تحت المجهر
بقلم |
![]() |
د.محرز الدريسي |
أي دور للتّربية المدرسيّة في التوقّي من السّلوكات المتطرّفة (1-4) |
مقدمة
تحوّلت ضرورة التّفكير في ظاهرة التّطرّف العنيف والوقاية بالتّربية إلى حتميّة ملزمة لثلاثة أسباب رئيسيّة: أوّلا: انتشار الظّاهرة وإمكانيّة رجوعها وتصدّرها وقفزها من جديد بشراسة في سياقات وطنيّة وإقليميّة ودوليّة وجيو استراتيجيّة. ثانيا: تتموقع في مستوى عابر للأوطان وانبثاق ايديولوجيّات متطرّفة مغرية وجاذبة للشّبان في حقل التّربية النّظاميّة وغير النّظاميّة. ثالثا: تحيل إلى دور المدرسة والأنماط التّداوليّة في مسار التّكوين والتّربية الشّبابية. تفرض التّغيرات على النّسق التربوي مسؤوليّات مضاعفة تتجاوز حدود التّعليم في نمطيته التّقليديّة وتفرض على النّسق التّربوي الاضطلاع بدور أكثر أهمّية في تشريب النّاشئة المعايير والقيم التي تحافظ على أمن المجتمع واستقراره، إذ إنّ النّسق التّربوي في الوقت الحاضر أصبح يعاني الكثير من الضّغوط بسبب قصوره عن أداء بعض الأدوار المناطة به، وبالتّالي يتطلّب إعادة النّظر فيه.
إنّ المقاربة الشّاملة في مقاومة التّطرّف تتخطّى المقاربة الأمنيّة والقضائيّة، ما لم ينتقل التّطرّف إلى الفعل واستعمال العنف بشتّى أشكاله. لم تعد هذه الرّؤية محلّ نقاش، صارت قناعة ثابتة بأنّ مجابهة التّطرّف تتمّ من كافّة المداخل الأمنيّة والسّياسيّة والإجابة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والتّربويّة. وبالتّالي يفترض من المدرسة والمنظومة التّربويّة والتّعليميّة بكافة مكوّناتها أن تساهم في مقاومة الأفكار المتطرّفة وتنشئة المتعلّمين في جلّ المستويات الدّراسيّة على نبذ التّطرّف والكراهيّة والعنصريّة والعنف، وتنشئتهم على قبول الاختلاف والتّسامح والتّعايش المشترك كعناصر قيميّة ضروريّة في تماسك المجتمع وانسجامه. إلّا أنّنا نلحظ في وظائف المدرسة فوارق ملموسة بين نبل الغايات وضمور النّتائج، فقد تراجع دورها المعرفي والدّراسي، وتقلصت أدوارها التّربويّة، وطفحت معضلات البرامج والطّرائق البيداغوجيّة، لينكشف استمرار المدرسة التّقليديّة.
