بالمناسبة

بقلم
حسن الطرابلسي
ترامب يدشن أفول سيطرة الرّجل الأبيض الإمبراطوري: قراءة في الرّمزيّة
 بفرضه لرسوم جمركيّة قاسية على أكثر من 180 دولة أثار ترامب عاصفة احتجاج دوليّة، وأدت هذه الرّسوم إلى انخفاض مؤشّرات الأسواق العالميّة: داو جونز، والنّاسداك، والدّاكس الألماني وغيرها. كما انخفضت أسهم شركات صناعة الرّقائق والبنوك وشركات النّفط الكبرى في الولايات المتّحدة بشدّة.
ولم تكن هذه القرارات هي الوحيدة منذ تولّي ترامب 2 (1)  للحكم، إذ سبق له أن أعلن عن قرارات أخرى مثيرة للجدل، منها:
* أنّه يريد تحويل غزّة الى منتجع سياحي راق وإلى «كباريه» مفتوح؟؟؟ وطلب من أوكرانيا حقّ الوصول إلى المعادن النّادرة والقيام باستثمارات هائلة بعد أن يوقف نزيف الحرب.
* كما أنّه يريد أن تكون كندا الولاية 51 للولايات المتّحدة الأمريكيّة، إضافة الى رغبته في ضمّ جزيرة جرينلاند إلى أمريكا...
إذا هو زخم هائل من التّصريحات أدّى إلى زلزال!!! في العلاقات والسّياسات الدّوليّة... فماذا يريد ترامب من وراء كلّ هذه التّصريحات؟ وما الذي يحصل في أمريكا؟
تشهد أمريكا بعد الإنتخابات الأخيرة تحوّلات مهمّة لا تمسّ دورها وموقعها في العالم فحسب بل إنّها تمسّ بنية النّظام الأمريكي وروحه الذي قامت عليه منذ نشأتها. وهو نظام رأسمالي قام على فلسفة بشّر بها أدام سميث ودافيد ريكاردو (1772-1823) وغيرهما. ثمّ استقرّ هذا النّظام وساد بعد الحرب العالميّة الثّانية وهيمنت أمريكا على العالم وثرواته.
ويمكن اختصار مراحل هذه السّيطرة في مستويات ثلاثة:
* اقتصاديّا (سيطرت أخلاقيّات الهيمنة والقرصنة)،
* في السياسة الخارجيّة (سيطرت فلسفة أخلاقيّات الحروب وإدارة النّزاعات والأزمات)،
* ︎اجتماعيّا (سادت فلسفة التّمييز والعنصريّة والإبادة)
ورغم ذلك حرصت الولايات المتّحدة الأمريكيّة على تغليف هذه السياسات وتغطيتها بمسوح أخلاقيّة وإنسانيّة منها محاربة الشّيوعيّة أثناء الحرب الباردة، ثمّ محاربة الإسلام السّياسي والذي تحوّل بعد ذلك بسرعة الى محاربة الإرهاب الإسلامي، وأيضا بادعائها نشر الدّيمقراطيّة والتّعدديّة في العراق وأفغانستان، إلخ ... 
وبوصول ترامب 2 للحكم، وإحاطته لنفسه بمجموعة من المليارديرات والمليونيرات، الذين لم تشهد أمريكا لهم مثيلا من قبل، اندفع في صكّ سياسة قائمة أساسا على المراكمة والرّبح المادّي. وهي سياسة لا  تلقي بالا للجوانب الإنسانيّة والثّقافيّة والأخلاقيّة...
وهذا الموقف المتوحّش غير الإنساني يعيدنا الى التّوحّش الذي بدأت به الرّأسماليّة إبّان انتشارها واندفاعها في القرن السّادس عشر عبر فتح طرق تجاريّة جديدة أمام التّجار الأوروبيّين لتحقيق أرباح طائلة من خلال استقدام السّلع المتنوّعة ومراكمة الثّروات... ثمّ عبر الرّأسماليّة الصّناعيّة وما رافقها من استعمار للشّعوب ثمّ في مرحلة ثالثة، في نهاية القرن التّاسع عشر، من خلال الرّأسماليّة الماليّة بتأسيس المصارف والبنوك العالميّة الضّخمة وشركات المضاربة وانتعاش الأسواق الماليّة وبالتّالي الهيمنة على رأس المال العالمي. 
