رسالة فلسطين

بقلم
أ. د. محسن محمد صالح
هذا ما تخطّط له ”إسرائيل“ لمستقبل غزّة
 تعمل الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تجاه قطاع غزّة ضمن ثلاثة أَسقُفٍ أو مستويات: أعلى، ووسط، وأدنى بحسب إمكانيّة التّحقيق. وفي كلّ الأحوال، فإنّ المشترك، على ما يبدو، في الأسقف الثّلاثة، أي الحدّ الأدنى المستهدف، هو أن تكون غزّة بلا سلاح، وبلا حماس!!
أمّا السّقف الأعلى فهو مرتبط بمشاريع احتلال قطاع غزّة، وتهجير سكّانه، وضمّه أو ضمّ أجزاء منه، وإعادة تفعيل برامج الاستيطان، وحكمه بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو ما يعني ضمناً القضاء على حماس، ونزع أسلحتها وأسلحة المقاومة. وثمّة الكثير من الحديث حول هذا السّقف في أوساط اليمين المتطرّف والصّهيونيّة الدّينيّة، وهو مدعوم بغطاء أمريكي حيث كرّر ترامب الدّعوة لتهجير سكان القطاع.
أمّا السّقف الوسط فيتضمّن الإبقاء على نقاط سيطرة في القطاع، والتّحكّم الظّاهر أو غير الظّاهر في المعابر، واستباحة أجواء القطاع وإمكانيّة عمل اقتحامات وضربات محدّدة كما يحدث في الضّفة الغربيّة، وحكم غزّة بوجود قوّات عربيّة ودوليّة أو سلطة رام اللّه، ولكن بمعايير إسرائيليّة. مع سحب فكرة التّهجير والضّمّ والاستيطان، وتسهيل دخول الاحتياجات الأساسيّة للقطاع وبعض من مستلزمات إعادة الإعمار، وبوجود برنامج حثيث لنزع أسلحة المقاومة، وتحييد حماس عن المشهد السّياسي ومشهد إدارة القطاع.
سيسعى الطّرف الإسرائيلي لتحقيق ما يمكن تحقيقه في السّقفين الأعلى والوسط، وفق ما يوفّره الواقع الميداني والمعطيات على الأرض، غير أنّه سيستخدم هذين السّقفين كأدوات تفاوضيّة ضاغطة، إذا ما استمرت المقاومة في أدائها، سعياً للوصول إلى الحدّ المستهدف، مع إيجاد بيئات ضاغطة دوليّة وعربيّة وحتّى فلسطينيّة داخليّة (وتحديداً من سلطة رام اللّه ومؤيّديها)، وربّما محاولة المراهنة على اصطناع دائرة احتجاج ضدّ المقاومة في القطاع نفسه والسّعي لتوسيعها؛ بحيث تتضافر حملات سياسيّة وإعلاميّة عربيّة ودوليّة لإظهار حماس وكأنّها الطّرف المتعنِّت والمُعطِّل للاتفاق، والمتسبِّب بمعاناة القطاع. كما سيتمّ تقديم وقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من القطاع، ووقف مشروع التّهجير، والفكّ الجزئي للحصار والسّماح لإدارة فلسطينيّة (بمواصفات سلطة رام اللّه) باعتبارها «تنازلات» إسرائيليّة كبيرة، وبالتّالي محاولة «تبليع السكِّين» لحماس، وربط إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع بموافقة حماس والمقاومة على نزع أسلحتها، والخروج من المشهد السّياسي والمؤسّسي الفلسطيني.
تكمن خطورة هكذا استراتيجيّة في السّعي لتحقيق الهدف الأساس من الحرب، مع محاولة إظهاره في الوقت نفسه كمطلب عربي ودولي، وإظهاره وكأنّه «إنجاز» وطني وقومي للدّول العربيّة المطبّعة الرّافضة للتّهجير، التي تتقاطع في الوقت نفسه، مع الإسرائيليّين والأمريكان، في العداء لخطّ المقاومة ولتيار «الإسلام السياسي». كما تُظهر سلطة رام اللّه وكأنّها بديلٌ يُنهي معاناة الفلسطينيّين.
أبرز عناصر الاستراتيجيّة الإسرائيليّة
من خلال القراءة الموضوعيّة والتّحليليّة لما صدر عن الجانب الإسرائيلي من تصريحات ومواقف، ومن خلال استقراء سلوك نتنياهو وحكومته وجيشه على الأرض، يمكن استخلاص النّقاط التّالية، كأبرز عناصر الاستراتيجيّة الإسرائيليّة في التّعامل مع قطاع غزّة ومستقبله:
1. محاولة استعادة الصّورة التي فقدها الاحتلال الإسرائيلي، نتيجة الضّربة القاسية التي تعرّضت لها نظريّة الأمن الإسرائيلي في السّابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفقدان قوّة الرّدع، وتزعزُع ثقة التّجمع الاستيطاني الصّهيوني بها.
