ومحاربة الشّرك في الخارج. هذه الرّؤية كانت واضحة ومجسّمة على أرض الواقع حتّى القرن الثالث هجري (3ه)، حيث بلغت بلاد الإسلام أوج توسّعها. لكنّ بعد ذلك بدأ الانكماش وانشغل المسلمون بالصّراعات الدّاخليّة التي زاد من حدّتها ظهور المذاهب «الإسلاميّة» وتفشّيها بإرادة من الفئة الحاكمة للسّيطرة والانفراد بالحكم، فوقع تحريف هذه الأحكام الأساسيّة (الكبائر) بالتّشويش عليها عن طريق اجتهادات بعض «الفقهاء» وفتاويهم، حتّى صارت قضيّة كـ«خلق القرآن» موضوعا يشغل جلّ أجهزة الدّولة الإسلاميّة وتُقطع فيها الرّقاب، ناهيك عن جعل قضايا تتعلّق بالطّهارة وكيفيّة الصّلاة وصحّتها من عدمها من أسس البحوث الفقهيّة، تدوّن فيها عشرات الكتب «الفقهيّة» منشغلين بذلك عن القضايا الأساسيّة للإصلاح والنّهضة. 
الهوامش
(1) «الكبائر في القرآن الكريم(1)» و(2)»، مجلّة الإصلاح عدد 206 و 208 
(2) التحريم/عدم القرب/ الكتابة/الاجتناب/الأمر/النهي/الوصية 
(3) «نحو أصول جديدة في الفقه الإسلامي» للباحث محمد شحرور 
(4)  يقوم منهجنا في البحث في القرآن الكريم على 3 عناصر:  ترتيب نزول القرآن الزمني (ترتيله) واستقراء كل ما ورد في القرآن لموضوع البحث (شمولية البحث) وتبيان القرآن بالقرآن وحده (اعتماد على اللغة العربية) 
(5) انظر: «فاحشة الزنا في القرآن الكريم» الإصلاح عدد201 
(6) لمزيد من التفصيل أنظر مقالنا «الحدود في القرآن الكريم»، مجلّة الإصلاح عدد189، ص.ص 46-48 
(7) هذه القوانين الوضعيّة وإن كانت ملزمة لا تكون لها صفة دينيّة وبالتّالي تتغيّر حسب المكان والزّمان. وهناك العديد من الإشارات أنّ هذا التّوجه كان سائدا في صدر الإسلام حتّى (القرن 3 ه)، ولكن وقع تغييب هذا التّيار تدريجيّا بظهور المذاهب القائمة على السّنن وأتلفت كتبه ومخطوطاته بقوّة السّلطان (خاصّة ما يتعلّق منها بالخوارج والمعتزلة) الأمر الذي أدّى إلى بداية انحطاط وتخلّف المسلمين (القرن 5ه)
(8) يقول تعالى:﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(البقرة: 229).
 
(9) بالمقابل وعوض القيام بالإصلاح، يقع الآن في العديد من البلدان الإسلاميّة التّساهل في قضايا الطّلاق والتّشجيع على تشغيل المرأة خارج الإطار العائلي مع غضّ الطّرف عل العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزّواج، الأمر الذي أدّى إلى العزوف عن الزّواج وتفكيك منظومة العائلة/الأسرة (الرحم)
(10) لمزيد من التفصيل أنظر مقالنا «الكبائر في القرآن الكريم(5) عدم إقامة الصلاة، عدم إيتاء الزكاة، السّرقة» بمجلّة «الإصلاح» عدد 211، ص ص 104-112
(11) يلاحظ في الفترة الأخيرة تنامي مواد دعائية للهندوسية، خصوصا بعد السماح لهم ببناء معابد للشّرك بالله في الجزيرة العربية, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
(12) لمزيد من التفصيل أنظر مقالنا «الكبائر في القرآن الكريم، الجزء الأول: الشّرك بالله/قتل النّفس/الفواحش» بمجلّة «الإصلاح» عدد 206، ص ص 90-98
(13) استلام سيدنا يوسف لقيادة مصر (الماليّة) بعد أن نبّأهم بقدوم السّنين السّبع العجاف وأعطاهم الحلّ المناسب لذلك، تزامنا مع ثبوت براءته من تهمة مراودة امرأة العزيز : «قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوٓءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْـَٰٔنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا رَٰوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (51) .....(53)وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54)قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)»يوسف