فقه الميزان
بقلم |
![]() |
الهادي بريك |
الحلقة الثّانية : مشاهد من فقه الميزان في القرآن الكريم |
فيما يلي من الحلقات، نستعرض بإذن اللّه ما تيسّر من تطبيقات عمليّة من فقه الميزان في ما جاء في الكتاب العزيز أو في ما جاء في السّيرة النّبويّة أو في ما جاء في عمل الصّحابة الكرام ـ سيّما الخلافة الرّاشدة المهديّة الأولى ـ أو في ما جاء من بعد ذلك في التّاريخ الإسلاميّ. ولكن لا مناص من التّذكير بمعنى فقه الميزان. الميزان هو أحد منزّلات اللّه إلى عباده. ثلاثة منزّلات هي : الكتاب والميزان والحديد، بها هي جميعا متكافلة يُقام القسط، وهو مراده سبحانه من عباده.
الميزان ـ بتحرير جديد ـ هو الجمع بين (العلم الشّرعيّ والموقف الشّرعيّ). العلم الشّرعيّ يؤمّن التصوّر الصّحيح ولكنّه لا يكفي حتّى يلتحم مع الموقف الشّرعيّ الأنسب ليكون التّنزيل بلسما شافيا وشفاء كافيا لمعالجة حالة ما. الميزان هو حسن الإستنباط من القرآن الكريم والسنّة النّبوية عندما تكون صحيحة، فإذا تأمّن حسن الإستنباط فإنّ حسن التّنزيل مأمون في العادة. الميزان هو الجمع بين إستخراج الحكم الشّرعيّ الصّحيح وبين نوطه بعلّته ومقصده والمراد منه تشذيبا وتهذيبا أن تعلّق به مصالح أخرى دخيلة وبين إحسان تنزيل ذلك الحكم المقرون بعلّته على حالة ما لمعالجتها.
فقه الميزان ليس مستقلاّ لا عن القرآن الكريم ولا عن الوحي بصفة عامّة، إذ هو جزء من تلك المنظومة. وليس هو مستقلاّ عن الصّناعة العلميّة (الفقهيّة) التي يراد منها تنزيل حكم شرعيّ مقترن بعلّته على واقعة ما بغرض إصلاحها.
الميزان هو العقل الإسلاميّ المستنير بهدي الوحي والعالم بالواقع بما يجعله مؤهّلا لمعالجة كلّ واقعة بما يناسبها من دون إخسار ولا طغيان. الكتاب وحده لا يحقّق القسط لأنّه في جزء كبير منه عامّ ومطلق ومجمل، وفيه متشابهات وظنّيات. ومستويات التّشريع فيه ليست واحدة بل مختلفة نوعا ودرجة. الميزان وحده بمثل ذلك عندما لا يستهدي بوحي. الحديد (القوّة) نفسه بمثل ذلك عندما يكون في قبضة المستكبر. الميزان هو الذي يحفظ (زيتونة الإسلام) لتظلّ دوما (لا شرقيّة ولا غربيّة) فيؤمّها كلّ مهدود مكدود.
الميزان هو الذي يحفظ لأمّة الإسلام جناح الإجتهاد فيها، فلا تجمد ولا تأسن ولا تكون تابعة تبعيّة ذليلة لا إلى سلف مهما أحسنوا ولا إلى خلف مهما أبدعوا. وهو الذي يحفظ لتلك الأمّة جناح الجهاد فيها فلا تذلّ ولا تقهر. الميزان هو حفظ الوسطيّة والإعتدال فهما ووعيا وفقها وعلما ومعرفة وعملا. كلّ تلك القيم والمعاني عندما تجتمع هي الميزان المنشود الذي يعضد الكتاب ويوفّر الحديد معا
من التّطبيقات القرآنيّة لفقه الميزان
بين الإستسلام والمغامرة طريق ثالث مأمون
ما يريد اللّه تعليمنا إيّاه من قصّة موسى عليه السّلام مع (العبد الصّالح) في سورة الكهف هو أنّه علينا إجتراح طريق ثالث (بديل ممكن) عندما تسوقنا أقدار الحياة المتقلّبة وتضعنا بين خيارين كلاهما مرّ. ذهب موسى عليه السّلام ليتعلّم فنون الحياة ومهارات الإصلاح تأهيلا له حتّى يكون نبيّا رسولا من أولي العزم، بل كليما. وكان أوّل درس تعلّمه هو أنّه عليه التأسّي بمعلّمه (العبد الصّالح) الذي وضعته الأقدار في مشهد فيه ملك جبّار قهّار يستولي على سفن النّاس وثرواتهم، وفيه كذلك مساكين يعملون في البحر بسفينتهم. فهو إذن أمام خيارين : إمّا أن يدع المساكين يواجهون مصيرهم المغبون، وهو ذهاب سفينتهم بأسرها وبما فيها، وإمّا أن يواجه الملك القهّار. الخيار الأوّل لا يجعل منه (عبدا صالحا) إذ فرّ من ساحات الإصلاح. الخيار الثّاني يجعل منه مغامرا لا يحسب لأعماله حساب مآلاتها. ماذا يفعل؟ هنا لا بدّ من (فقه الميزان) الذي يلهمه أنّ معالجة ثالثة ممكنة، ليست هي المثلى قيمة. ولكنّها تقلّل من تكاليف الخسارة عندما يعزّ الخيار الثّاني (مواجهة الملك). فقه الميزان هنا هو إحداث عيب في تلك السّفينة بما يزهّد فيها ذلك الملك القهّار فيحفظ المساكين ما بقي في سفينتهم من صلاحية.
