بحوث ودراسات

بقلم
د.جميل حمداوي
مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي (3) عند المتصوفة
 إذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النّص في الوصول إلى الحقيقة الرّبانيّة، وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي، والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي، فإنّ المتصوّفة يعتمدون على الذّوق والحدس والوجدان والقلب في إدراك هذه الحقيقة السّرمدية. أي : إنّ لغتهم لغة باطنيّة تنفي الوساطة، وترفض الحسّية، وتتجاوز نطاق الحسّ والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي. ومن ثمّ، فاللّغة قاصرة في ترجمة التّجربة الصّوفية اللّدنية الجوّانية. لذلك، يلتجئ المتصوّفة إلى مصطلحات رمزيّة لها سياقات خاصّة، وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها، استقيت من مجالات عدة . ومن هنا، يمكن الحديث عن اللّفظ المشترك داخل الحقل الصّوفي . ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصّوفية، نذكر: علوم الشريعة، وعلوم العقيدة، والآداب، وعلوم اللغة، والفلسفة، وعلوم الآلة، فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...
ومن مشاكل الاصطلاح الصّوفي التّعدد في الألفاظ، والتّعدد في المعاني، والاختلاف بين الصّوفية في معنى مفهوم ما، وهذا راجع لاختلاف التّجربة الصّوفية من تجربة إلى أخرى (1).  
وعليه، فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها عند المتصوفة، وهي: قضية العرفان، وثنائية الظاهر والباطن، وإشكالية التأويل؛ لأنها هي التي ستميّز الخطاب الصّوفي عن الخطاب الفلسفي، والخطاب الفقهي، والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي، وهو من أوائل المؤلّفين في تاريخ التّصوف في الإسلام، يعتبر المتصوّفة من علماء الباطن. وبالتّالي، فالتّصوف هو علم الباطن، بينما الفقه هو علم الظاهر. وفي هذا يقول في كتابه «اللمع»: «إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشّريعة الذي يدلّ ويدعو إلى الأعمال الظّاهرة والباطنة. والأعمال الظّاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنّما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظّاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب، وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة الذي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء، وقد قال تعالى: «وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة»( لقمان20). فالنّعمة الظّاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظّاهرة من فعل الطّاعات، والنّعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل «ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»( النساء83)، فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوّف لأنّ لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول صلى الله عليه وسلّم ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن» (2). 
ومن هنا، فإنّ المتصوّفة يتجاوزون الحسّ والظّاهر إلى استكناه القلب، واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية، وتأصيل حضرة ربانية قوامها: العشق، والمحبة، والزهادة، وتأويلها عرفانيا ولدنيا، بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النّصوص، والالتزام بسياقاتها السّطحية، وذلك  مخافة من التّأويل، وإثارة الفتنة في المجتمع.
هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: أولا، المصادر الداخلية التي تتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية،  والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية.
 ثانيا، المصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي، والهرمسيـــة، والأفلاطونيـــة المحدثـــة، والتشيـــع، والفكر الباطني، ناهيك عن التيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية. 
وإذا كان الزّهد والتّصوف الإسلامي السّني لهما جذور داخليّة بدون شكّ ، فإن التّصوف الفلسفي كما عند الحلاّج، وأبي يزيد البسطامي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والسهروردي، على الرّغم من طابعه السّني والشّرعي في الكثير من النّصوص و المواقف، فإنّ له جذورا خارجيّة؛ نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي، كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه: «بنية العقل العربي»: «وإنما ذكرنا الإسماعيليّة هنا لأنّه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.» (3). 
ويذهب ابن خلدون في كتابه «المقدمة» إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشّيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف. ويقول ابن خلدون في هذا الصدد: « إنّ هؤلاء المتأخّرين من المتصوّفة المتكلّمين في الكشف، وفيما وراء الحسّ، توغّلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة، وملأوا الصحف منه ، مثل: الهروي في كتابه «المقامات» وله غيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم» (4). 
وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية ، بينما تحيل فكرة الفناء على النرڤانا البوذية، وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين، وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.
وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية، مثل: شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال: « رفعني- الله- مرّة فأقامني بين يديه، وقال لي يا أبا يزيد: إن خلقي  يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، والبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقـــك قالــوا: رأينـــاك ، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنـــاك». ومن ذلك أيضا قوله: « أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومـــة، فلم أزل أطير في هواء الكيفيّة عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرّة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزليّة فرأيت فيها شجرة أحدية، ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة» (5). 
فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين، أمثال: جلال الدين الرومي، والسهروردي، وابن عربي، وأبي يزيد البسطامي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين...
وهكذا، فقد ارتبطت الحقيقة عند المتصوفة في التاريخ الإسلامي بالقلب العرفاني تحلية وتخلية ووصالا، واقترنت بالرّوح الوجدانيّة حضرة وسلوكا ومقاما، واختلطت بالهذيان اللاشعوري تأويلا وإفصاحا وتعبيرا، وارتكزت على السّحر الأسطوري فهما وتفسيرا، واستندت إلى الكرامات الخرافية الغيبيّة سردا وتخييلا وتخطيبا، واعتمدت على التصوّرات العجائبيّة الخارقة. كما ارتبطت الحقيقة الصّوفية عند الفرق الطرقية بالتدجين، والاستلاب، واستغلال الناس، وخدمة السلطة الحاكمة الجائرة، وذلك على حساب الحقيقة الصادقة واليقينية.
هذا، وقد نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي، فهناك من يدافع عنه، ويعتبره فعلا إيجابيا. وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية. ومن هؤلاء الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصّوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا، وسلوكا تواكليا، فالحقيقة عند الصوفية « ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة» (6). 
ولكن هناك من يشيد بالفكر الصّوفي، ويعتبره مسلكا للنّجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة، لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية، وأزمات روحية. كما أن الكثير من الطرق الصّوفية قامت بدور هام في ميدان الجّهاد، وطرد المستعمر، وحماية ثغور الوطن، وساهمت في خدمة المجتمع، وذلك عن طريق الكرم والإنفاق والإحسان. زد على ذلك، أنّ التّصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجيا؛ لأنّه يحرّر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية، ويخرجه من عزلته الاجتماعية، ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.
وما أشد حاجتنا اليوم إلى تصوف معاصر يساير الحداثة، ويواكب التقدم العلمي والتقني والفني! تصوّف ينخرط في المجتمع انخراطا حقيقيّا، وذلك عن طريق تقديم مقاربات أخلاقيّة ونفسيّة وروحيّة، تعالج كل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ولاسيما أن أزمتنا المعاصرة هي أزمة ضمير وأخلاق، وتردّي القيم الأصيلة، وانحطاط الإنسان كينونة ووجودا وقيمة.
وهكذا، فقد ناقش الفكر الإسلامي مجموعة من الحقائق الكبرى ، لكن تبقى الحقيقة الربانية (التوحيد) أهم هذه الحقائق وأسماها، فقد وجدناها مطروحة عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة. بيد أن ثمة حقائق أخرى قد تم مناقضتها في  حقل الفكر الإسلامي كمسألة العقل والنقل، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة التأويل بين الحرفي والمجازي، ومسأالة التوفيق بين الشرع والحكمة، ناهيك عن مناقشة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والميتافيزيقية التي طرحتها الفلسفة اليونانية من جهة، والواقع العربي الإسلامي من جهة أخرى.
ونخلص من كل هذا أن الفلاسفة والعلماء المسلمين قد انشغلوا بحقيقتين مترابطتين أو متلازمتين: الحقيقة الميتافيزيقية التوقيفية التي نوقشت في ضوء الدّين والمنطق الافتراضي الصوري، والحقيقة العلمية التوفيقية التي نوقشت في ضوء مناهج الاستقراء والاستنباط والتجريب. وهناك حقيقة ثالثة وسيطيّة اهتم بها الفقهاء وعلماء اللّغة والأدب، ونسمّيها الحقيقة البيانيّة التي نوقشت في ضوء الرّواية والتقعيد والاستنباط والاجتهاد..
الهوامش
(1) انظر محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل، مطبعة نداكوم للصحافة والطباعة، الطبعة الأولى،2000م، ص:210.
(2) أبو نصر السراج الطوسي: اللمع، تحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد القادر، مطبعة المثنى ببغداد ودار الكتب الحديثة بالقاهرة، 1960، ص:43.
(3) الدكتور عابد الجابري: بنية العقل العربي،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،الطبعة 1، 1986م، ص:311.
(4) ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر، بيروت، لبنان، ص:473.
(5) عبد الرحمن بدوي: شطحات الصوفية،ص:28.
(6) عابد الجابري: نفسه، ص:311.
-------
-  أستاذ التعليم العالي (المغرب).
hamdaouidocteur@gmail.com