قبل الوداع

بقلم
يسري بن ساسي
السياسي المصلح
 برغم ما أسقطته ما يسمى بالثورات العربية من رموز أنظمة مستبدة -وهي لا تعدو أن تمثل طبعا إلا واحد في المائة من جملتها– وبرغم ما تحتاجه الخطوة القادمة من تكاتف كل مكونات المجتمع  من أجل البناء والإصلاح وهي مما لا يخفى على عاقل الخطوة الأدق والأكثر حساسية .. فمن السهل أن تجتمع أياد سجينة أيا كان منبعها على هدم سجنها ولكن ليس يسيرا حتما أن تجتمع من أجل بناء واحد إلا بشرط أن يوحدها هو من جديد..
برغم -كما أسلفت الذكر-ما يستدعيه الصعود درجة بعد في سلم الرقي المتكامل، لازلنا نلمس في المواطن العربي تراخيا إن لم نقل استسلاما في تحديد مصيره وسواء كان مدركا لخطورة ذلك أو غير مدرك فالنتيجة في النهاية واحدة ويتشعب الأمر أكثر إذا كانت الأيادي الخارجية تسعى كما في كل مرة أن تدير هي في النهاية عجلة السفينة إلى الاتجاه الذي يخدم مصالحها بالدرجة الأولى ..أما المواطن وقد زهد من قبل قسرا في السياسية فقد زهد فيها من بعد طوعا ...هناك ربما نسبة من المواطنين الذين بدافع أو بآخر صاروا روادا للاجتماعات والنقاشات والمؤتمرات، يتابعون عن قرب وعن كثب مختلف الأنشطة السياسية ولكنها ليست تذكر أمام ما يتطلبه المضي إلى الأمام من تحفيز للوعي والمسؤولية أكثر من مجرد تحفيز للأصوات..
و إنه لمن المؤسف أن لا تسمع في معظم الأحيان حديثا في الأماكن العامة إلا أن الاحزاب كلها مثل بعضها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال لا تسعى إلا  إلى السلطة والمناصب ولا يهمها شأن المواطن الذي يشقى ليلا نهارا في سبيل معيشة ازدادت أثمانها تهورا وخدمات ازدادت قيمتها تدهورا ..وستزيد القطيعة بين رجل السياسة والمواطن الأمور تحجرا..ويعزو الغالبية ذلك إلى انعدام الثقة بين الطرفين فالمواطن لا يثق برجل السياسة ورجل السياسة أيضا لا يثق في المواطن..والصورة التي تشكلت في ذهن هذا الأخير عن السياسة ولازالت إلى الآن معالمها واضحة أنها اقتناص فرص واصطياد في الماء العكر وكذب  ولؤم ووعود زائفة وانتهازية ليس إلا ..
كما أن المواطن قد ينتصر لاتجاه سياسي معين من أجل مصالحه الشخصية الضيقة فحسب وبمجرد أن توضع هذه الأخيرة في الميزان سيكون أول المفرطين وإننا لنرى أنه من المعقول أن تبنى العلاقة على المصالح المشتركة مع كل المواطنين لا مع فئة معينة بعينها إذا رام كل اتجاه أن يجد كل مواطن نفسه فيه وتاق المواطن إلى اتجاه يجمع الكل مع أن ذلك قد يبدو صعبا واقعا ولكن هناك على الأقل مقومات لابد أن يحاول كل طرف الاخذ بها إذا أردنا مصالحة حقيقية وإصلاحا جذريا..أهمها في رأيي هي الأخلاق ..
قد أصدم القارئ بقولي هذا ..قد يرى أن السياسة والأخلاق لا يجتمعان ..لكني حينها سأسأله وأسأل نفسي والإصلاح واللأخلاق، هل يجتمعان؟ ..فنحن متلهّفون إلى إصلاح شامل للمجتمع لا في زاوية بعينها دون أخرى وإن كانت تلك رغبتنا بلا أخلاق إلى أين سنسير ..تلك الأخلاق الانسانية هي التي عليها سيصمد أي بناء وستنجح أي علاقة ..لسنا في المدينة الفاضلة نعم وليس الانسان ملاكا ولكن تتنازعه قيم الخير والشر دائما فلنحاول دفعها إلى جانب الخير دوما  بدل الركون والاستسلام لقولة «هوبز» الانسان ذئب لأخيه الانسان..
بالعكس  إنني لأجد أنه من الأهم القول بأن العقل الانساني مليئ بالتناقضات ونجاحه مرهون بمدى حله لهذه التناقضات ..إنه يطالب بالقضاء على الفساد والسرقة والرشو ة والاستبداد وإقامة العدالة والمساواة ولكن في الآن ذاته لا يرى بدا من ربط السياسة بالاخلاق بل قد يعتبر ذلك نكتة وينسى أن الأخلاق هي ذلك وأكثر ..هل يماطل العقل العقل لست أدري..ربما لا يلام فالتاريخ باستثناء الانبياء والرسل، قلّما جاد برجال الاخلاق والسياسة معا ولكنه كم جاد بالسّاسة المستبدّين بل الجزّارين حتى أغشوا البصائر بظلماتهم عن أنوار من خالفوهم النهج..
رجل السياسة اليوم مطالب أن يحذو حذو من كان يسبقه خلقه العادل قبل سيفه العاجل إذا كانت نيته صادقة وعزائمه بادية في حل القطيعة بينه وبين المواطن كما على المواطن أن يكون مستعدا أيضا للمساهمة في البناء ويخلع عنه سلبيته وريبته ..إنّ أيّ مشروع أو برنامج سياسي لا يكون أساسه احترام الأخلاق الانسانية قولا وتطبيقا لن يرقى بالانسان في مختلف أبعاده وسيحكم عليه بالتّردي في جانب من جوانبه أو في أكثر من جانب .. 
والشعوب العربية تشهد ما تشهده اليوم، نقول أنه من باب أولى وقد قال الله تعالَى لنبيٌه المُصطفى صلٌى الله عليهِ «وإنك لعلى خلق عظيم»، أن يقطع رجل السّياسة العربي اليوم مع نماذج عربية أو عالمية سوّدت وجه السّياسة لدى المواطن وكرّهته فيها حتى كاد يغدو في حلّ من شأن وطنه..الأمر ليس سيغا والحمل ليس هينا لكننا نأمل الخير في شعوبنا..
-------
- كاتبة تونسيّة
docyosra@hotmail.fr