2. محاولة إعادة تسويق الدّور الوظيفي للاحتلال، كقلعة متقدّمة وعصا غليظة للنّفوذ الغربي في المنطقة؛ وكقوّة جديرة بالثّقة والاعتماد عليها لدى دول التّطبيع العربي، خصوصاً في إدارة صراعها مع منافسيها في البيئة الإقليميّة.
3. محاولة إحداث أقسى حالة «كي وعي» لدى الحاضنة الشّعبيّة في قطاع غزّة ولدى المقاومة، عبر استخدام القوّة السّاحقة الباطشة والمجازر البشعة للمدنيّين، والتّدمير الشّامل للبيوت والبنى التّحتيّة والمؤسّسات الرّسميّة والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والمزروعات وآبار المياه… وغيرها؛ بعيداً عن أيّ معايير قانونيّة أو أخلاقيّة أو سياسيّة، لمحاولة ترسيخ «عقدة» عدم تكرار هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
4. استغلال بيئة الحرب لفرض تصورات «اليوم التّالي» لحكم القطاع، وفق المعايير والضّوابط الإسرائيليّة.
5. السّعي للاستفادة من بيئة الحرب، لتمرير مشاريع التّهويد والتّهجير في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة وتسريعها.
6. السّعي لتوسيع النّظريّة الأمنيّة الإسرائيليّة، لتشمل في إطارها الرّادع الفعَّال المحيط الاستراتيجي للكيان الصّهيوني، لضمان استقرار الكيان وديمومته، حتّى بعد إغلاق الملف الفلسطيني، حيث سبق أن كرّر نتنياهو هذه الرّؤية أكثر من مرّة.
7. رفع السّقف التّفاوضي مع المقاومة إلى مديات عالية جدّاً، وإن لم يكن من الممكن تحقيقها، بهدف استخدامها كأدوات ضغط، وتوظيفها في العمليّة التّفاوضيّة.
8. محاولة تخفيف تأثير قضيّة الأسرى الصّهاينة على الأثمان المدفوعة للمقاومة قدر الإمكان، سواء بمحاولة تحريرهم، أم بإطالة أمد التّفاوض عليهم، أم بالتّركيز على المنجزات المحتملة من استمرار الحرب ولو تسبّب ذلك بخسارة المزيد من الأسرى.
9. الاستفادة من النّفوذ والغطاء الأمريكي قدر الإمكان، في البيئة الدّوليّة ومجلس الأمن وفي البيئة العربيّة، وفي الدّور كوسيط، وفي مجالات الدّعم السّياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي.
10. الاستفادة قدر الإمكان من الضّعف والخذلان العربي، وتقاطع عدد من الدّول العربيّة مع التّوجّهات ضدّ المقاومة وضدّ «الإسلام السّياسي»، وكذلك الاستفادة من عدم فاعليّة البيئة الدّوليّة ومؤسّساتها وفشلها، لتمرير الأجندة الإسرائيليّة.
11. إطالة أمد الحرب ما أمكن، سعياً لتحقيق أكبر منجز ممكن ضد المقاومة، وكذلك للإبقاء على تماسك الائتلاف المتطرف الحاكم لكيان الاحتلال، وتمرير أجنداته الداخلية، والتّهرب من السقوط وإمكانية المحاسبة.
12. تعمد إخفاء الخسائر الحقيقيّة للجيش الإسرائيلي، واصطناع أكاذيب عن منجزاته، ومحاولة التّعمية عن حالات التّهرّب الواسعة من الخدمة لدى قوّات الاحتياط، والأزمات المرتبطة بالتّجنيد وغيرها؛ سعياً للإبقاء على بيئة داخليّة داعمة للحرب.
13. تعمُّد نقض العهود والاتفاقات مع المقاومة، واستخدام ذلك في الابتزاز العسكري والسّياسي والاقتصادي، والاستفادة من حالة الإنهاك والمعاناة في القطاع لتشديد الحصار لتحقيق مكاسب استراتيجيّة وتفاوضيّة خصوصاً على حساب المقاومة.
