تمتمات
بقلم |
![]() |
م.رفيق الشاهد |
ما ضرّ لو ... (الأهلّة شأن الخالق والتّقويم شأن عباده) |
قد لا يهم أن نختلف في أيّام العيد طالما يأتي العيد. وليس لأنّ شعوبنا في حاجة إليه أكيدة، بل لأنّ العيد يأبى إلّا أن يعود وإن تأخّر. فهو يضفي البهجة في النّفوس المتعبة وتحرّك فيها أجواءه المشاعر والرّغبة في التّقارب وصلة الرّحم وفضائل أخرى جعلها اللّه برحمته تراحما بين النّاس تخفّف من مآسي المنكوبين وسلوى للمضطهدين والمعذّبين في الأرض.
العيد عيد، فلماذا كُتِب علينا أن نختلف فيه؟ السّؤال قديم قدم انقسامنا شيعا وقبائل لم تتّفق إلاّ على الاختلاف الذي تجمّل وتنمّق وأصبح متوّجا بتاج الرّحمة. فلو كان الأمر متعلّقا بالاحتفال فلا بأس أن نحتفل أكثر من يوم ويا ليت كلّ أيامنا عيدا، ولكنّ المسألة الأهم تكمن في متى يكون لأمّتنا تقويم موحّد نعتمده بكلّ عزّة وكرامة في سنداتنا ووثائقنا وعقودنا دون اختلاف. لمّا أُعْلِن في المملكة السّعوديّة يوم 30 مارس 2025 أوّل أيام شهر شوّال لسنة 1446 هجري، أعلن مفتي البلاد التّونسيّة نفس اليوم آخر أيّام رمضان. فلو أردْتُ أن أؤرّخ مقالي هذا بدقّة وجب عليّ أن أقول مثلا «الثّلاثون من رمضان 1446 هجري حسب التّقويم بتونس» أو «الأوّل من شوال 1446 هجري بالتّقويم السّعودي» وكذا بكلّ البلدان الإسلاميّة.
التجأ بعض السّلف إلى اعتبار اختلاف الأئمّة والعلماء رحمة تجنّبا للصّدامات التي عادة ما تؤول إلى التّكفير، فجعلوها تسامحا وقبول الرّأي المخالف رحمة بينهم من عند اللّه. ولكنّ اللّه قال:﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾(هود:118-119). أي أنّ اللّه جعل رحمته في الاجتماع ولا في الاختلاف.
رؤية الهلال واتحاد المطالع مسألة شائكة من المسائل القديمة التي لم تخمد الاختلافات حولها ولا الخلافات. وقد تناولها العديد من المفكّرين والعلماء منذ قرون فما زادوها إلاّ تعقيدا وإذكاء للاختلاف وتأجيجا للخلافات. أتطلّع اليوم إلى هذه التّراكمات بحجم جبل أقف أمامه كأنّني فأر يريد أن يزحزحه. ولكنّني لست ممّن يحبّذون الاستسهال والإجابة عن السّؤال بسؤال، ولا فكّ الألغاز بلغز جديد، فتتراكم إلى حدّ التّعقيد والتّخلّي عن الهدف. بل أرى في نفسي القدرة على فتح ثقب بحجمي الصّغير يخترق الجبل فأسهم في تقويضه.
لما أردنا أن نختار بين الاختلاف في يوم العيد بما فيه من رحمة أو أن يكون لنا تقويم يوحّدنا ويسهّل معاملاتنا، واللّه أوصانا بالعقود والإيفاء بها، وجدنا أنفسنا أمام الخيار الأوحد والأسهل وهو أن نعتمد التّقويم الميلادي ونتشبّث بالاختلاف في رؤية الهلال لما فيه من رحمة وباعتباره شأن من شؤون اللّه. هذا الاستسهال جعلنا نتخلّى عن أمّهات الأمور ونرمي بها خلفنا، ونفتعل مسائل ثانويّة لا فائدة منها سوى أنّها تشغلنا عمّا لا نريده أن يشغلنا ممّا نحن فيه. فاتفق هؤلاء الفقهاء رحمهم اللّه على أنّ حكم الحاكم في هذه المسألة يرفع الخلاف. فلماذا نصدع رؤوسنا بمثل هذه المسائل المعقّدة.
للولوج إلى هذا الجبل لابدّ من إتيانه من سفحه مسلّحين بمعرفة ما نريد وبمعاول نتقن استعمالها وتتّفق مع الخطّة المحدّدة لبلوغه. فلنبدأ.