الإشكاليّة التي نطرحها في ورقتنا: إلى أيّ مدى حقّقت المدرسة التّكامل بين الدّور التّعليمي والتّربوي الاجتماعي والتّنشئة القيميّة؟ هل تؤخذ السّياقات السّوسيولوجيّة والسّياسيّة والمناخ العام التّربوي في الاعتبار حين بلورة المقرّرات المدرسية وصياغة البرامج؟ ما مدى تضمّن البرامج التّعليميّة المشاغل والأسئلة المرتبطة بالتّطرف والوقاية منه؟ هل توجد استعدادات وعتاد بيداغوجي واستراتيجيّات تربويّة وخيارات تعليميّة للوقاية من التّطرّف؟ هل ساهمت المنظومة التّربويّة والتّعليميّة والحياة المدرسيّة (المرجعيّات- البرامج- الكتب المدرسيّة- المواد الاجتماعيّة ومواد القيم) في التّنشئة على نبذ التّطرّف والنّأي عن الفكر القصووي وتجنّب القناعات المتطرّفة؟
1 - في ضبابية المفهوم وغموضه:
رغم الحديث المستفيض حول التّطرّف والإرهاب إلّا أنّه لا يوجد تعريف محدّد يمكن الاحتكام إليه. أخفق المجتمع الدّولي في الوصول إلى تعريف للإرهاب، والمتابع لنقاشات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في اللّجنة القانونيّة(1) منذ عام 1963، يتبيّن بوضوح مدى اختلاف وجهات نظر الدّول نحو التّطرّف والتي تتوقّف على النّظرة المصلحيّة للدّولة بصرف النّظر عن المبادئ والقيم الأخلاقيّة. وهي مفردة متغيّرة ونسبيّة يختلف معناها من زمن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، وفقاً لشبكة القيم السّائدة، فما يعتبر تطرّفاً في زمن قد لا يكون مقبولا في زمن آخر، وما ينظر إليه على أنّه تطرّف في مجتمع ما قد يكون مألوفا في مجتمع آخر، والاعتدال يتغيّر مفهومه بتغيّر البيئات الثّقافيّة والدّينيّة والحضاريّة. لكن ما يتّفق عليه عموما أنّ التّطرّف لغويّا هو عكس التّوسّط والاعتدال، ويعني الغلوّ ومجاوزة الحدّ، ولا يمكن اعتباره غريزيّا في الكائن البشري. إنّه نتيجة تأويلات خاطئة للأفكار والسّلوكات وهيمنة ثقافة الكراهيّة والجهل.
فالتّطرف لا يحتاج للامتداد واكتساح العقول إلاّ ليقينيّات مطلقة وإيمانا ثابتا بصواب وحقيقة ما يُعتقد به، وقناعة تامّة بتفرّد أفكارهم ومعتقداتهم، ويكون التطرّف مرتبطا دائما بما هو فكري بالأساس، وعليه، فإنّ التّطرف مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تتجاوز المتفق عليه سياسيّا واجتماعيّا ودينيّا وثقافيّا، وهو أسلوب مغلق للتّفكير يتّسم بعدم القدرة على تقبّل أيّة معتقدات تختلف عن معتقدات الشّخص أو الجماعة أو التّسامح معها(2). يقارب هذا النّمط من التّفكير المعتقد أو القناعة على أنّها صادقة صدقا أبديّا وصالحة لكلّ زمان ومكان وغير قابلة للمناقشة أو البحث عن أدلّة تؤكّدها أو تنفيها. وهي المصدر الوحيد لمعرفة مختلف قضايا الكون، وبناء على ذلك فإنّ الجماعة المتطرّفة تميل إلى إدانة كلّ اختلاف عن المعتقد الذي تعتقده.
لا ينشأ الفكر المتطرف من الصراع في أرض الواقع، ولا من المحاولة والخطأ ولا من الخبرات المكتسبة، بل ينشأ غالبا من أطر دينيّة وأفكار جاهزة سلفا(3). ويشير علم الاجتماع إلى التّطرّف على أنّه نوع من الجمود والانغلاق. أمّا في مجال علم النّفس فإنّ التّطرّف يأخذ اصطلاحا مختلفا هو التّعصّب وحكم مسبق لا أساس له ولا سند منطقي يدعّمه، وإلى التّصلّب بمعنى عجز الفرد/ التّلميذ نسبيّا عن تغيير سلوكه أو اتجاهاته. وتسود هذه الحالة في المجتمعات الرّاكدة، حين تحتكر طائفة أو طبقة لنفسها حقّ الوعظ والإرشاد والتّعليم وتفسير ظواهر الكون اجتماعيّة كانت أم طبيعيّة، ووجود هذه الطّبقة واستمرارها رهن بعاملين اجتماعيين، أولهما: قدرتها على تنظيم صفوفها كجماعة ممّا يعطي قوّة وتأثيرا لأنماط الفكر المنغلق، وثانيا: تنائي هذا الفكر عن صراعات الحياة اليوميّة التي لا تتوقّف(4). ويحيل التّطرّف إلى مسار قطيعة اجتماعيّة وشرخ أخلاقي يدفع الفرد/ التّلميذ إلى تبنّي رؤية أخرى للمجتمع وسلوكات مغايرة ويشكّك في العقد الاجتماعي. وأبرزت عديد الدّراسات أنّ الشّخص المتطرّف يمرّ بأزمة ثقة تجاه الدّولة والمجتمع عموما نتاج الشّعور بأنّه على هامش المجتمع.
