في الصميم
بقلم |
![]() |
نجم الدّين غربال |
مَلاَمِحْ نِظَامٍ مَالِي قَوِيٌّ ومُنْصِفْ 2 - تطوّر النّظام المالي السّائد |
تمهيد
مواصلة للجهد الفكري الذي ما فَتِئَ يبذله منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل، نواصل عرض بحث لنا عن ملامح نظام مالي قويّ ومنصف يضمن تدفّق الأموال، تحريكا للنّشاط الاقتصادي وإقامة للأعمال لكلّ القادرين على النّشاط الاقتصادي، ومن ثمّة وضع حدٍّ لظواهر عدم الإدماج والاقصاء والتّهميش وامتصاصا للبطالة الّتي ما فَتِئَتْ معدّلاتها تزداد نتيجة للرّكود الاقتصادي، ومعالجة للفقر ومظاهره المُستشرية وتداعياته الخطيرة.
وبعد عرضنا للخلفيّة الفلسفيّة للنّظام المالي السّائد والمهيمن، في مقال أوّل، تبيّن لنا أنّ هذا النّظام يستند الى فلسفة ذات تصوّر عبثي للوجود، بافتقاره للأصل وللغائيّة، ورؤية دُنيا للحياة، بمادّيتها وتهميشها لتعدّد أبعاد الحياة، ونظرة عنصريّة للإنسان بازدواجيّتها(1) ، نظرة حدّدها المُستحوذ على المال، صاحب المكانة الأعلى في المجتمع، وقد أفرزت تلك الفلسفة مقاربة نفعيّة (UTILITARIANISM) فرديّة (INDIVIDUALISM) فئويّة.
وقد حدّدت هذه المقاربة، الى حدّ بعيد محور النّظام المالي السّائد، ومراحل تطوره على امتداد عقود، كما منحت، من جهة أخرى، إطارا عاما للتّحليل العلمي للواقع، بما يحتويه من مفاهيم وقيم وأحكام تُوجّه عمليّة تشخيص الواقع والنّظرة لمشاكله وطبيعة الحلول التي تتطلّبها، فما هو محور النّظام المالي السّائد؟ وما هي مراحل تطوّره؟ وما آثار ذلك النّظام على واقع معيشة النّاس ونوعيّة حياتهم تحت مظلّة تلك المقاربة النّفعيّة الفرديّة؟
1 - محور النّظام المالي السّائد
يعتبر المتشبّعون بخلفيّة فلسفيّة ليبيراليّة سواء كلاسيكيّة أو نيوكلاسيكيّة أو بخلفيّة فلسفيّة نيوليبيراليّة حديثة أنّ تحقيق الرّبح المالي هو محور نشاط أي هيكل اقتصادي أو مالي وهو المحرّك للاستثمار وغاية المساهمين أو المستثمرين(2) في أيّ نشاط ينخرطون فيه، لذلك تمحور النّظام المالي سواء على مستوى التّشريع أو على مستوى نشاط هياكله حول تحقيق أعلى قدر ممكن من الرّبح لمالكي المال لا لمنع أن يُصبح «المال دُولة» بين أغنياء النّاس فقط، كما لم تختلف نظرتهم للإنسان عن نظرتهم للسّلع والخدمات باعتباره موضوعا تجاريّا يُحدّدُ قيمته السّوق ذو الكفاءة حسب فرضيّات وضعوها لا غير. فالمستثمرون أو المساهمون، ضمن هذه الفلسفة الّتي تُؤطّر تحاليلهم العلميّة والّتي أفرزت لهم نظريّات، يعتبرون أنفسهم عقلانيّون، ولا يرون من هدف لانخراطهم في أيّ نشاط سِوى تحقيق أعلى قدر ممكن من الرّبح ومُراكمة المكاسب الماليّة، فهم يتحرّكون وِفق مقاربة نفعيّة فرديّة فئويّة مقاييسها ماديّة نقديّة لا مكان فيها للأبعاد النّفسيّة أو الاجتماعيّة أو الإنسانيّة حتّى وإن تمّ حرمان أغلب النّاس من حقّهم وتعسير حياتهم.