يعتمد التّقويم الهجري والمرتبط بالهجرة النّبويّة من مكّة إلى المدينة، على الأشهر القمريّة. وقال تعالى ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..﴾(التوبة: 36). والشّهر في القرآن اسم زمان إشارة إلى كلّ شهر قمري محدّد المدّة بتسعة وعشرين أو ثلاثين يوما، توافق بدايته نهاية الشّهر الذي سبقه وتوافق نهايته بداية الذي يليه. أي فلكيّا، يفصل بين الشّهر المنتهي والشّهر الجديد ولادة الهلال وهو ميقات محدّد لا يمتدّ لفترة زمنيّة بل يتزامن مع لحظة إلتقاء القمر والأرض والشّمس على نفس الخطّ ويسمّى الاقتران المركزي. ويكون القمر حينها محاقا لا يظهر للعيان من الأرض. والمحاق هو غياب نور القمر المنعكس على وجهه الملتفت إلى الأرض بسبب وقوع القمر أمام الأرض وبينها وبين الشّمس. ومرحلة المحاق هي العمر صفر للشّهر القمري واللّحظة الفاصلة بين الشّهرين المتتاليين. وما أن يتزحزح القمر فيخرج بعد حين من خطّ الاقتران هذا، يبدأ الشّهر ويستمر القمر بالابتعاد عن الشّمس خلال النّصف الأوّل من الشّهر، والاقتراب منها من خلال النّصف الثّاني، ويعود إلى فترة محاق آخر ليبدأ شهر آخر. وهكذا يمرّ القمر خلال هذه الدّورة الكاملة بجميع منازله التي تعوّد عليها الرّائي من على سطح الأرض بمواضع الهلال وأشكاله. ويستنتج من هذه المفاهيم أنّه لا توجد فترة زمنيّة ولو قصيرة جدّا ضائعة بين شهرين متتابعين، بل هي لحظة فاصلة بينهما.
أمّا رؤية الهلال فهي موضوع الاختلاف والخلاف. ما هي الرّؤية الشّرعيّة؟ أهي بصريّة بالعين المجرّدة أم مزوّدة بما أمكن من معدّات تقرب الأشياء البعيدة؟ أم أنّها رؤية عقليّة يقينيّة واعية تعتمد على ما توفّر من معارف وعلوم فلكيّة تحدّد منازل القمر من الأرض والشّمس؟
ما أن يتزحزح القمر عن استقامة الاصطفاف مع الشّمس والأرض، يبدأ حينها ضوء الشّمس بالانعكاس على الجزء الخارج من القمر، وإن كان ضئيلا لا يمكن للرائي من الأرض أن يبصر هلال النّور المنعكس في ساعاته الأولى. فمن شروط رؤية الهلال بصريّا أن تكون الرّؤية مباشرة بعد غروب الشّمس وقبل أن يغرب القمر الذي تجاوز مرحلة المحاق وابتعد مركزه تدريجيّا عن مركز الشّمس بزاوية تجعل الهلال سميكا بما يكفي لبيانه للعين، فيصير أوضح فأوضح. وتستغرق هذه المرحلة 15 ساعة منذ حدوث الاقتران أي بعد المحاق مباشرة في حين بوسع المناظير رؤية الهلال بعد فترات أقلّ تتفاوت بحسب دقّة المنظار.
في خضم هذه المعطيات الفلكيّة الدّقيقة والثّابتة علميّا، وبحيث لا اختلاف فيها بين الفلكيّين والأئمة باستثناء أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أنّ الأرض مسطّحة فلا أتحدث عنهم، يبقى الاختلاف الأهم حول أحكام الرّؤية الشّرعيّة لا في قول اللّه تعالى ﴿ ..فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..﴾(البقرة: 185) فهي بالوضوح بما كان، بل في قول رسوله ﷺَ : «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ...»، وهو ما آل دون أمكانيّة اتحاد المطالع، وأبى إلّا تثبيت اختلافها رغم رغبة الأمّة الإسلاميّة وسعي علمائها في توحيد المطالع باعتباره مؤشّر وحدة المسلمين. وقد برزت عدّة مشاريع تعتمد على التّقنيات الحديثة في رؤية هلال شهر رمضان ترمي إلى رصد مطالع الهلال بدقّة والتّغلب على صعوبات رصد الهلال من فوق سطح الأرض بمفعول تلوّث الجوّ وكثافة السّحب وغيرها، فيحقّق بذلك توحيد المواقف بين أنصار الرّؤية البصريّة وأنصار الحساب الفلكي، وبالتّالي توحيد مطالع الشّهور العربيّة. ولكن كلّ هذه المشاريع تتوقّف مباشرة بعد استكمال الدّراسات الفنّية لا لكلفتها الباهظة الثّمن أمام متطلّبات أخرى أكثر إلحاحا وأكبر جدوى، ولكنها تتوقّف بمجرّد أن يطبّق عليها أحد الأحكام الشّرعيّة، فنعود إلى نقطة البداية.