2 - السّياقات السّياسيّة والثّقافيّة والتّعليميّة:
أفرزت الأحداث الإرهابيّة زخما نحو مواجهة التّطرّف، ورغبة في اجتثاث مصادره، وإرادة في تجفيف منابعه. وكان من الطّبيعي أن تلتفت الأنظار إلى المدرسة وإلى مناهج التّعليم بحثا عن مسؤوليّتها في إنتاج الفكر المتطرّف والسّلوك الإرهابي. هذا الوعي لم يكن ذاتيّا ومن داخل الثّقافة العربيّة والإسلاميّة، ولم يكن مرحلة من مراحل تطوير البرامج المدرسيّة والارتقاء بقيمها. بل تحت ضغط الدّوائر السّياسيّة الغربيّة ووسائل إعلامها التي شرعت تطالب بضرورة تغيير البرامج الدّراسيّة ومناهج التّعليم في العالم العربي الإسلامي متّهمة إيّاها بأنّها المسؤول الرّئيسي عن ظاهرة التّطرّف العنيف. وتكثّفت المطالبة خاصّة بعيد أحداث سبتمبر 2001، حين طرحت عدّة فرضيّات لفهم موجات التّطرّف التي بلغت ذروتها حتّى تحوّلت إلى إرهاب. وتزامن ذلك مع بروز نظريّات فوكوياما(5)، وهنتغتن(6) التي ترى أنّ العالم الإسلامي ظلّ خزّانا للتّطرّف والعنف، لأنّ ثقافته تحرّض على ذلك وأنّ العائلة والمدرسة تحديدا تقومان بتنشئة الأطفال على هذه القيم العنيفة والمتطرّفة. لذلك طرحت فكرة إجراء إصلاحات عميقة في النّظم التّربويّة وتحديدا في التّربية المدرسيّة.
انطلقت عمليّات الإصلاح في المدارس الدّينية في باكستان، باعتبارها المصدر الذي خرجت منه طالبان، وقدّمت الحكومة الأمريكيّة دعماً لباكستان لبناء بنك معلومات عن تلاميذ المدارس القرآنيّة بغية توفير معلومات أساسيّة عن كلّ تلميذ ومدرّس في هذه المدارس، ومراقبة منشورات هذه المدارس ودور النّشر التّابعة لها، وتجديد مضامين البرامج الدّراسيّة، وتقديم دورات تدريبيّة للمدرّسين لمتابعة هذه البرامج.
مثلما ارتبط الحديث عن ضرورة تغيير البرامج بالصّراع العربي الإسرائيلي، حيث كانت إسرائيل تطالب بمشاريع دورات الحديث عن السّلام بمراجعة المناهج العربيّة وإزالة كلّ ما يؤدّي إلى غرس الكراهيّة في التّلميذ العربي، ممّا قد يعكّر مسيرة السّلام والمصالحة. والأمثلة عديدة منها، أفادت دراسة أنجزتها منظّمة أميركيّة غير حكوميّة أنّ البرامج الدّراسيّة الجديدة التي اعتمدتها السّلطة الفلسطينيّة- بعد إمضاء اتفاقيات أوسلو- في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة «لا تدرس مبادئ السّلام والمصالحة مع إسرائيل». واعتبرت منظّمة «يوهانان مانور» أنّ النّصوص الجديدة لا تدرس مبادئ السّلام والمصالحة مع إسرائيل حتّى إنّها ترفض وجودها، وأنّ المنحى التّعليمي للسّلطة الفلسطينيّة ليس متطابقاً مع المبادئ التي حدّدتها منظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة (يونسكو)، وشدّدت الدّراسة أيضاً على أنّ الكتب الدّراسيّة «تقدّس الشّهيد والجهاد» مع أنّها لا تعرب مباشرة عن دعمها للإرهاب. وتمّ التّثبّت من المقرّرات الفلسطينيّة من قبل هيكل «IMPACT» بمناسبة مرور 50 سنة على أحداث مونيخ، بيّنت أنّها تقدّم للتّلاميذ على أنّها حدث إيجابي وشرعي في كتب التّاريخ، وأنّها صفحة من صفحات «المقاومة» ضدّ الصّهيونيّة، وعقدت ندوة في جامعة تل أبيب بعنوان «دراسة تأثير القرآن في عرقلة التّطبيع مع إسرائيل»، واتهمت الدّوائر الإسرائيليّة الفلسطينيّين بأنّهم غير جادّين في السّلام.