والمستثمرون والمساهمون المُشبّعون بالتّصوّرات الماديّة اللّيبيراليّة أبناء المقاربة النّفعيّة الفِئويّة الذين يُؤمنون بنظريّة التّمويل العقلاني(3) لا يعبؤون بوضع النّاس المعيشي ولا نوعيّة حياتهم، ولا يأخذون بعين الاعتبار الأبعاد النّفسيّة والاجتماعية والإنسانية للتّمويل، ويقتصر لديهم بيع السّلع وإسداء الخدمات في مختلف المجالات، بما فيها الضّروريّة الصّحّية منها والتّعليميّة وحتى الحيويّة منها كالبيئيّة، للقادرين على تحمّل تكاليفها فقط والتي يُحدّدها السّوق الّذي يؤمنون بفعاليته، رغم رفض الواقع أكثر من مرّة لهذه الفرضيّة الّتي يتبنّونها.
وما يسند هذا التّوجه هو النّظرية الماليّة الكلاسيكيّة والنّيوكلاسيكيّة السّائدة والمهيمنة الّتي لها هدف وحيدٌ وهو تحقيق أعلى قدر مُمكن من الرّبح لمن لهم المال أو للمستثمرين أو للمساهمين، وتنطلق من مفاهيم موجّهة كمفهوم العقلانيّة والنّفع وغيرها، وتعتمد على فرضيّات ثلاث هي عقلانيّة المستثمرين الكاملة وكفاءة الأسواق والحدّ الأقصى من أمل النّفع الفردي ضمن مقاربة نفعيّة فرديّة بمقاييسها ومؤشّراتها النّقدية مع الادعاء هَوَسًا أنّ كفاءة السّوق تجعل النَّفع يشمل الجميع في انسجام مع وَهْم «آدم سميث» اعتمادا على ما يراه «يد خفيّة» الّتي تحدّث عنها، رغم الأزمات الّتي دشّنها الكساد الكبير سنة 1929 والأزمات المتعاقبة ولا تزال تتتالى في استفحال الى اليوم ودائرة ضحاياها في اتساع مستمر.
2 - مراحل تطوّر النّظام المالي السّائد
يُعَرَّفُ النّظام المالي العالمي (Global financial system) على أنّه «الإطار العالمي للاتفاقيّات القانونيّة والمنظّمات والجهات الفاعلة الاقتصاديّة الرّسميّة وغير الرّسميّة التي تسهّل معًا التّدفّق الدّولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتّمويل التّجاري»(4).
وقد شهد هذا النّظام تطوّرا مضطردا منذ ظهوره أواخر القرن الثّامن عشر، سواء على مستوى الهيكلة، بإنشاء بنوك مركزيّة ومنظّمات حكوميّة دوليّة، أو على مستوى التّشريع، من خلال عقد معاهدات متعدّدة الأطراف، كما اتخذ هذا النّظام، بالاعتماد على مؤسّساته وتشريعاته هدفا تمثّل في تحسين شفافيّة الأسواق الدّوليّة وتنظيمها وفعّاليّتها.
حسب مجلة «الايكونومست»(5) فإنّ سنة 1792 شهدت تأسيس النّظام المالي الحديث، ومنذ ذلك الوقت الى يومنا هذا عرف ذلك النّظام ستّ أزمات على الأقل أوّلها الأزمة الماليّة الأمريكيّة نتيجة الاحتكار والمضاربة، وثانيها أزمة الأسواق النّاشئة سنة 1825 التي يحمّلُ البعض المستثمرين مسؤوليّة حدوثها لأنّهم قاموا بالاستثمار في بلدان حجم ديونها غير معروف، ولا وجود للخامات والمعادن فيها، وكان هناك غضب ومطالبة للمستثمرين للقيام باستكشاف الأسواق النّاشئة قبل وضع الأموال في خطر بينما ألقى المسؤولون في بريطانيا اللّوم على البنوك.
