في النقد الأدبي

بقلم
أ.د.وليد قصاب
نعم للاَّدينيّ ولا للدِّيني!!
 لو شاء الباحثُ لسوَّد الصَّفحاتِ الكثيرةَ في تسويغ الدَّعوة إلى الأدب الإسلامي، وبيانِ ضرورته في هذا العصر خاصَّة، وإذا كان تبنِّي كلِّ فكرٍ يمثِّل هُويَّة الأُمَّة التي ننتمي إليها هو من البَدَيهِيَّات التي لا تحتاج إلى مسوِّغٍ أصلاً؛ فإنَّه -من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن- نذكرُ أنَّ على رأس هذه المسوِّغاتِ -إن كان لابدَّ من مسوِّغاتٍ لمَنْ لا يقتنع إلاّ بها- تفشِّي الدَّعوةِ إلى أدبٍ غيرِ إسلاميٍّ؛ بل إلى كلِّ أدبٍ غيرِ دينيٍّ، ولا خُلُقيٍّ، ولا هادِفٍ؛ بل إلى مُعاداة كلِّ أدبٍ من هذا القبيلِ، وإقصائِه، والتَّعْتيمِ عليه، أو الاِنتقاصِ من قَدْره والإزْدرَاءِ به، وعده لوناً من ألوان القَوْل المتخلِّف الرَّجْعِيِّ!
إنَّ الأدب الذي تدعو إليه اليومَ طائفةٌ ممَنْ يُسمَّوْن- زُوراً و بُهْتاناً - «رموزَ الأدب العربيّ المعاصر!» هو الأدبُ اللاّدينيّ، أو قُلْ -بتعبير أصرحَ وأوضحَ- الأدبُ الذي يشجِّع على الانغماس في حمأة الرّذيلة والمجون، الأدبُ الذي يعتدي على الدِّين والقِيَم والأخلاق، وهم -في هذه الدّعوةِ الدّؤوبِ- لا يَرَوْنَ «الإبداعَ» غيرهُ. الإبداعُ الحقيقيُّ عندهم هو التَّحرُّر من هذا الذي يسمُّونه: «أغلالَ الدِّين والأخلاق والأعراف!».
يَرْصُدُ مَنْ يسمَّى «أحدَ كبارِ النُّقاد المعاصرين» - وهو كمال أبو ديب(1) - ملامحَ الأدب الحقيقيِّ المعتبَر، فإذا هو: أدبُ الخطيئة، أدب المُحَرَّم!! إذ إنّ ثَمَّةَ تعارضاً -كما يدَّعي- بين القداسة والحداثة.
يقول: «ارتبطَتْ في الثّقافات البَشَريّة شهوةُ الاكتشاف باقْتِراف الخطيئة، بالخروج على السُّلْطة، بالشَّهوة الجنسيَّة! اقترافُ الخطيئة يمثِّلُ مكوِّناً (بِنْيَوِيّاً) للحَدَاثَة في مراحلَ تاريخيّةٍ مختلفةٍ. الخطيئةُ رمزُ التَّجَدُّد وانفجار الحياة، والقدرة على قهر الموت، وابْتِعَاث الحيوية..»(2).
وفي هذه الدَّعوة إلى انتهاك المُحَرَّم، واقتناصِ اللّذَّة وحدها؛ يقول الكاتب المغربي «المشهور» «محمد بنيس» (3) في تقديمه لكتاب «الاسم العربي الجريح»، للكاتب المغربي «عبد الكريم الخطيبي»(4)، عازفاً على وَتَر «أبي ديب»، أو عازفاً «أبو ديب» على وَتَره:
«لقد اهترأ العالَم العربي، بتراكم المفاهيم والقِيَم المتعالية، التي تفصل بين الإنسان وجسمه، الإنسان ومستقبله، تُحرِّم متعتَهُ وشهوتَهُ وتغيُّرهُ، ومن غير مبالغةٍ نقول: إنَّ التَّحرُّر العربي يفترضُ تحرُّر الجسم هو الآخر، وقد آن لهذه السّماءِ المتعاليةِ أن تكُفَّ عن تغييب جسمنا وتشطيره إلى نور وظلام، يمين ويسار، خير وشرّ، ملائكةٍ وشياطينَ!! آنَ لهذا الجسمِ أن يحتفل بشهوته ومتعته..»(5).