جرى ذلك في مناخ عدّت فيه الأنظمة التّربويّة في بعض البلدان العربيّة الإسلاميّة بأنّها تدعّم التّطرّف والإرهاب، وتمّ أنذاك القيام بجملة من الإصلاحات التّربويّة تباعا في العديد من البلدان شمل الإصلاح أوّلا مادّة التّربية الإسلاميّة والمواد الاجتماعيّة وإدراج مواد أخرى على غرار المواد الفنّية، وشمل الإصلاح الثّاني أنشطة مدرسيّة غير تعليميّة من قبيل النّوادي وزيارات المسارح والآثار...الخ. وهو ما بيّنه تقرير نشره (Maghreb Economic Forum) وفق ستّ (6) مؤشّرات: التّربية، الشّغل، الانخراط المواطني، المشاركة السّياسيّة، المقبوليّة الاجتماعيّة، الدّين، البعد التّربوي. إلاّ أنّ هذه الإصلاحات كانت مجتزأة ومتسرّعة وبرؤية مشوّشة لا تستند إلى موقف وخيارات استراتيجيّة، بقدر ما اشتغلت وفق منطق إطفاء الحرائق، وبالتّالي لم يتم اجتثاث التّطرّف، بقدر ما ازداد انتشارا واتساعا وتنوّعا في الشّكل والأدوات.
3 . نماذج من الكتب العربيّة التي تنشر التّطرّف:
معركة المقرّرات
أدى انتشار أعمال العنف وتصاعد مؤشّراتها في الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى المطالبة بمراجعة مناهج التّعليم، وقد أجريت دراسات عدّة عن مدى صلة مناهج التّعليم بالإرهاب، ونادى عدد من التّربويّين إلى تنقية المناهج من كلّ ما يغذّي الإرهاب ويزيد جذوته. ففي أواسط التّسعينات أنجز محمد العيادي أطروحة دكتوراه حول الكتب المدرسيّة وتدريس الفعل الدّيني في المدارس، نوقشت سنة 1996 بجامعة باريس (8)، توصّل إلى خلاصة أنّ هذه الكتب المدرسيّة تنشر معرفة سياسيّة وايديولوجيّة متأثّرة الى حدّ كبير بالأصوليّة الإسلاميّة.
وفي نفس السّنة صدر تقرير بعنوان « Alerte, Maroc, l’école de la haine» في فترة «إدوارد بالادور»(7) تُنقد فيه «انحرافات الكتب المدرسيّة» لحثّ السّلطات المغربيّة على تغيير البرامج التّعليميّة، وهو ما شرعت فيه خلال العودة المدرسيّة سنة 1996، وخاصّة بعد أحداث مرّاكش سنة 2003، وتحت ضغط وسائل الإعلام تسارع نسق الإصلاح دون أن يبلغ درجة دالّة ونوعيّة في تغيير البرامج.
