تأملات

بقلم
أشرف شعبان أبو أحمد
الزّكاة أهمّيتها وضرورتها للفرد وللمجتمع (2) الزّكاة عبادة ونظام ماليّ
 الزّكاة وإن كانت نظاما ماليّا في الظّاهر إلاّ أنّها لا تنفصل عن العقيدة ولا عن العبادة، ولا عن القيم والأخلاق ولا عن السّياسة والجهاد، ولا عن مشكلات الفرد والمجتمع والحياة والأحياء(1) فهي عبادة، حيث يؤدّيها المسلم طاعة للّه، وامتثالا لأوامره وابتغاء مرضاته وشكرا له واعترافا بفضله(2)، وهى فريضة ماليّة تفرض على المال متى توفّرت فيه شروط الخضوع للزّكاة، حتّى ولو كان صاحب المال لم يكلّف بالعبادات مثل خضوع مال اليتيم للزّكاة وهو قاصر، ودليل ذلك قول الرّسول ﷺَ:«اتجروا في أموال اليتامى حتّى لا تأكلها الصّدقة»(3) (4)، وهي فريضة ثابتة واجبة التّطبيق على مدار الأزمنة وفي كلّ مكان، ما دام في الأرض إسلام ومسلمون، لا يبطلها جور جائر ولا عدل عادل، شأنها شأن الصّلاة فهذه عماد الدّين وتلك قنطرة الإسلام، فلو كان المسلم في مكان لا يجد فيه مسجدا ولا إماما يأتم به وجب عليه أن يصلّي، حيث تيسّر له، في بيته أو غيره، فالأرض كلّها مسجد للمسلم، ولا يترك الصّلاة أبدا. والزّكاة أخت الصّلاة، والمسلم مطالب بأدائها كلّما توفّرت الشروط، ولا تسقط عنه بحال مثلها في ذلك مثل الصّلاة، حيث يفرض عليه دينه أن يقوم بتوزيعها على أهلها، إن فرّطت الدّولة في المطالبة بها وتقاعس المجتمع عن رعايتها وإذا لم توجد الحكومة المسلمة التي تجمع الزّكاة من أربابها وتصرفها على مستحقّيها، فإن لم يطالبه بها السّلطان طالب بها الإيمان والقرآن، وعليه أن يعرف من أحكام الزّكاة ما يمكنه من أدائها على الوجه المشروع المطلوب. (5)
والزّكاة في الإسلام حقّ للفقير وللمجتمع، ومن قبل ومن بعد فهي حقّ للّه، فهي حقّ للفقير بوصفه أخا للغني في الدّين والإنسانيّة، فقد جعل الإسلام المجتمع كالأسرة الواحدة يكفل بعضها بعض بل كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، فمن حقّ الفقير الذي لا يستطيع أن يعمل، أو يستطيع أن يعمل ولا يجد عملا، أو يعمل ولا يجد كفايته من عمله، أو يجد ولكن حلّ به من الأحداث ما أفقره إلى المعونة، من حقّه أن يُعان ويُشدّ أزره ويُؤخذ بيده، وليس من الإيمان ولا من الإنسانيّة أن يشبع بعض النّاس، حتّى يشكو التّخمة، وإلى جواره من طال حرمانه حتّى أنّ من الجوع (6). يقول أهل العلم فضل الفقراء على الأغنياء كبير لأنهم سببا لإثابتهم(7) وقد ذهب الإمام الشّافعي إلى أنّ الزّكاة حقّ يتعلّق بعين المال فلا يجوز للمالك التّصرّف فيه، ويصير الفقراء شركاء لربّ المال في قدر الزّكاة، فلو باع مال الزّكاة بعد الحول، قبل إخراجها، بطل البيع في قدر الزّكاة، حتّى لو مات الفقير، بعد وجوب الزّكاة وقبل أن يقبضها، يدفع نصيبه إلى ورثته(8). 