في هذه المراحل، وخاصّة الأولى منها، لم يتم طرح السّؤال كيف وفّر الرّجل الأبيض تلك الثّروات ولم يؤخذ بعين الإعتبار كيف حصل عليها؟ فالعالم عليه أن يخضع لطاعة الإنسان الأبيض ويكون في خدمته... 
ولكن هذه الرّأسماليّة المتوحّشة عملت بعد ذلك على تجميل صورتها البشعة وإضفاء مسحوق إنساني على سلوكيّاتها الا أنّها بعد التّحوّلات العالميّة في العقود الأخيرة وخاصّة بعد سيادتها على العالم منذ انهيار الإتحاد السّوفياتي ثمّ الأزمة الماليّة سنة 2008 وتحدّيات دخول العالم الى الثّورة الصّناعيّة الخامسة، ثورة الرّقمنة والذّكاء الاصطناعي، وما يتبعها....
غير أنّ هذه الرّأسماليّة المتوحّشة سعت لاحقًا إلى تلميع صورتها القبيحة وترويض سلوكياتها بمسحوق إنساني، إلّا أنّ التّحوّلات العالميّة في العقود الأخيرة – خاصّة بعد هيمنتها على العالم إثر انهيار الاتحاد السّوفيتي، ثمّ الأزمة الماليّة عام 2008، وتحدّيات دخول العالم عصر الثّورة الصّناعية الخامسة القائمة على الرّقمنة والذّكاء الاصطناعي وما يرتبط بها – كشفت زيف هذا التّجميل. وهي اليوم، ومع ترامب ومجموعة المليارديرات والمليونيرات المحيطين به تعود الى توحّشها الذي بدأت به في القرن السّادس عشر.... لتنهب من جديد ما لم تنهبه سابقا من ثروات العالم وخاصّة المعادن النّادرة ومصادر الطّاقة والسّيطرة على المضائق والممرّات المائيّة الكبرى (مثل قناة السّويس،  قناة بنما، وخليج المكسيك إلخ،،،إلخ،،،) التي بالسّيطرة عليها يمكن السّيطرة على مستقبل العالم.
بهذا التّحول فإنّ الرّأسماليّة وصلت الى أزمة حضاريّة حقيقية تثير قلق عدد من الباحثين والفلاسفة الغربيّين أنفسهم، وهذه الأزمة تعدّ علامة ومؤشّرا على السّقوط وتوحي بانتهاء دورها. ولعلّ أبرز من تنبّأ بهذا منذ أكثر من قرن هو الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد اشبنغلر(2)، الذي نشر سنة 1918 كتابه الشهير «انحدار/سقوط الغرب» (3)، وعرض فيه نظريّته في الحضارة، القائمة على فكرة التّعاقب الدّوري، حيث جعل للحضارات عمرا محدوداً وأنّ مصيرها إلى الأفول، وهي تشبه نظريّة ابن خلدون، ولعلّه تأثر به. وقد دفع المفكر الفرنسي أوليفييه روا (4) في كتابه: «استسلام العالم، أزمة الثّقافة وإمبراطوريّة المعايير» (5) بالحوار الى مستويّات جديدة، حيث اعتبر أنّ الأزمة ليست في ما عرف بالصّراع بين الحضارات، بل في تحويل الثّقافة إلى شيفرات Code مجرّدة تفرغ من دلالتها، تحولت معها -حتّى مشاعرنا- إلى إيموجيّات وعلامات إعجاب.« » وهذه في الواقع عمليّة إفراغ ثقافي عالمي تستخدم كأدوات للهيمنة. وهي أزمة تفطّن إليها عبد الوهاب المسيري عندما أثبت في كتابه «العلمانيّة الشّاملة والعلمانيّة الجزئيّة» أنّها «تعبير عن التّراجع التّدريجي المستمر للفلسفة الإنسانيّة، فالعلمانيّة الشّاملة تبدأ مع إزاحة مركزيّة الإنسان، ثمّ نزع الجوانب الشّخصيّة عنه ليصبح شيئا ليست له خصوصيّة أو تفرّد، ثمّ نزع القداسة عن كلّ شيء فتُهتك كلّ أستاره، وتفضح كلّ أسراره، ويُعرى من أيّة مثاليّة، ويُحوّل إلى مادّة محضة»(6).