و«عبد الكريم الخطيبي» -الذي يُشيد به «محمد بنيس» ويقدِّم لكتابه-  وهو يقول في كتابه السَّابق، موطِنِ الإشادة: «إنَّ قراءةَ القرآن مهيِّئةٌ للجِماع! إنَّ القرآنَ هو الكلام الشّعائري الفاتحُ للشَّهيَّة!! إنَّه وسيلةُ الجِماع.. واللّه يحدِّد الآدابَ الشَّبَقِيَّةَ، والنّبيُّ يُشرِّعها، والكاتبُ يدوِّنها..!!!»(6).
أرأيتَ اجتراءً على اللّه ورسوله، وعلى الدِّين والأخلاق والفضيلة، أكثرَ من هذا الاجتراءِ، في كلام متهافت سخيف؟!!
إنَّ هذا هو الأدبُ الذي تدعو إليه طائفةٌ غيرُ قليلة من المشهورِين والكبراء، وإنَّ الاستهتار الدِّينيَّ، والعبثَ بالمقدَّساتِ، والتفحُّشَ بالألفاظ والعباراتِ؛ هو من الملامح الكبرى التي لا تُخطِئها عَيْنٌ لهذا المسمَّى «أدباً حَدَاثِيّاً».
يقول أحد الكبراء مُشيداً بأبي نُوَاس؛ لأنَّه في زَعْمِهِ: «شاعرُ الخطيئة؛ لأنَّه شاعر الحريَّة! فحيث تَنغَلِق أبوابُ الحرّية؛ تصبحُ الخطيئةُ مقدَّسةً؛ بل إنَّ النُّواسيَّ يأنفُ أن يَقْنَعَ إلاّ بالحرام ولذِيذهِ!! فالخطيئةُ -بالنّسبة إليه، في إطار الحياة التي يَحْياها- ضرورةٌ كِيَانِيَّةٌ؛ لأنَّها رمز الحرّيَّة، رمزُ التَّمرُّد والخلاص»(7).
ومِن رَكْبِ الكُبَراء هؤلاءِ «جلال صادق العَظْم»(8)، الذي لا يكتفي بالدِّفاع عن «سلمان رشدي» (9) الذي افترى على رسول الله -ﷺَ - وتجرَّأ عليه، وعلى نسائه العفيفاتِ الطّاهراتِ؛ ولكنّه قَرَنَ ذلك بالدَّعوة الصُّراحِ إلى الإلحاد! وهو يدعو المسلمِين -من باب شهامته وحرصه على مصلحتهم!- أن يستبدلوا ما يسمِّيه «حَدَاثَةَ العقل والعِلْم» بأصالة الدِّين والشَّرع، في إيهامٍ خبيثٍ بأنَّ العقلَ والدِّينَ متناقِضان، أو أنّهما لا يمكن أن يلتقيا!
يقول الرَّجلُ في الإشادة بـ «آيات شيطانيّة»، وفي انتقاص جميع من نقدوها وتجهيلهم: «حين أُمْعِنُ النَّظَرَ في النَّتائج البعيدة المتضمَّنة في مواقعِ (رشدي) الأدبيّة، وانتقاداته السّياسيّة، وسخريته الاجتماعيّة، ومعارضته الدّينيّة؛ أستنتجُ أنَّ العالمَ الإسلاميَّ بحاجةٍ -اليومَ- إلى حَدَاثَةِ العقل والعِلْم، والتَّقدُّم والثَّورة، بدلاً من أصالة الدِّين والشَّرع والتّراث والرَّجْعَة..!!»(10).