والزّكاة مع أنّها حق الفقير فهي حقّ الجماعة أيضا، فالإنسان لم يكسب ماله بجهده وحده، بل شاركت فيه جهود وأفكار وأيد كثيرة، بعضها عن قصد وبعضها عن غير قصد، بعضها ساهم من قريب وبعضها ساهم من بعيد، وكلّها أسباب عاونت في وصول المال إلى ذي المال، فإذا نظرنا إلى التّاجر مثلا كيف جمع ماله وحقّق كسبه؟ رأينا للمجتمع عليه فضلا كبيرا، فمن يشتري؟ ولمن يبيع؟ ومع من يعمل؟ وبمن يسير إذا لم يكن المجتمع؟ وهكذا الزّارع والصّانع وكلّ ذي مال، فمن حقّ المجتمع ممثلا في الدّولة التي تشرف عليه وترعى مصالحه وتسدّ خلاّت أفراده، أن يكون لها نصيب من مال ذي المال، فلو لم يكن في المجتمع المسلم أفراد فقراء أو مساكين، لوجب على المسلم أن يؤدّي زكاته، ولابدّ لتكون رصيدا للجماعة تنفق منه عند المقتضيات، ولتبذل منه في سبيل اللّه، وهو مصرف عامّ ودائم مادام في الأرض إسلام. 
والزّكاة بعد ذلك وقبل ذلك، حقّ اللّه تعالى، فاللّه هو المالك الحقيقي، لكلّ ما في الكون أرضه وسمائه، والمال في الحقيقة ماله، لأنّه خالقه وواهبه وميسّر سبله ومانح الإنسان القدرة على اكتسابه، فإذا زرع الإنسان زرعا فأنبت حبّا أو غرس غرسا، فآتى ثمرا، فكم يوازي عمل يده في الحرث والسّقي والتّعهّد، بجانب عمل يد اللّه الذي جعل الأرض ذلولا وأنزل الماء من السّماء مطرا؟ وأجراه في الأرض نهرا، وهيّأ للحبّة في باطن التّراب، غذاءها حتّى صارت شجرة مورّقة مثمرة، ألا ما أقل عمل الإنسان وجهده بجانب رعاية اللّه! ثمّ ما عمل الإنسان إذا لم يهبه اللّه الأدوات التي يعمل بها والعقل الذي يفكّر به ويدبر؟ ولهذا يبين لنا القرآن فضل اللّه على عباده ويردّ الحقّ إلى نصابه فيقول المولى عزّ وجلّ: ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾(الواقعة: 63-70)، ويقول: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾(عبس: 24-28) ويقول: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾(يس: 33-35). 
الناس يأكلون من ثمار لم تعملها أيديهم وإنّما عملتها يد اللّه، الله الذي أحيا الأرض الميتة، وأخرج منها الحبّ وأنشأ الجنّات وفجّر العيون، وليس عمل يد اللّه في الزّراعة فحسب بل في كلّ ناحية من نواحي الحياة، زراعة أو تجارة أو صناعة أو غيرها، ففي الصّناعة، مثلا نجد المادّة الخام من خلق اللّه، لا من إنتاج الإنسان، ومن هنا امتنّ اللّه على النّاس بمادّة الحديد فقال ﴿ .. وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ..﴾(الحديد: 25) والتّعبير  بـ ﴿أَنزَلْنَا﴾ يعني أنّ اللّه خلقه، بتدبير سماوي علوي، لا دخل للإنسان فيه. 
كما نجد الاهتداء إلى الصّناعات من إلهام اللّه، وتعليمه للإنسان ما لم يكن يعلم، كما قال تعالى عن نبيّ اللّه داود: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾(الأنبياء: 80)، والنتيجة من هذا أنّ المال رزق، يسوقه اللّه للإنسان، فضلا منه ونعمة، ومهما ذكر الإنسان عمله وجهده، فليذكر عمل القدرة الإلهيّة في الإيجاد والإمداد، فلا غرابة بعد هذا أن ينفق الإنسان بصفته عبدا للّه بعض ما رزقه اللّه على إخوانه عباد اللّه قياما للواجب المنعم بحقّ الشّكر على نعمائه، ومن أجل هذا يقول اللّه تعالى: ﴿..أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم ..﴾(البقرة: 254)ويقول: ﴿..وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(البقرة: 3) (8)
ولأنّ الزّكاة مفروضة من اللّه عزّ وجلّ، مثلها كالصّلاة والحجّ، فلا وجه فيها ولا مجال، لمنّ أو أذى أو تفضّل، فإذا أخذ هذا المحتاج مال زكاة فحقّه أخذ(9) فليست الزّكاة هبه أو تبرّعا أو منّة من الأغنياء على الفقراء، بل هي حقّ لهم، استودعه اللّه يد الغنيّ، ليؤدّيه لأهله، وليوزّعه على مستحقّيه. ويجب على المزكّي الإيمان بذلك مصداقا لقول اللّه تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(المعارج: 24-25 )(10) بل على المسلم أن يدفع الزّكاة وهو طيّب النّفس بها راجيا أنّ يتقبّلها اللّه منه ولا يردّها عليه، ويستحب له أن يسأل ربّه قبولها بمثل هذا الدّعاء «اللّهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما»(11)
