دمتم سالمين

بقلم
عبدالنّبي العوني
في رحاب آيات من الذكر الحكيم
 *(1)*
«يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» النساء: 135
قال الشيخ بن عاشور حولها: «...إن قمّة القِسط - إذن - هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمّة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائداً في كل تصرفاته. وإيّاك أن تجعل القسط أمراً أو حدثاً يقع مرّة وينتهي، وإلاّ لما قال الحقّ مع إخوانك المؤمنين....ولم يقل الحقّ لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال «كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ» أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسّلوك العادل. فنحن نقول: «فلان قائم» و «فلان قَوَّام». ونعرف أن كلمة «قَوَّام»هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرّة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضاً الأقساط هي العدل....» و ممّا قال سيد قطب عنها :«....يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشّاقة، التي تتكلّفها إقامة العدل على هذا النّحو. وفي النّفس البشريّة ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب؛ وتجاه الضّعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضاً. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني؛ تجاه المودّة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرّد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق. جهاد للصّعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله....»
*(2)*
{ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } النساء: 148.
قال فيها سيد قطب:«...إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسيّة. وربّ كلمة عابرة لا يحسب قائلها حساباً لما وراءها؛ وربّ شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فرداً من النّاس.. ولكن هذه وتلك تترك في نفسيّة المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوّه آثاراً مدمّرة؛ وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة.
والجهر بالسّوء من القول - في أيّة صورة من صوره - سهل على اللّسان ما لم يكن هناك تحرّج في الضمير وتقوى لله. وشيوع هذا السوء كثيراً ما يترك آثاراً عميقة في ضمير المجتمع.. كثيراً ما يدمّر الثّقة المتبادلة في هذا المجتمع فيخيّل إلى النّاس أن الشّر قد صار غالباً. وكثيراً ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسّوء، ولكنّهم يتحرجون منه، أن يفعلوه لأنّ السّوء قد أصبح ديدن المجتمع الشّائع فيه، فلا تحرّج إذن ولا تقيّة، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيراً ما يذهب ببشاعة السّوء بطول الألفة. فالإنسان يستقبح السّوء أوّل مرّة بشدّة؛ حتّى إذا تكرّر وقوعه أو تكرّر ذكره، خفت حدّة استقباحه والاشمئزاز منه؛ وسهل على النّفوس أن تسمع - بل أن ترى - ولا تثور للتّغيير على المنكر....» وقال الطنطاوي في تفسيره لها: «...والقول بالسّوء: هو الذى يسوء من يقال فيه ويؤذيه فى شرفه، أو عرضه أو غير ذلك مما يلحق به شرا.
والمعنى: لا يحبّ الله - تعالى - لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال السّيئة أو الأفعال السّيئة، إلاّ من وقع عليه الظّلم فإنّه يجوز له أن يجهر بالسّوء من القول فى الحدود التى تمكّنه من رفع الظّلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، كأن يجهر الخصم بما ارتكبه خصمه فى حقّه من مآثم. وكأن يذكر المظلوم الظالم بالقول السئ فى المجالس العامّة والخاصّة متحرّيا البعد عن الكذب والبهتان...».
... ودمتم سالمين
-------
-  أستاذ وباحث
ouni_a@yahoo.fr