سأشير باقتضاب إلى بعض النّماذج منها في عدد من البلدان العربيّة: ففي مقرّرات المنظومة التّعليميّة في السّعوديّة نجد أنّ على المسلم أن يكون مخلصاً للآخر ـ المسلم ـ وأن يعتبر الكفّار أعداء له، وإنّ قضاء الإجازة في الغرب ذنب، ورفض تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، يباشر مقرّر دراسي: «إنّ تجاهل الطّقوس والأعياد الخاصّة بالكفّار وإظهار العداوة لهم أحد المتطلّبات الأساسيّة لكره الكفار»، ثمّ ينتهي هذا الجزء بتوصية الشّباب السّعودي بعدم تقليد الغرب في لباسهم وأكلهم وشربهم. ولازال يدرّس فقه الموت والتّعاليم والأذكار التي تلازم عمليّة غسل الميّت، وآيات وأحاديث التّرهيب بعذاب القبر للتّلاميذ في مدارس العالم الإسلامي باستثناء تركيا وتونس. وبيّن «مركز البحوث وجماعات حقوق الإنسان» ومنظمة «هيومن رايتس ووتش» أنّ مواد التّعليم الدّيني لا تزال تتضمّن قضايا إشكاليّة، على سبيل المثال، يحتوي كتاب الصّفّ الخامس من مقرّرات السّعوديّة على مقطع يصف اليهود والمسيحيّين والوثنيّين بـ «الكافرين الأصليّين»، وجاء في كتابٍ آخر:« أولئك الذين يتّخذون قبور الأنبياء والصّالحين مساجد هم أصل الشّرّ»، في إشارة واضحة للمسلمين الشّيعة والصّوفيّة، وخصّصت حوالي عشرين صفحة من الكتاب المدرسي في المرحلة الثّانويّة لموضوع الولاء والبراء.
وتضمّنت المقرّرات الأردنيّة أفكارا في هذا المنحى، حيث وجّه أحد الباحثين الانتباه إلى مخاطر كامنة وصريحة في الكتب المدرسيّة، وصفها بالأصول الدّاعشيّة في المناهج الأردنيّة وغياب ما ينمّي الدّماغ، بسبب وجود الكتب والامتحانات ذات النّمط السّردي التّلقيني، إضافة لتغييب الفنّ والموسيقى والشّعر والعاطفة والحبّ والذّوق عن المناهج. وكشف أنّ أساليب التّربية القائمة على الإكراه والتّخويف والرّعب «لا تنمّي شخصيّات واثقة وقويّة»، مؤكّدا أنّ بناء المواطن لا يكون سوى بالطّرق التّربويّة والإنسانيّة. وأعطى مثالا في منهاج اللّغة العربيّة القديم للصفّ السّابع، الذي درّسه أكثر من ستّ مرّات، في عدّة محافظات، وفي فترات زمنيّة مختلفة: كان هناك موضوع تعبير مقرّر على التّلاميذ كتابته، يتعلّق بالاختلافات بين الشّعوب في عادات الأكل واللّباس، وكان محزنا أن يقرأ في كلّ سنة موضوعات تعبير ينقسم فيها العالم إلى قسمين، مسلمين وكفار، ويتحوّل فيها الحديث عن الاختلاف في عادات الطّعام إلى مقارنات قاسية اللّغة بين الكفّار الذين يشربون الخمر، ويأكلون لحوم الخنزير والحيوانات المقتولة خنقا، من ناحية، والمسلمين الذي لا يأكلون أو يشربون إلاّ طاهرا. إنّ الأنظمة التّعليميّة التي تستثني مجموعات الأقليّات، سواء كانت عرقيّة أو دينيّة، أو تمييزيّة على أساس الجندر، تثير فكرة «نحن» مقابل «هم» وتسهم في تطبيع عدم التّسامح والتّعصب، ويقومون بخلق الظّروف المؤدّية لظهور التّطرّف والعنف.