عليك بهذه الخلاصة العاجلة : فقه الميزان هو رعاية المآل والنّظر إلى النّتيجة، وليس إلى المشهد الجاثم فحسب. ما روي ذلك لنا ـ وليظلّ ميزانا يتلى على النّاس حتّى يطوي اللّه صفحة الدّنيا ـ إلاّ ليكون لنا علم إسمه (فقه الميزان) نلجأ إليه عندما تعزّ الخيارات المثلى (الجذريّة). وعلينا قياس ما فعله (العبد الصّالح) وتعلّمه منه نبيّ رسول كليم على كلّ ما يعرض علينا في الحياة التي لا تستقرّ على منوال واحد لفرط تقلّبها.
حتّى في الإيمان طريق ثالث
الإيمان قضيّة غيبيّة في الأصل، ولكنّه في الآن نفسه قضية معقولة. معقوليّة الإيمان في كلّ أسسه السّتة، ولكنّها ـ ربّما ـ في الأسّ السّادس الأخير (القدر خيره وشره) أكثر ظهورا. ذلك (العبد الصّالح) معلّم موسى ـ عليهما السّلام ـ لم يعلّم (تلميذه) فنون الحياة ومهارات إجتراح بديل ثالث ممكن عندما تعزّ الخيارات المثلى فحسب، إنّما علّمه طريقا ثالثا في إيمانه كذلك (عقيدته). وذلك عندما عمد إلى قتل غلام لم يقترف ما به يقتل، ولا هو مسؤول أصلا عن فعله بسبب صغر سنّه. العقل يتبنّى أن يقتل قاتل (القتل أنفى للقتل. كما قالت الحكمة العربيّة)، ولكن أن يُقتل بريء غير مكلّف غير مقبول عقلا مطلقا. هنا يجيب (العبد الصّالح) أنّه لم يفعل ذلك عن أمره، إنّما هو وحي أوحي إليه به. هنا يطمئنّ العقل ويستريح القلب لأنّه قد إنفتح له طريق ثالث : لا هو قصاص مقبول معقول مفهوم، ولا هو عدوان على بريء غير مكلّف. ذلك الطّريق الثّالث عنوانه (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). عنوانه في هذه الحالة ـ وليس في كلّ حالة ـ أنّ ذلك الغلام لو ترك فإنّه سيكون من أهل النّار بسبب ما يعلم اللّه سبحانه من عقوقه وإثمه.
الإيمان بالإسلام عامّة ـ وبالقدر خيره وشره خاصّة ـ هو الذي يؤمّن ذلك الطّريق الثّالث الذي يختلف كلّ إختلاف عن خيار العدوان على بريء غير مكلّف. في كلّ طريق ثالث ممكن عذابات دون ريب. أصحاب السّفينة أصابهم من ذلك شيء ولكنّه دون ذهاب سفينتهم بالكلّية، وأهل هذا الغلام بمثل ذلك. ولذا عوّضوا في الدّنيا ذاتها بولد آخر أقرب رحما. يسمّى بعضهم هذا (منطقة محرّمة) ويعنون بها ـ في قضية القدر وليس غيرها ـ ما يصيبنا من شرّ خاصّة ولكن لا نعلم الحكمة منه على وجه الدقّة والتّحديد. ولكن عندما أخبرنا سبحانه عن الحكمة من قتل الغلام علمنا أنّه في القدر السّيّء الذي لا نريده ولا نحبّه ـ جبلّة ـ حكمة، ولكن لا نعلمها اليوم. ومن خير من عرّف الإيمان من قال : الإيمان هو تصديق الخبر (المقصود بالخبر في هذه المظانّ هو خبر السّماء أي الوحي) وتكذيب البصر. في حالة الغلام لو صدّقنا البصر فحسب فإنّ قتله عدوان سافر لا يبرّر بحال، ولو طلبنا الحكمة الإلهيّة من كلّ ما يصيبنا إشرأبّ العقل إلى أن يكون (أليها، أي إلها صغيرا). وهذا ينافي الإيمان. فقه الميزان هنا (قتل الغلام) هو الإطمئنان إلى الله سبحانه وعدم تحميل العقل ما لا يتحمّل، ولكن في الآن نفسه عدم القبول بعدوان غير مبرّر. وهذا طبعا يأتيه الأنبياء بوحي وليس يدّعيه الدّخلاء.