للزّكاة أثر في الجانب الاقتصادي، حيث تمثّل مصادرة تدريجيّة للأموال المكتنزة الصّالحة للنّماء، فاستقطاب 2.5 % من الأموال التي تزيد عن حدّ النّصاب، يؤدّي إلى استقطاع 10 % من الأموال المكتنزة، في أقلّ من خمس سنوات، وثلثها في أقلّ من سبعة عشر عاما، بل أنّ الزّائد عن حدّ النّصاب يذهب زكاة في نحو 40 عاما (12) وباستقطاع الزّكاة هذه الأموال من أربابها، تدفعهم على تعويض ما أخذ منهم، وبالتّالي تؤدّي إلى إخراج النّقود لتعمل وتغل وتكسب وتنمّي، حتّى لا يأتي عليها مرور الأعوام وفي هذا جاءت الأحاديث والآثار(13)، فقد أمر الرسول ﷺَ الأوصياء على أموال اليتامى أن يتجروا فيها حتّى لا تأكلها الزّكاة قائلا «اتجروا بأموال اليتامى حتى لا تأكلها الزّكاة» (14) فهي بذلك تمثّل أداة فعّالة لدفع الأموال المعطّلة والصّالحة للنّماء للمشاركة في الإنتاج، وبالتّالي تؤدّي إلى توفير الأموال السّائلة للمشروعات الاقتصاديّة،  فهي إذن تساهم في تحقيق التّنمية الاقتصاديّة التّلقائيّة ومحاربة الفقر(15) كما أنّ إخراج الزّكاة من نماء المال أو عائد الاستثمار بدلا من استقطاعها من رأس المال نفسه يؤدّي إلى الحثّ على الاستمرار في المشاريع الاستثماريّة حفاظا على رأس المال من النّقصان. كما أنّ انخفاض نصاب الزّكاة يؤدّي إلى دفع المدّخرات الصّغيرة أيضا للاشتراك في العمليّة الإنتاجيّة واستثمارها حتّى لا تستقطع الزّكاة المستحقّة عليها من أصل المال. ومن ناحية أخرى تمثّل الزّكاة أداة لحماية المستثمرين لما توفّره من ضمان لرؤوس الأموال المستثمرة، حيث يمكن استخدام سهم الغارمين في تعويض المشروعات التي تتعرّض لضائقة أو كارثة، كما يمكن استخدامه لدفع المستثمرين إلى القيام بمشروعات معيّنة ترتفع نسبة المخاطرة فيها ويحتاجها اقتصاد البلاد.
ونظرا لأنّ الزّكاة تتّسم بالمحليّة، أي أنّه لا يجوز نقل حصيلتها من مكان جمعها، حتّى يكتفي أهل هذا المكان تماما، إلّا في حالة زيادة حاجة إقليم آخر، عن حاجة هذا المكان، ممّا يساعد على تمويل التّنمية الإقليميّة، قال أبو عبيد: «العلماء مجمعون على أنّ أهل كلّ بلد من البلدان، أحقّ بصدقتهم، مادام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك وأن أتي ذلك على جميع صدقاتها، ولذا لا تحمل الزّكاة من بلد إلى آخر، وبأهل البلد الأوّل فقر، حيث تردّ إلى مكان جبايتها، وهو ما فعله الخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز» (16)
الهوامش
(1)  فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص  886
(2) العدالة الاجتماعية في الإسلام سيد قطب ص 150، والعبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص272، والتطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص33
(3) رواه الطبراني
(4) التطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص18
(5) فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج1 ص86 وج2 ص1001  -  1002  & التطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص  10
(6) العبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص 268   -  272
(7) التطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص17
(8) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام يوسف القرضاوي  ص 69
(9) العبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص 268   -  272
(10) إسلام لا شيوعية عبد المنعم النمر ص 283
(11) التطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص 17 و ص27 & فقه السنة السيد سابق ج1 ص416
(12) فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج1 ص86 وج2 ص 1002
(13) تنمية المال في الاقتصاد الإسلامي أميرة عبد اللطيف مشهور ص42
(14) فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص 884
(15) العبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص 278
(15) التطبيق المعاصر للزكاة كيف تحسب زكاة مالك؟ حسين شحاتة ص 33
(16) تنمية المال في الاقتصاد الإسلامي أميرة عبد اللطيف مشهور من ص43 إلى ص44