واحتوت مناهج التّربية الدّينيّة المصريّة بعض الثّغرات التّربويّة مثلا، ربط القيم والأخلاق بالإسلام فقط، وجعل الدّين الإسلامي المصدر الوحيد لها، وتكفير غير المسلمين، وتشبيه المسيحيّين بالرّوم، وربط الهداية بالإسلام، والضّلال بكلّ ما عداه، ووصف المسلمين أنّهم ليسوا جزء من العالم، بل في مواجهة معه. فضلا أنّ التّعليم في مصر ينقسم إلى تعليم عام، وتعليم أزهري، لا يخضع إلى وزارة التّربيّة والتّعليم، بل مباشرة لمؤسّسة الأزهر. توجد مشاكل كثيرة في المناهج الأزهرية، ففي أحد الكتب(8) «إذا ارتد المسلم يُحبس ويعرض عليه الإسلام، وتُكشف شُبهته، فإن أسلم وإلّا قُتل، فإنّ قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه ويزول ملكه عن أمواله زوالاً مراعى، فإن أسلم عادت إلى حالها». أمّا منهج السّنة الثّالثة من الثّانويّة الأزهريّة فيدعو لقتال «الكفّار» بغير إنذار وبغير دعوتهم لدين الإسلام «لأنّ شيوع الإسلام قام مقام الدّعوة إليه، فإن أبوا استعانوا باللّه تعالى عليهم وحاربوهم، ونصبوا عليهم المجانيق، وأفسدوا زروعهم وأشجارهم وحرّقوهم ورموهم، وإن تترّسوا بالمسلمين». هذه الدّروس تساهم بشكل ما في تغذية مكوّنات «القابليّة للتّطرّف»، والأمثلة عديدة حول «الجمود» التّاريخي الذي تعانيه هذه المناهج بما يعارض التّطوّر البشري والاستقرار المجتمعي، وابتعادها عن جوهر النّصّ الدّيني من قرآن وسنّة إلى تأويلات فقهاء تمّ رفعها إلى مرتبة المقدّس.
وشمل البرنامج في تونس ما قبل التّسعينات -قبل الحلقات الإصلاحيّة- دروسا حول الحكومة في عهد الرّسول، الخلافة باعتبارها واجب ديني، القضاء في الإسلام، الجهاد، وغيرها من المواضيع المتعلّقة بالدّولة والمجتمع، كرّست بنية فكريّة منغلقة، فقد ورد في كتاب السّنة (5) ثانوي دعوة صريحة إلى تبنّي نظام الخلافة الإسلاميّة وإقامة الحدود وتكفير الدّيمقراطيّة واعتبار من ينكر الصّلاة مرتدّا ويجب قتله. ويتّجه كتاب السّنة (6) ثانوي بالنّقد التّحقيري السّاخر إلى فلاسفة الغرب المعاصرين مثل روسل وسارتر فهم كفار وصهاينة ويطلب تجنّب قراءة مؤلّفاتهم(9)، وتطرّق كتاب التّربية الإسلاميّة للسّنة (4) ثانوي إلى إباحة ضرب النّساء مدّعيا أنّ ذلك أفضل من طلاقهن. وهي مقاربة تترجم النّصّ الدّيني في خطاب وثوقي ودفاعي يدين الآخر باعتباره سبب المصائب والبلايا متجاهلا معطيات الزّمان والمكان، معيدا سؤال لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟
ظلّت عمليّات الإصلاح تراوح مكانها في عتبات التّعديلات الشّكليّة إلى حدود سنة 2015 حين عقد لقاء موسّع في مراكش، وتمّ إصدار « إعلان مراكش» طالب فيه المشاركون السّلطات التّربويّة في البلدان الإسلاميّة بإنجاز تقييم شجاع لبرامجها الدّراسيّة بغية سحب كلّ المواد الحاثّة على التّطرّف وعلى الفوضى. وكانت الرّسالة واضحة تنقية الكتب المدرسيّة التي تحثّ على الكراهيّة والتّمييز بين الأديان أو الأقليّات، حيث توجد في المقرّرات المدرسيّة أفكار متطرّفة تمرّر بطريقة مدرسيّة سلسة. ازداد التّدقيق في النّظام التربوي وتأثير المؤسّسة الدّينيّة الوهابيّة القويّة، التي تدعو لتفسير صارم للإسلام السّنّي، بعد أن تبيّن أن 15 من 19 من المختطفين الذين نفّذوا هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001 في الولايات المتّحدة كانوا سعوديّين.