وهو ما يقود في النّهاية الى ما أسماه الفيلسوف المغربي طه عبد الرّحمان «بؤس الدّهرانيّة»(7). فطه عبد الرّحمان  يعتبر أنّ الحداثة الغربيّة لم تكتف بفصل السّياسة عن الدّين (العَلمانيّة) ولا بفصل الدّين عن العلم (العِلْمانية) وإنّما، وهذا هو الأخطر، بفصل الأخلاق عن الدّين (الدّهرانيّة).
وهذا المسار يقود في النّهاية الى سقوط الحضارات وانهيارها، وهو ما تجلّى بأكثر وضوح في سحب الدّعم المادّي عن أهمّ الجامعات الأمريكيّة ومحاصرتها، والتّضييق على حرّية الطّلبة في التّعبير (رأيناه خاصّة في قمع الطّلبة المساندين لغزّة والضّغط على مدراء الجامعات الكبرى حتّى تقديم الاستقالة)، والنّجاح في محاصرة الحرّيات الأكاديميّة، وهذا ما يقود في النّهاية إلى تدمير المؤسّسات والجامعات....
فأمريكا دخلت فعلا مرحلة الخطر منذ مدّة طويلة، إذ هي تفقد منذ 11 سبتمبر 2001 كثيرا من العقول الذّكيّة التي كانت تسافر هناك، واليوم وصلت مع ترامب 2 إلى المرحلة الثّانية، كما يقول الباحث البلغاري في العلوم السّياسية «إيفان كراستيف»(8)، والتي تتمثّل في هجران هذه العقول للولايات المتحدة الأمريكية ومغادرتها.
إذا فإنّ القضيّة هي أعمق من مجرّد رسوم جمركيّة تفرض على هذا البلد أو ذاك، وإنّما هي تعبير وخلاصة نهائيّة لمسار من النّهب، المادّي والمعرفي والثّقافي بلغ نهايته وهو اليوم يحتضر على سرير الموت..
الهوامش
(1) استعملنا  هنا تسمية «ترامب 2» للتّمييز بين «ترامب 1»  في فترته الرّئاسيّة السّابقة (20 جانفي 2017 – 20 جانفي 2021)
(2) Oswald Spengler،أ(29ماي 1880 ـ 8 ماي 1936) مؤرّخ وفيلسوف ألماني شملت اهتماماته أيضاً الرّياضيات والعلم والفنّ.
(3) «Der Untergang des Abendlandes»
(4) أوليڤييه روا Olivier Roy  عالم سياسي فرنسي، وأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، إيطاليا. ولد في 30 أوت 1949 في لاروشيل،
(5) L’aplatissement du mond, la crise de la culture et l’empire des normes 
(6) نقد الحضارة الغربية بين مالك والمسيري، مصطفى عاشور، موقع إسلام أون لاين
نقد-الحضارة-الغربية-بين-مالك-والمسيري/ https://islamonline.net
(7) يمكن تحميل كتاب «بؤس الدّهرانيّة - النّقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدّين» الكاتب طه عبد الرحمن في صيغة  pdf عبر موقع:
https://foulabook.com/ar/book
(8) Ivan Krastev إيفان كراستيف عالم سياسة بلغاري، ولد سنة 1965 في Lukovit ‏ في بلغاريا