نزح سلاح المقاومة
كثر الحديث في الأيام الماضية عن ربط ترتيبات «اليوم التّالي» في القطاع بنزع أسلحة حماس وإخراجها من المشهد السّياسي، وتحدّث عن ذلك قادة أوروبيّون مثل الرّئيس الفرنسي ماكرون بالرّغم من إظهار حماسته لحلّ الدّولتين والاعتراف بالدّولة الفلسطينيّة؛ غير أنّ اللاّفت كان إدراج مصر (كدولة تقوم بدور الوسيط) ملفَ نزع السّلاح ضمن بنود التّفاوض بين حماس والاحتلال الإسرائيلي. ولعلّ هذا ما أثار استغراب حماس وقوى المقاومة وامتعاضها؛ التي قالت إنّ سلاح المقاومة هو «خطّ أحمر» ولن يكون على جدول المفاوضات. كما حاول بعض المحسوبين على سلطة رام اللّه استغلال حالة المعاناة الهائلة للحاضنة الشّعبيّة في القطاع، ومحاولة تنفيس الغضب باتجاه حماس وقوى المقاومة وتحميلها المسؤوليّة، بدلاً من الاستمرار في تحميل الاحتلال مسؤوليّة عدوانه وجرائمه.
التّصعيد الإسرائيلي بخرق الهدنة، وإحكام الحصار على القطاع، ومنع دخول أي من الاحتياجات الضّروريّة، تبعها عدوان دموي ومجازر وحشيّة كان معظم ضحاياها من النّساء والأطفال، وأعاد احتلال أجزاء من القطاع، مع إعادة تهجير أعداد كبيرة من أبناء القطاع المنهكين أصلاً والمستنزفين في دمائهم وأموالهم ومساكنهم، ليرفع وتيرة الضّغط إلى مديات لا تكاد يحتملها إنسان؛ مع إعادة الحديث عن أجنداته بسقوفها العليا. غير أنّ المقاومة عادت لتفاجئ العدو بتفعيل أدائها العسكري المؤثّر، ولتقوم بحملة سياسيّة موازية تؤكّد صلابتها في الثّوابت، كما تؤكّد مرونتها القصوى في ملفّات تبادل الأسرى وغيرها، بما يحقن دماء الشّعب الفلسطيني، وينهي الحرب ويضمن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع.
سلاح المقاومة خطّ أحمر
أمام هذه الاستراتيجيّة «الصّفريّة» لنتنياهو وحكومته المتطرّفة، لا تبدو ثمّة بوادر حقيقيّة لإنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع وفكّ الحصار (على الأقل إعادة الوضع على ما كان عليه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول) وفتح المجال لإعادة الإعمار، إلاّ إذا صمدت المقاومة وواصلت استنزاف الجيش والاقتصاد والأمن الإسرائيلي، والدّفع لإيجاد بيئات داخليّة إسرائيليّة أكثر قوّة وضغطاً، ورفع الأثمان التي يدفعها الاحتلال إلى مديات لا يستطيع احتمالها. وقد قطعت المقاومة شوطاً كبيراً في ذلك، مع تزايد المأزق الإسرائيلي، خصوصاً بعد استئناف المقاومة عمليّاتها النّوعيّة، واعتراف رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير بأنّ الحرب في غزّة قد تأخذ شهوراً أو سنوات. كما أنّ طبيعة ترامب النَّزقة والمتقلّبة والمستعجلة للإنجاز لا توفّر لنتنياهو وقتاً مفتوحاً لاستمرار الحرب، يترافق معها حاجة ترامب لتحقيق اختراقات في ملفات التّطبيع في المنطقة، وفي الملف النّووي مع إيران. كما يترافق ذلك مع بيئة عربيّة قلقة تحمل بذور التّغيير والانفجار، وبيئة دوليّة تآكل فيها الدّعم للكيان إلى حده الأقصى، حتّى في محيط حلفائه الأوروبيّين.
وليس ثمّة ترف خيارات أمام المقاومة في خوض هذه المعركة «الصّفريّة» التي تستهدف اجتثاث الشّعب الفلسطيني وقضيّته، وبالتّالي تظلّ المراهنة على المقاومة وسلاحها شرطاً أساسيّاً وخطّاً أحمر في مواجهة الاحتلال وإفشال مشاريعه. والتّجربة التّاريخيّة طوال أكثر من مائة عام تشهد أنّ الشّعب الفلسطيني تمكن من إفشال عشرات المشاريع التي تستهدفه، وقادر أيضاً بعون اللّه على إسقاط هذه الإستراتيجيّة وعلى إفشال هذا العدوان.
الهوامش
(*) تمّ نشر أصل هذا المقال على موقع الجزيرة.نت، 25/4/2025.