همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
في مقهى السّعادة
 كالعادة ياسادة، عندما ضقت بهمّي، وسئمت محبسي في غربتي، خرجت أبحث عن فضاء مفتوح بلا قيود ولا حدود، تجولت في محيط الحيّ لعليّ أجد ما أريد، ولكنّ التّعب يصيح بداخلي: ألا تستريح؟  توقّفت قليلا ثمّ استأنفت المسير في شارع كبير أقرأ اللاّفتات بعدّة لغات، وأخيرا جلست وحيدا بمقهى السّعادة، وحولي وأمامي محلاّت خضر وفواكه، أتابع حركة المرور رجالا وركبانا، وبينهم متسوّلون ذكورا وإناثا، يصطادون المارّة بهيئات معلومة، وعبارات منغومة مهمومة، وحارس الحارة يركض في كلّ اتجاه؛ لملاحقة السّيارات والدّراجات المغادرة أو الفارّة؛ لتحصيل ثمن الخدمة الموهومة، عن طريق ارتداء صدريّة صفراء تتّخذ شعارا لإجبار الملأ على الأداء.
 تقف سيارات فارهة أحيانا لنساء ورجال سمان، يختارون من الفواكه والخضر أجودها وأغلاها، يؤدّون ثمنها بسخاء، ثمّ تُحمل إلى مركباتهم دون عناء، وقبل مغادرة المكان يتحلّق حولهم  المتسوّلون لطلب المؤونة، وحارس الحارة لطلب المعونة. حركة المركبات في اتجاه واحد وهي على اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها تكاد لا تفتر، وفضاءات المنطقة يلفها البخار والغبار، وأجراس المركبات والعربات، والمارّة يقطعون الطّريق بتحدّ وعناد، ومن يجرؤ أن يسقط في دوّامة إجراءات حوادث المرورالتي تكلّف الكثير من إضاعة الوقت والمال وضيق الصّدور.
اسمع خلفي كلاما بموجات ومقامات مختلفة، وضحكات وقهقهات متنوّعة، نغما وصدى وعمقا وبعدا، ولأوّل مرّة اكتشف أنّ للحديث تصنيفات عدّة تكاد لا تحصر، من غلظ الصّوت ورقّته، وصفائه ودمدمته، وطيبه وخبثه، كما أنّ للضّحك أصنافا وألوانا وأشكالا وأوزانا، وأعترف بعجزي عن تصوير هذا التّنوّع والاختلاف باللّغة والحروف، مضامين أحاديثهم تنحصر في التّعليق على مباريات كرة القدم وأجور العمّال والموظّفين، ومسلسلات وأفلام، وسرد نوادر البائسين والحمقى والمجانين.
ومن حين لآخر يمرّ أمامي شابّ مشرّد، أسمر حافي القدمين، رثّ الثّياب، أشعث الشّعر، في حوار علني مع نفسه، يسرق النّظرات، ويمسح المكان بلا استئذان، يقف مركّزا نظره تجاه بعض الجلساء، يطلب العون بلا تذلّل أو استعطاف، ثمّ ينعطف إلى مسار آخر لفترة قصيرة؛ ليظهر في مقاهٍ متقاربة ثمّ يعود ويتفحّص الوجوه الجديدة التي استقرت بالمكان فيسألها الإحسان، وهكذا تتكرّر عمليّة الظّهور والاختفاء، حتىّ يظنّ البعض أنّ للرّجل مهمّة ما ينجزها بطريقته الخاصّة.
يقترب منّي كهل قصير القامة، كثّ شعرالشّارب عظيم الهامة، بائع متجوّل يحمل بين يديه بضائع شتّى: محافظ صغيرة، وحامل المفاتيح، ومناديل ورقيّة، وجوارب وأحزمة، وعلى الكتف سراويل وقمصان، وخلف ظهره كيس متوسّط الحجم يختزن فيه بضاعته، يقرأ ملامح زبناء المقهى، ويعرض سلعته على من يعرف ومن لا يعرف، بثمن يختلف باختلاف الوجوه والهيآت،ولعلّه رآني شارد الذّهن غريب الدّار، فهزّ شاربه وتجاوزني الى مجموعات نشطة خلفي، يطلب الرّزق بهذه الوسيلة ليصون كرامته ويغني أسرته .
على حافة الطّريق امرأة شابّة عن يمينها طفل صغير متمرّد،  يتفلّت من حراسة أمّه الهائمة في حديث دافىء بالهاتف، تدلّ ملامح وجهها على السّرور والرّضى، وعن يسارها امرأة عجوز بعكاز يكاد لا يطيق ميلها، ترفع كفّها لسيارات الأجرة لتنقلها إلى ماواها، ولكن بدون جدوى. أخيرا وقف سائق سيارة للنّقل السرّي، فحمل العجوز والشّابة والطّفل، وغادر المكان بسرعة قبل أن تصطاده حملة الباحثين عن مخالفات الطّرق و لذوي المرْكَبات التي تتحرّك في كلّ المواقع والاتجاهات.
صوت المؤذّن يرتفع لصلاة الظّهر من المسجد المقابل للمقهى، نهضت من مجلسي واتجهت إلى الدّاخل بحثا عن النّادل، سلّمته ثمن المشروب وزيادة، وغادرت مقهى السّعادة إلى مكان العبادة؛ لأداء الواجب الذي ترتاح لإنجازه النّفوس، وتشعر بالاطمئنان والأمن، وأنت في بيت اللّه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، وحول باب المسجد رجال ونساء وأطفال من أهل البلد، ومنهم غرباء من خارج الوطن يستجدون ويلحّون في الطّلب، ويكشفون أوراقهم أو بعض عاهاتهم للتأثير في القلوب.وهذه عادة لا تحول ولا تزول، فمتى تختفي هذه الظّواهر المؤلمة للعين والقلب؟وللّه في خلقه شؤون.