وتعتمد هذه التّقنيات الحديثة لمعرفة الإهلال أو عدمه على أقمار صناعيّة يحمل كلّ واحد منها منظارا محمولا يصوّر القمر على ارتفاع مناسب يقارب 500 كلم من سطح الأرض، وأخرى ترتكز على أنظمة الرّادار، تستخدم الموجات الكهرومغناطيسيّة ترسلها من الأرض إلى سطح القمر ثمّ يتمّ استقبال الانعكاس لهذه الموجات وتحليلها. وبلغت التّكلفة لبناء هذا القمر الصّناعي الواحد حوالي 15 مليون دولار حسب التّقديرات المرجعيّة لسنة 1998 (1418هـ) دون اعتبار إقامة المحطّات الأرضيّة الفرعيّة التي ستقيمها كلّ دولة للتّواصل مع القمر.
الحمد للّه أنّ هذه المشاريع بهذا الحجم، لم تفعَّل. فهي لن ترفع الاختلاف، بل كانت ستزيده حدّة. مثَلُ ذلك مثَل من استُنجِد به لفكّ أغلاق مقفلة، فأقبل مزوّدا بأقفال أخرى دون المفاتيح. ورُفِضت هذه المشاريع لسببين شرعيين دون اعتبار غلاء كلفتها: الأوّل يعتبر أنّ حكم من في الجوّ يختلف عن حكم من في الأرض. أي فرضا، ما حكم الصّائم لو غربت الشّمس عليه في الأرض، ثمّ حلّق في الجوّ فرأى الشّمس فوق الأفق؟ والحكم الثّاني يعتبر أن ّهذه المشاريع قد تفضي بنا إلى أن نأخذ بكلام غير المسلمين في رؤية الهلال وهي معضلة أخرى.
من التّقنيات المستحدثة لهذا الغرض أيضا، إنشاء مراصد مجهّزة بتليسكوب تكون مهامها الأساسيّة رصد أهلة الشّهور القمريّة. ويستطيع المرصد الفلكي تحديد موعد شروق القمر وموعد غروبه، وذلك بالنّظر بالعين عن طريق التّلسكوب. وقد سمح استخدام هذه المراصد الموجودة تقريبا في جلّ البلدان العربيّة الإسلاميّة دون إلزام، لأنّ هذه التّقنية تحتاج لخبير فنّي لتشغيل هذه الأجهزة وتطبيقاتها وهو أمر لا يحسنه الكثير من النّاس. وباعتبار أن الشّرع المنزه جاء في أحكامه مراعياً لعامّة النّاس لا لخاصّتهم، رأى مجمع العلماء لكلّ أهل مطلع رؤية تخصّه. أي أنّنا رجعنا إلى نقطة الصّفر بأكثر أقفال دون مفاتيح.
لم أيأسْ ولن أيأسَ. حفرت نفقا بحجمي في أغوار الجبل ولن أخرج منه قبل أن ينهار، فيدفنني تحته أو يرشدني ربّي إلى نور هلاله، فأنفذ من خلاله مع جميع التّائهين مثلي. لن أتخلّى عن معولي البسيط مفتاح جميع الأقفال المغلقة عنوانه «اليسر، اليسر رحمة بالنّاس». ما الفائدة من تسابق المسلمين عامّتهم وخاصّتهم للحجّ إلى بيت اللّه الجامع الأوحد للقادمين من كلّ فج عميق، ولا يجمعهم على رأي واحد وتقويم واحد يوحّدهم ويقويهم. ما ضرّ لو اعتمد المسلمون التّقويم الشّهري لمكّة، إن صامت صاموا وإن أفطرت أفطروا؟ ما ضرّ لو أرّخنا أحداثنا ووثائقنا وعقودنا بنفس المرجعيّة المكّية دون اللّجوء في كلّ مرّة إلى تعيير التّاريخ الهجري بما يوافق ميلاديّا؟ ما ضرّ لو وحدنا بعض الرّؤى لما يتطلّبه إعداد القوّة. ما ضرّ لو استخدمنا الوسائل المتاحة لما يوافق عصرنا للتّقويم الهجري الموحّد، كجزء من تجهيزات وأدوات إعداد القوّة التي تختلف من عصر إلى عصر مع عدم تغيّر حكم إعداد القوّة؟ ما ضرّ لو وحّدت مطالع الشّهور العربيّة تمهيداً لتوحيد مواقف العرب والمسلمين، على اعتبار أنّ توحيد المطالع دليل على وحدة المسلمين، والعكس صحيح. ما ضرّ لو اعتمدنا تقويما موحّدا فقط لإرباك أعداء الإسلام والمسلمين؟
أوجه أسئلتي هذه لعلمائنا وأولي الأمر منّا حتّى يكونوا في مستوى تمثيل شعوبهم عزّة وكرامة، فتستحق دولهم الاحترام والتقدير.
|