كما قلّصت وزارة التّربية بمصر بسحب الآيات التي تحثّ على الكراهيّة لمجابهة التّطرّف وطالبت مؤسّسة الأزهر بإصلاح البرامج المدرسيّة وتنقية الكتب من الآيات التي يؤولها بعض المدرّسين حسب رغباتهم أو رؤيتهم، بل طالب جابر عصفور وزير الثّقافة بحذف مادّة التّربية الدّينيّة(10). وفي الجزائر أصدر وزير التّربية قراراً بحذف آيات وأحاديث التّرهيب بعذاب القبر وفقه الجهاد. وساهمت تونس في تنقية البرامج منذ بداية التّسعينات وخاصّة مادّة التّربية الإسلاميّة، لكن ذلك لم يمنع وجود أعداد غفيرة من خريجي المدارس تتبنّى الفكر المتطرّف فكرا وسلوكا وفي أحيان أخرى ممارسة العنف(11) .
ولمساعدة البلدان تولّى مجلس الأمن الدّولي ومنظمة اليونسكو إصدار العديد من القرارات والمعاهدات في هذا الشّأن. أصدرت منظمة اليونسكو دليلين: الأوّل للمعلّم والثّاني لراسمي السّياسات العموميّة يعرضان فيه دليل إجراءات يساعد المدرسة على المساهمة في المجهود الدّولي في مكافحة التّطرّف العنيف وهي خطّة تستمرّ إلى حدود سنة 2030. نشرت اليونسكـو دليل الوقاية من التّطرّف العنيف بالتّربيـة «La prévention de l’extrémisme violent par l’éducation» لفائدة صانعي السّياسات العموميّة، وهذا الدّليل نتيجة القرار الذي تبنته اللّجنة التّنفيذيّة لليونسكو في دورتها 197 حيث تعترف الدّول الأعضاء بالدّور الأساسي للتّربية في مقاومة التّطرّف العنيف وطالبت اليونسكو مساعدتهم في ذلك. ويوفّر الدّليل إرشادات تقنية لمهني التّربية حول الوسائل المستعملة لمواجهة المعضلات التي يطرحها التّطرّف في كلّ مجتمع. ويساعد صانعي السّياسات العموميّة على بلورة سياسات في صلب وزارات التّربية في تحديد الأولويّات والتّخطيط لوضع إجراءات وقائيّة فعليّة. مع التّأكيد على عدم وجود إجابة واحدة أو تفاعلات منمّطة وإنّما تتنوّع حسب وضعيّات النّزاع والعامل الدّيمغرافي ونمط المواطنة والمنظومة التّربويّة...، بهدف تدعيم صمود المتعلّمين «la résilience des apprenants» في مواجهة خطاب الكراهيّة والتّطرّف.
الهوامش
(1) منذ عام 1963، وضع المجتمع الدولي 19 صكا قانونيا دوليا لمنع الأعمال الإرهابية. ووُضعت تلك الصكوك تحت رعاية الأمم المتحدة.
(2) سمير، نعيم أحمد، « المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني: حالة مصر»، المستقبل العربي، عدد 131، 1990، ص 111-112.
(3) Karl, Manheim, Ideology and utopia: an introduction to the sociology of knowledge, (New York: Harcourt Brace and Co,1936), p.10-11.
(4) Ibid, p.13.
(5) فرنسيس، فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين، جميل قاسم، ورضا الشايبي (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1993).
(6) صامويل، هنتغتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب (مصر: سطور، 1992).
(7) رئيس وزراء فرنسي (1993-1995).
(8) كتاب «الاختيار لتعليل المختار» المقرر على تلاميذ الأزهر، (انظر تحت عنوان «أحكام المرتد»، ص 366).
(9) انظر: محمد، الشرفي، الإسلام والحرية. (تونس: دار الجنوب للنشر 2002)، ص 232.
أحمد، خالد، كيف زرع الفكر التكفيري في ثمانيات القرن العشرين بتونس، شهادة للتاريخ؟ (تونس: منشورات زخارف، 2019)، ص 29.
(10) في حوار مع موقع الوطن، الرابط: https://www.elwatannews.com/news/details/922852
(11) عبد اللطيف، الحناشي، السلفيّة التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات «الدّعوة» إلى تفجير العقول، (الدار التونسية للكتاب، 2020).
|