وشكّلت سنة 1857 الأزمة الثّالثة أو ما عُرِفَ بـ «الهلع الكبير» التي ترجع أسبابها حسب المؤرّخين الى ما حدث تحت السّطح من تغيير خاصّة تكوّن شبكة من العلاقات الاقتصاديّة الجديدة وظهور موجة من الابتكارات الماليّة.
أمّا الأزمة الرّابعة فهي «الذّعر المصرفي الأمريكي» سنة 1907 حين شهدت فترة ما بعد الحرب الأهليّة في أمريكا تضخّما في عدد البنوك، حيث وصل الى 22 ألف بنك، وقد شهدت بنوك نيويورك سحبا للسّيولة وفقدان الثّقة لدى المودعين وعدم وجود صناديق ضمان للودائع، ممّا أدى إلى أزمة ماليّة ضخمة، وانهارت سوق البورصة بصورة مفاجئة فاقدة ما يقرب من 50% من الحدّ الأقصى للقيمة الماليّة التي حقّقتها في العام السّابق. وقد حدث هذا الذعر في فترة ساد فيها الكساد إثر عمليّات سحب للأموال المودعة في البنوك التي تقدّم خدمات مصرفيّة عامّة للأفراد وبنوك الاستثمار، وقد أدّى هذا الذّعر الذي عمّ أرجاء البلاد إلى إفلاس العديد من البنوك والشّركات.
وبعد تراكم عوامل عِدّة، من حرب عالميّة أولى (1914-1918) وما أفرزه النّظام المالي الدّولي من تضخّم كبير أوائل عشرينات القرن الماضي عرف العالم أزمة الكساد الكبير (1929 - 1933)ا(6) وتمّ ادراك تصدّعات في النّظام المالي كانت مخفيّة، كان أوّلها انهيار بنك «كريديت أنشتالت» أكبر بنوك النّمسا تبعه تكالب المودعين على سحب أموالهم واسترداد ودائعهم من بنوك مصر وألمانيا والمجر ولاتفيا وبولندا ورومانيا وتركيا، ما أحدث انكماشا كبيرا على مستوى التّمويل أدى الى تراجع كبير على مستوى الاستثمار والاستهلاك والتّصدير ممّا عطّل محرّكات النّمو الثّلاثة، وأثّر تأثيرا كبيرا على المنتجين والتّجار والمستهلكين على حدّ سواء، الأمر الذي عسّر حياة النّاس الى أن اندلعت الحرب العالميّة الثّانية.
وبعد الحرب العالميّة الثّانيّة، تمّ عقد اتفاقيّات «بروتون وودز» الّتي أفرزت نظاما نقديّا دوليّا(7) يعتمد على مؤسّستين دوليّتين، هما مجموعة البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي، يجمعهما هدف واحد مُعلن، هو رفع مستويات المعيشة في بلدانهما الأعضاء، وتتبع المؤسّستان منهجين متكاملين لتحقيق هذا الهدف، حيث يركّز الصّندوق على قضايا الاقتصاد الكلّي والمالي على المستوى الدّولي ويعمل على تشجيع الاستقرار الاقتصادي الكلّي والمالي العالمي ويُقدّم المشورة بشأن السّياسة الاقتصاديّة ويدّعي الدّعم في مجال تنميّة القدرات لمعاونة البلدان الأعضاء على بناء اقتصادات قويّة والحفاظ عليها، ويعتمد لإنجاز مهامه على موظفين اقتصاديين يتمتّعون بخبرة واسعة في السّياسات الماليّة والاقتصاديّة الكلّية ويتّخّذ من تقديم قروض قصيرة الأجل ومتوسّطة الأجل آليّة، تُمَوَّل في أغلبها من المساهمات التي تدفعها البلدان الأعضاء في شكل اشتراكات للأعضاء(8)، وتُقدَّمُ لمساعدة البلدان الأعضاء التي تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات حين يتعذّر عليها الوفاء بالتزامات مدفوعاتها الدّوليّة.