من فقه الميزان رعاية مصالح المستضعفين
الجرعة العلمية الثّالثة الأخيرة التي يتعلّمها موسى عليه السّلام هي الحرص على رعاية مصالح المستضعفين مهما كانت الظّروف مدلهمّة وداعية إلى غير ذلك. وذلك عندما أقام جدارا يوشك على الإنقضاض، وهو جدار يقع في دائرة قوم سفكوا حقّ الضّيافة في وجه رجلين عضّهم الجوع بنابه الغليظ. خياران متاحان أعرض عنهما ذلك (العبد الصّالح) وهما : مبارحة أولئك القوم لما فيهم من بخل وشحّ من جهة، وعدم الإهتمام بمصالح بعض المستضعفين منهم من جهة أخرى مكافأة على ذلك الشحّ. هناك بديل ثالث ممكن وهو إقامة ذلك الجدار، ليس خدمة لقوم إستبدّ بهم البخل ولكن خدمة لأيتام صغار لمّا تشبّ أعوادهم، إذ لهم مال تحت ذلك الجدار الذي لو إنقضّ فإنّ شحّ أولئك القوم لن يحول دونهم ودون الإستيلاء على ذلك المال. أعرض عن طلب الأجر حتّى يتجنّب كلّ ما من شأنه أن يجعلهم يهتمّون بالجدار، وربّما يعرّضونه إلى الهدم فينكشف مال الأيتام. هي سياسة فعل الخير، وهي الحنكة والحكمة. فقه الميزان هنا هو رعاية مال الأيتام حتّى يتأهّلوا لأخذ مالهم. أمّا دون ذلك اليوم فلا عبرة به، حتّى لو كان جوعا يعضّهم أو إحسانا إلى قوم سفكوا قيمة عظمى لا تسفك في العادة. مرّة أخرى يثبت لنا (فقه الميزان) أنّه رعاية المآل والصيرورة والنّتيجة، وليس العكوف على مشهد جاثم فيه من الألم الذي فيه.
خلاصة أوّلية في فقه الميزان
يتبيّن لنا من خلال مشاهد ثلاثة نفر إليها موسى الكليم عليه السّلام ليتعلّمها ويتزوّد بها في رحلة النّبوّة ـ سيما مع قوم جبلوا على الإزورار ـ أنّ فقه الميزان له ركنان كبيران ولهما من الفروع والجزئيّات والتّفاصيل ما يملأ الحياة كلّها. أوّلهما هو حسن بناء فقه الميزان مع الله سبحانه، فلا كفران به لما نعلم منه، ولا لمحاولة الإلتحاق بإلهيته. إنّما إيمان بقدر قد ينكشف لنا منه شيء في واقعة ما، وقد لا ينكشف لنا منه شيء. وعند عدم الإنكشاف فإنّ الإيمان بأسمائه ـ ومنها أنّه الحكيم ـ يجعلنا مطمئنّين إلى حكمته فهو يعلم ونحن لا نعلم. وثاني الرّكنين هو أنّ فقه الميزان قوامه مع النّاس رعاية مصالحهم وتقديمها وإيثارها ونشدان كلّ طريق ثالث يحفظ لتلك المصالح حدودا مهما كانت دنيا صغيرة عندما يعزّ إجتراح معالجات تقطع مع عدم الإستيلاء عليها بالكلّية. ذانك المقامان من فقه الميزان (مع اللّه سبحانه ومع النّاس) هما روح فقه الميزان وهما عماده وهما عنوانه الذي تنضوي تحته في كلّ طرفة عين في هذه الدّنيا ما لا يحصى من فروع وتطبيقات جانبية. وليس بعد رعاية حقّ الله وحقّ الضّعفاء ـ حتّى عندما يكون الإستسلام ممكنا ولكنّه ليس شهامة. والمغامرة ممكنة ولكنّها عمليّة جراحيّة قاتلة ـ من فقه الميزان من شيء. ما سوى ذلك سوى الطّيش والغلوّ.
|