ماذا يَتوقَّعُ المَرْءُ من أقوال هؤلاء القومِ، الذين سوَّدوا عشراتِ الآلاف من الصّفحاتِ في الدَّعوة إلى مثل هذا الأدبِ الإلحاديِّ الإباحيِّ الهَجِينِ، من غير أن نجد مَنْ يأخذُ على أيديهم، أو يشدِّد النّكيرَ عليهم.
بل إنَّ الملاحَظ - الذي لا يخفى على أحد - أنَّ هؤلاء هم وحدهمُ الذين يتصدَّرون اليومَ واجهةَ الثَّقافة العربيّة المعاصِرة، وهم وحدهم المُنَصَّبُونَ -على رُغْم أَنْف الجميع- رموزاً لهذه الثّقافة، ورادةً لها، وهم وحدهم الذين يَحصُدون الجوائزَ العربيّةَ والدُّوَلِيَّة، ويملؤون صدور الصُّحف وأعمدة المجلاتِ الذَّائعةِ السيَّارةِ.
وإذا ما نَفَرَتْ طائفةٌ من شرفاء هذه الأمّةِ لتَذُودَ عن دينها وعقيدتها، ولتَذُودَ عن الفضيلة والشَّرف، وعن جميع القِيَم النَّبيلة التي انتهكها هؤلاء الكُبَراءُ، وصغارٌ مُقَلِّدُونَ رَضُوا أن يكونوا أذناباً لهم؛ فَدَعَتْ إلى أدبٍ هادِفٍ أصيلٍ، ينطلق من عقيدة الأمَّة وذَوْقِها؛ قامتِ الدُّنيا ولم تكد تقعد:
- لماذا تدعو هذه الطّائفةُ إلى أدب إسلاميٍّ؟!
- ما هذه البِدْعَةُ المُسْتَحْدَثَةُ؟!
- ما هذا الخروجُ على المألوف؟!!
- إنَّ هذا لم يعْرِفْه النَّقْدُ العربي، ولا ذكره الآباءُ والأجداد، ولا نظَّروا له!
- هذا تصنيفٌ للأدب والأدباء.
- وهذا احتكامٌ إلى (الأَيْدُيولوجيا)!
- وهذا إقحامٌ لغير الأدبيِّ في الأدبيِّ...
إلى غير ذلك من حُجَجٍ واهيةٍ مُتهافِتةٍ، هم أَوْلَى بكثيرٍ منها، ولكن، كما قيل: «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ»!
لماذا يُباحُ لهؤلاء الكبراءِ -وهم كثرةٌ غيرُ منكورةٍ ولا مجهولةٍ- أن يدْعُوا إلى أدبٍ غيرِ دينيٍّ؛ بل إلى أدبٍ إلحاديٍّ غيرِ خُلُقِيٍّ، ولا يُتاحُ لطائفةٍ أن تدعوَ إلى أدبٍ دينيٍّ إسلاميٍّ؟!
كيف يَسُوغُ -في منطِق أمَّةٍ عقيدتُها الإسلام ودستورُها كتابُ اللّه، وشعارُها الفضيلةُ والنُبْل- أن يحظى فيها ناسٌ يدْعُون جِهاراً عِياناً -كما رأيتَ- في نماذجَ يسيرةٍ جدّاً أوردناها- إلى أدبٍ يَهزَأُ بالدِّين، ويعتدي على الذَّات الإلهيّة نفسِها، ويروِّج لكلِّ إباحيّةٍ ومنكرٍ، ثم إذا قام في وجه هؤلاءِ قومٌ ينتصرون لدِينهم؛ اتُّهِموا بأنَّهم «أُصولِيُّون»! أو «سَلفِيُّون»! أو «رَجْعِيُّون»!! أو... أو...
لكنْ؛ في زمن السّقوط والانحطاط: «يُرى حَسَناً ما ليس بالحَسَن»!!
إنَّ الأدب الإسلاميَّ إذا لم يكن إلاّ انتصاراً للدِّين ممّن يعتدي عليه ليلاً ونهاراً في هذا الزَّمن؛ فكفاه شَرَفاً، وكفاه فخراً.