في حين يُركّز البنك العالمي على التّنمية الاقتصاديّة طويلة الأجل والحدّ من الفقر من خلال توفير الدّعم الفنّي والمالي لمساعدة البلدان الأعضاء على إصلاح قطاعات معيّنة أو تنفيذ مشروعات محدّدة، مثل بناء المدارس وتوفير المياه والكهرباء ومكافحة الأمراض وحماية البيئة، ويتمّ تمويل ذلك الدّعم من مساهمات البلدان الأعضاء ومن خلال إصدار السّندات(9)ويعتمد هذا البنك في القيام بمهامه على موظفين متخصّصين في قضايا معينة، مثل المناخ، أو قطاعات محدّدة كالتّعليم والصّحّة.
ومن إفرازات تطور النّظام المالي الدّولي، نذكر نظام المدفوعات الدّوليّة، الّذي شهد بدوره تطوّرا في القرن الماضي وصولًا للأشكال الرّاهنة كما نشأت، في ظلّ الظّروف الرّاهنة للاقتصاد العالمي مع سيادة العصر الرّقمي وتطوّر تطبيقات حديثة لأنظمة المدفوعات الدّولية، فما هو نظام المدفوعات الدّولية؟ وما سمات تطوّره؟ وما هي تطبيقاته الحديثة؟
* نظام المدفوعات الدّوليّة
تُستخدم المدفوعات الدّوليّة، لأغراض تجاريّة عالميّة، من شراء السّلع والخدمات بين الدّول، ودفع الرّواتب للموظّفين أو المقاولين الدّوليين، خصوصًا مع انتشار العمل عن بعد، ودفع الأرباح أو الفوائد عندما يكون لدى الشّركات مستثمرون دوليّون أو عند اقتراض أموال من متعاملين دوليّين، والحصول على أصول، حيث يجوز للشّركات شراء أصول في بلدان أخرى كجزء من عمليّاتها أو استراتيجيّات التّوسع. وعند التّداول في الأسواق الماليّة الأجنبيّة، غالبًا ما تحتاج الشّركات إلى إجراء مدفوعات عبر الحدود. كما تستخدم المدفوعات الدّوليّة عند دفع تكاليف السّفر والنّفقات، وللإسهام في المنظّمات الخيريّة الأجنبيّة كجزء من جهود المسؤوليّة الاجتماعيّة للشّركات.
ولهذه المدفوعات الدّوليّة نظام مُعيّن يشتغل من خلاله النّظام المالي العالمي، وذلك عبر تسهيل عمليّة تدفّق الأموال عبر الحدود بسرعة وأمان وكفاءة، ويُعرّف نظام المدفوعات الدّوليّة، بأنّه مجموعة من الآليّات والبنى التّحتيّة الماليّة التي تمكّن من تبادل العملات وتدفّق رأس المال بين البلدان، ويشمل الرّوابط بين بنوك المراسلة، ونظم التّراسل مثل SWIFT، وخدمات تحويل الأموال وشبكات بطاقات الائتمان، وأسواق الصّرف الأجنبي، والتّرتيبات بين البنوك المركزيّة. وبالرّغم من أهمّيته يعاني نظام المدفوعات الدّوليّة من بعض العيوب مثل التّكلفة والبطء ونقص الشّفافيّة لذا، يجري البحث عن حلول جديدة لتحسين هذا النّظام وجعله أكثر كفاءة وشمولًا في العصر الرّقمي.
* أنواع المدفوعات الدّوليّة وأنظمتها
يُمكن للمدفوعات الدّوليّة أن تتّخذ أشكالًا وأنواعًا عديدة، حيث يعتمد الاختيار على عوامل مثل التّكلفة وحجم المعاملة وسرعة التّحويل والمتطلّبات المحدّدة للمرسل والمستلم. ومن بين أنواع المدفوعات الدّوليّة(10) نذكر:
• التّحويلات البرقيّة التي تعدّ طريقة موثوقة وآمنة لإرسال مبالغ كبيرة من الأموال دوليًّا؛
• الشّيكات الدّوليّة وهي قليلة الاستعمال، إلاّ أنّها تعد خيارًا آخر للمدفوعات عبر الحدود؛
• وسطاء صرف العملات الأجنبيّة؛
• الحوالات الماليّة الدّوليّة التي تعتبر أكثر أمانًا من بعض خيارات الدّفع الأخرى؛
• منصّات الدّفع عبر الإنترنت التي تستخدم بشكل كبير في معاملات التّجارة الإلكترونيّة.
أمّا أنظمة الدّفع الدّوليّة الرّئيسيّة(11) فنذكر منها ما يلي:
• جمعيّة الاتصالات الماليّة العالميّة بين البنوك (سويفت) SWIFT (لتنظيم نوع معين من المعاملات)؛
• منطقة المدفوعات الأوروبيّة الموحّدة SEPA (لمنطقة جغرافيّة بعينها)؛
• شبكة سلك الاحتياطي الفيدرالي Fedwire؛
• نظام الدّفع الآلي لدار المقاصة CHAPS ؛
• نظام التّحويل السّريع للتّسوية الإجماليّة الآلي عبر أوروبا في الوقت الفعلي TARGET2(نظام لعملة محدّدة «الأورو»)؛
• التّسوية المرتبطة المستمرّة CLS؛
• نظام الدّفع الدّولي الصّيني CIPS؛
• آرّ،آم،بي (RMB) عبر الحدود الخارجيّة، بهدف تدويل العملة الصّينيّة.
ومع تعدّد أنظمتها، شهدت معاملات المدفوعات الدّولية، منذ الأزمة الماليّة العالميّة لسنة 2008 وحتّى عام 2018 أي قبيل جائحة كورونا، نموًّا متزايدًا ويرجع ذلك للتّحول الرّقمي السّريع والمستمر في عدد من دول العالم(12) الاّ أنّ جائحة كورونا فرضت تغيير بيئة عمل الشّركات الكبيرة والصّغيرة، ما أدّى إلى تراجع المدفوعات الدّولية خلال سنوات 2019 و2020 و2021(13)
والى جانب معاملات أنظمة المدفوعات الدّولية تعتبر السّيولة الدّولية ذات أهمّية كبيرة في المعاملات الدّوليّة بالنّسبة لأطراف المدفوعات الدّوليّة، حيث لا يمكن الاستغناء عنها في أيّ معاملات. ومن المصادر الأساسيّة للسّيولة الدّوليّة التّقليديّة، نجد الذّهب النّقدي والعملات القائدة في العالم وحقوق السّحب الخاصّة وحقوق السّحب العامّة.
* التّطبيقات الحديثة لأنظمة المدفوعات الدّوليّة (14)
في تفاعل مع الظّروف الرّاهنة للاقتصاد العالمي، نشأت تطبيقات حديثة لأنظمة المدفوعات الدّوليّة وتطوّرت سواء من قبل منظمة التّجارة العالميّة، المشرفة على النّظام التّجاري العالمي، عبر لوائح وقوانين، أو من مقدّمي الخدمات والمدّفوعات الدّوليّة، من بنوك دوليّة وبنوك المراسلة، كلّ ذلك للحيلولة دون حدوث اختلال على مستوى المبادلات الدّوليّة.
وقد تمّت، منذ قيام منظمة التّجارة العالميّة في أول جانفي 1995، المصادقة على أكثر من 60 اتفاقيّة، ضمن المؤتمرات الوزاريّة للمنظّمة تتعلّق بقطاع السّلع والخدمات والملكيّة الفكريّة والتّجارة الإلكترونيّة، كما تمّ إقرار مجموعة من العقوبات الاقتصاديّة لعدم اختراق هذه الأنظمة، تسلّط على كلّ عضو من أعضاء منظّمة التّجارة العالميّة التي تجاوز عدد منخرطيها 80 دولة من دول العالم.
وإضافة إلى اللّوائح والتّنظيمات التي تقرّرها منظمة التّجارة العالميّة، تُوجد منظومة من البنوك الدّوليّة وبنوك المراسلة أو الوسيطة تمرّ عبرها جلّ المدفوعات الدّوليّة لكلّ منها دور هام وفاعل.
فالبنوك الدّوليّة تُساعد في تطوّر أنظمة المدفوعات الدّوليّة من خلال تعزيز الإدارة الماليّة للأفراد والشّركات في تعاملاتهم الدّوليّة، ومن أهمّ هذه البنوك المقدّمة للخدمـات المصرفيّـة العالميّـة في عـام 2024، نذكر (15) P. Morgan Chase & Co و Bank of America و CitiGroup وHSBC وStandard Chartered
أمّا بنوك المراسلة، فمهامها تسويّة المدفوعات بين الدّول لنقل رؤوس الأموال وتسوية أثمان الصّادرات والواردات وتحويل الخدمات والاستشارات والأرباح، والفوائد، والمعونات، والمساعدات(16)فهي بنوك وسيطة لإتمام عمليّات نقل رؤوس الأموال بين الدّول عند عدم قدرة البنوك المحلّية على التّواصل مع بنوك في دول أجنبيّة، وتعتمد طرقا عديدة لتسوية المدفوعات الدّوليّة، منها:
• الشّيكات المبيعة أو المشتراة بالعملات الأجنبيّة سواء كانت شيكات مصرفيّة أو سياحيّة.
• الحوالات المصرفيّة الصّادرة والواردة بالعملات الأجنبيّة.
• شراء العملات الأجنبيّة وبيعها بالطّرق المختلفة مثل الخيارات، والمبادلات، والعقود الآجلة أو الفوريّة.
• البروتوكولات والاتفاقيّات الدّوليّة، ويتمّ بموجب ذلك استيراد بضائع أو تصديرها حسب اتفاق موقّع بين حكومات البلدان المعنيّة.
3 - آثار النّظام المالي السّائد
يقوم النّظام المالي الدّولي على نظريّة «التّمويل العقلاني» الّتي تعتمد على تعريف للعقلانيّة في بعدها النّفعي الفردي، مفاده أنّ صاحب المال العقلاني هو الّذي يبحث عن تحقيق أعلى قدر ممكن من الرّبح وأنّ التّمويل لا يكون إلاّ عقلانيّا، دون أخذ في الاعتبار أبعاد أخرى للتّمويل كالبعد النّفسي أو الاجتماعي أو الإنساني عموما.
كما تعتمد تلك النّظريّة على فرضيّات ثلاث، أولاها عقلانية المستثمر، صاحب المال وثانيتها كفاءة السّوق لتحقيق التّوازن وللحيلولة دون وقوع أزمات، أمّا الثالثة فهي أمل النّفع الفردي الأعلى مستوى، ولم تصمد تلك الفرضيّات حين تمّ اختبارها على أرض الواقع في أكثر من مرّة ولفظها الواقع في أزمنة عديدة وأماكن مختلفة في القرن الماضي وأوائل هذا القرن كما بيّنا في العنصر السّابق في سياق عرضنا لتطوّر النّظام المالي الدّولي.
وفي عام 2008 وقعت أزمة اقتصاديّة عالميّة اعُتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير، وقد خلّفت وراءها بطالة وديونا ومشكلات عالميّة، وقد بدأت الأزمة أولاً بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ثمّ امتدت إلى دول العالم لتشمل الدّول الأوروبيّة والدّول الآسيويّة والدّول الخليجيّة والدّول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي، وقد وصل عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتّحدة خلال العام 2008م إلى 19 بنكاً أوّلها بنك «ليمان براذرز» وذلك بسبب ضعف إدارة المخاطر الدّاخليّة وعدم كفاءة التّنظيم والإشراف.
وقد أوصلت هذه الأزمات الى إدراك محدوديّة البنوك المركزيّة في التّعامل مع الصّدمات الماليّة بسبب ضعف قدرتها على التّصرف وهشاشة المؤسّسات البنكيّة عموما بالنّظر الى محدوديّة قدراتها على منع انكماش الأسعار وانهيار الاقتصاد الحقيقي.
وأمام ما يشهده العالم من حرب عملات من خلال سياسة تخفيض القيمة الخارجيّة للعملة أو ما يسمّى بـ «إضعاف الجار»، ومع الحرب التّجاريّة العالميّة الّتي دشّنها رئيس الولايات المتحدة الامريكية الحالي من خلال رفع قيمة الرّسوم الجمركيّة، ومع بروز العملات المشفّرة وارتفاع قيمتها وتزايد اعتماد العملات الرّقمية واستخدامها، تتّجه قدرة أنظمة المدفوعات الدّوليّة الى مزيد من الضّعف ويتجه النّظام المالي الدّولي الى مزيد من التّصدّع.
ومن الآثار المباشرة لذلك التّصدع التّقليل من قدرات النّمو التّجاري العالمي وإعاقة انسيابيّة حركة التّجارة بين دول العالم. وستكون لهذا التقليل حتما عواقب أكبر وطأة على الاقتصاديّات الأقل نموّا نظرا لهشاشتها وتبعيّتها ولتأثّرها الكبير باستيراد التّضخّم العالمي ومن ثمّة إضعاف قدراتها التّنافسيّة في الأسواق العالميّة وتراجع صادراتها وارتفاع تكلفة وارداتها، ممّا يعمّق عجز ميزانيّاتها التّجاريّة ومن ثمّة ميزانيّات مدفوعاتها أيضا.
ومع أزمة المديونيّة المتفاقمة لديها سيتضرّر الاقتصاد الحقيقي أيّما تضرّر على المستوى العالمي وبدرجة أكبر وأخطر اقتصاد الدّول الأقل نموّا والدّول الضّعيفة أصلا، وسيعود الضّرر أكثر على شعوبها ونوعيّة حياتها ممّا يزيد من تعسيرها. وكلّ هذا يؤشّر على مزيد اتساع دائرة الفقر متعدّد الأبعاد ممّا يزيد من استهداف قيمة الإنسان وكرامته، كما يؤشّر أيضا على مزيد من الاحتقان داخل الشّعوب وما بينها وبين حكوماتها، وكذلك مزيد من التّوتّر الدّولي والإقليمي والعالمي ومن ثمّة مزيد من عدم الاستقرار والأمن ممّا يجعل السّلم المجتمعي والدّولي والعالمي في خطر كبير.
حتّى نلتقي
كلّ ما عرضناه يُبرز مسؤوليّة النّظام المالي الدّولي السّائد فيما آلت إليه أوضاع البشر في غالبيتهم العُظمى في مختلف مناحي حياتهم وعلى مستوى معيشتهم من تداولٍ ما بين ظاهرتي التّضخّم (INFLATION) المُبخّر لقيمة المال الاستهلاكيّة والرّكود (RECESSION) المُبخّر لقيمة المال الإنتاجيّة، الى أن استقرت ظاهرة مُزدوجة جمعت التّضخّم بالرّكود في نفس الوقت (STAGFLATION).
وأمام عقم النّظام المالي الدّولي في توليد المال لإقامة الأعمال ولتلبية احتياجات كل النّاس تيسيرا لعيشهم وتحسينا لنوعيّة حياتهم نرى أنّ الحاجة ماسّة لإعادة النّظر في المسلّمات القائم عليها ذلك النّظام، وأنّ الضرورة تفرض علينا إعادة وضع تعريفات بديلة وفرضيّات مغايرة، خاصّة بعد أن لفظ الواقع وباستمرار وفي تجارب مختلفة وأزمنة متعدّدة ومتباعدة المسلّمات والفرضيّات التي شُيّد عليها النّظام المالي الدّولي.
الهوامش
(1) عرفت النظرة الوضعية للإنسان حسب تصور المستحوذ على المال، عبر التاريخ البشري، تطورا، فبعد النظرة اليه كعبد من خلال السيد ثم كقن من طرف الاقطاعي عُرِفَ الانسان على أنه عامل من طرف صاحب العمل وضمن هذه النظرة بدأ التعامل معه كعبء ثم كمورد وبدأ الحديث عنه كانه راس مال وجب الاعتناء به توفيرا لشروط تحقيق أعلى قدر ممكن من الربح للمستحوذ على وسائل الإنتاج الى أن أصبح اليوم الحديث على الانسان الآلي والاعتماد على الذكاء الاصطناعي
(2) Ravily Hervé et Serret Vanessa : « Principes d’analyse financière », Hachette supérieur, Paris, 2009, p 35.
(3) راجع مقال لنا «ملامح نظام مالي قويٌّ ومُنصِف» ص.ص 24-28 مجلة «الإصلاح» عدد 213 شهر أفريل 2025
(4) https://ar.wikipedia.org/wiki
(5) https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/441760#
(6) تعتبر هذه الأزمة أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، وقد بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1929 والمسمى بالثلاثاء الأسود، نتيجة ارتفاع العرض عن الطلب، فعجز بذلك المضاربون عن تسديد ديونهم مما أدى الى إفلاس البنوك.
(7) تبلورت فكرة إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في يوليو 1944 خلال مؤتمر دولي عُقِدَ في الولايات المتحدة (في بروتون وودز بولاية نيوهاميشير) فوضع إطارا للتعاون الاقتصادي يهدف إلى إرساء اقتصاد عالمي أكثر استقرارا وازدهارا. ولا يزال هذا الهدف محوريا بالنسبة للمؤسستين، لكن عملهما يشهد تطورا مستمرا لمواكبة المستجدات ومواجهة التحديات في القطاع الاقتصادي.
(8) https://www.imf.org/ar/About/Factsheets/Sheets/2022/IMF-World-Bank-New#
(9) https://www.imf.org/ar/About/Factsheets/Sheets/2022/IMF-World-Bank-New#
(10) النظام النقدي والمالي الدولي العدد 18 - ديسمبر 2016، د. عمر عبدة ساميـــة، مخبر التنمية الذاتية والحكم الراشد كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، جامعة 8 ماي 1945 – قالمة amorabdasamia@yahoo.fr
(11) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(12) حراقة سمية، لطرش ذهبية، دور تكنولوجيا البلوك تشين في تعزيز كفاءة المدفوعات الدولية: دراسة حالة تجربة سنغافورة وكندا للدفع عبر الحدود بواسطة البلوك تشين، مشروع Jasper-Ubin، مجلة الريادة لاقتصاديات الأعمال، الجزائر، المجلد 7، العدد 3، يونيو 2021، ص 221.
(13) المرجع السابق، نفس الصفحة
(14) https://trendsresearch.org/ar/insight
(15) https://statrys.com/blog/best-international-banks
(16) بنك المراسلة هو مؤسسة مالية تعمل بصفتها وكيلًا بالنيابة عن مؤسسات مالية أخرى، تكون أجنبية عادة، ويقدم خدمات الخزانة، ويدير النقد الأجنبي والاستثمارات الدولية، ويسهل التجارة الدولية.
|